فضاء الرأي

قيادات الألفية الثالثة، ودبلوماسية المستقبل (2)

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان

لاحظنا في الجزء الأول من المقال كيف ضاعت الخيرات الطبيعية للبشرية بين صراعات انفعالية أدت لحربيين عالميتين في الجزء ألأول من القرن العشرين، وانتهت بانهيار النظام الشيوعي السوفيتي مع نهاية القرن. وما أن طلع علينا شمس القرن الحادي والعشرين، وإذا بأزمة جشع عالمية، أدت لقرب انهيار النظام الرأسمالي العالمي، وأحتاج إنقاذه لتريليونات من الدولارات، ليؤدي كل ذلك لارتفاع نسب الديون الغربية بشكل غير مسبوق، لتقرر حكوماتها التقشف الشديد. وقد أدت هذه التراكمات لانتفاضة عولمة ستغير عالم القرن الحادي والعشرين. وقد أنذر زعماء العالم لهذه الإرهاصات سابقا، ومنذ بدايات القرن المنصرم، فقد كرر الرئيس الأمريكي، ودرو وليسون، بأن: "النظام العالمي يجب ان يعتمد على قرار تحدد كل دولة مصيرها، لا على الفكرة البائدة، لتوازن القوى العالمية"، التي لم تؤدي إلا لمعاناة الإنسان وحروب القرن العشرين الدموية. كما أكد الرئيس الأمريكي، جون كندي، بان : "القوة الأكثر فاعلية اليوم ليست الشيوعية، ولا الرأسمالية، ولا حتى الصورايخ العابرة للقارات، بل هي الرغبة الأبدية للإنسان أن يكون حرا، والعدو الأكبر لأي نظام اليوم هي الدكتاتورية والامبريالية. وتحدي السياسة الخارجية الأمريكية هي كيفية معالجة هذه التحديات."
ولنتذكر عزيزي القارئ كمية الأموال التي هدرت، وسعادة الشعوب التي فقدت، بتكرر حروب القرن العشرين، والذي اعتبرته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، مادلين البرايت، بأنه "من أكثر القرون دموية في تاريخ البشرية." ويبقى السؤال: هل هناك طريقة أفضل لتواصل الدول مع بعضها لمعالجة تحديات العولمة؟ وهل ممكن تحويل الصراعات الدولية لفرص بناء وتطوير مشتركة؟ وهل نحتاج لدبلوماسية جديدة في الألفية الثالثة؟ وكيف ستختار دبلوماسيي المستقبل؟ وما هي المميزات المطلوبة توفرها فيهم؟ وما نوع التعليم والتدريب الذي سيحتاجونه ليتعاملوا مع تحديات العولمة القادمة؟ وهل سيحتاج كل ذلك لطريقة تفكير جديدة؟
تعتقد وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، مادلين أولبرايت، بأن: "الدبلوماسي يحتاج لضمير القساوسة، وحكمة الفلاسفة، ونبوءة الرسل"، وبأن: "الدبلوماسية هي فن الإقناع، لنشجع الآخرين، أن يفعلوا ما نتمناه، وتحتاج لمزيج من الواقعية والمثالية، تتوسطهما الأخلاقيات." فقد أكدت دراسة التاريخ بأن: "لا أحد يأكل من شجرة اللاأخلاقيات بحصانة"، كما قالها صديق بسمارك، فون رون، بعد أن راقب تجربة صديقة في توحيد ألمانيا. وقد عبر عن ذلك وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، هنري كسينجر، بقوله: "لقد بذر بسمارك ليس فقط الأهداف الإستراتيجية لبلاده، بل أيضا مأساتها في القرن العشرين." لذلك يحتاج دبلوماسيو الألفية الثالثة لذكاء فكري، يستطيعون به جمع المعطيات اللازمة للتعامل مع الأزمات الدولية، كما عليهم معرفة الطريقة الصحيحة لجمع هذه المعلومات، لكي يقوموا بدراستها وتحليلها، لينتهوا بقرار يساعد على التعامل مع الأزمات، ليقلل من خسائرها، ويزيد من مصالحها لبلدانهم، والبلدان المرتبطة بهذه الأزمة.
ولنتذكر أيضا بأنه حينما يكون هناك خلاف علينا أن نتهيأ لفوز الطرفين المختلفين، وبأن الرعونة الانفعالية لن تفيد في الألفية الثالثة، للتعامل مع الأطراف الضعيفة، لتوفر تكنولوجية الهجوم الصغيرة والحديثة، التي قوت الضعفاء في الأعلام الالكتروني الاجتماعي، وعززت مقاومتهم في المواجهات العسكرية، حيث يمكنهم الانتشار بين السكان لشل حركة العساكر النظامية. كما أن ماسي القرن العشرين بحروبها العالمية الساخنة والباردة، والتي لم ينتصر فيها أحد، بل أنهزم البعض في القرن العشرين، بينما تأخر هزيمة البعض الآخر للقرن الحادي والعشرين. فمع أن اليابان وألمانيا انهزمتا في القرن العشرين، استطاعت هاتان الدولتان تحويل الهزيمة لانتصار في القرن الحادي والعشرين، بالاستفادة من دراسة أخطاء الهزيمة ورعونتها، والعمل بجهد وإخلاص وحكمة، لخلق المستقبل، بينما استمر الحليف المنتصر في رعونته بخلق حروب متكررة، ولينتهي اليوم بالإفلاس، وأزمة الديون.
كما أن الذكاء العاطفي مهم جدا في دبلوماسية الألفية الثالثة، وهو غريزة الإحساس، والتواصل، والتعرف، والتذكر، والتعلم، والتعامل مع العواطف، للاستفادة منها في تحويل الخلافات لفرص نجاح مستقبلية للطرفين المتنازعين، وقد عبر الفيلسوف اليوناني أرسطو عن السيطرة على الانفعالات والعواطف بقوله: "أي منا ممكن أن يغضب، فذلك سهل جدا، ولكن أن نغضب مع الشخص الصحيح، وبدرجة صحيحة، وفي الوقت المناسب، ولهدف حقيقي، وبطريقة صحيحة، ذلك ليس سهلا." ويبقى السؤال: هل سنحتاج أيضا لطريقة تفكير جديدة؟ أليست ماسي البشرية في القرن العشرين، نتيجة تفكير أعوج؟ وقد حاول البروفيسور ادوارد ديبونو، أستاذ علم التفكير بجامعات هارفارد، وستانفورد، وأكسفورد، وكامبريدج، بالإجابة على هذا السؤال بتوجيه أسئلة أضافية، فقال: "هل يجب أن تكون طريقة تفكيرنا طريقة إقصائية، أم طريقة وضع احتمالات، ودراسة كل منها، بعقل منفتح، وبدون أحكام مسبقة؟ وهل يجب أن تكون طريقة تفكيرنا المستقبلية مرتبطة بالدراسة لاكتشاف الحقيقة، أم العمل لتصميم إبداعات جديدة؟ ولماذا نضيع الوقت الكثير لاكتشاف الحقيقة؟ وما هي الحقيقة التي نبحث عتها؟ وكيف نعرف بأننا وجدناها؟ ولماذا نعتقد أصلا هناك حقيقة يمكن أن نجدها؟ وهل سبب فشل تعاملنا مع المعضلات العالمية مرتبطة بطريقة غير متكاملة من التفكير؟"
وهنا علينا أن نتذكر الحكمة الأسيوية: "الحياة هي البحث عن الحقيقة، ولكن في الواقع ليس هناك حقائق، بل أن جميعها احتمالات متناقضة." كما يقترح البروفيسور ادوارد ديبونو طريقة جديدة للتفكير، وهي طريقة التفكير المتوازي، أي أن نضع الأفكار والآراء المختلفة، بجنب بعضها البعض، ونقيمها، بطريقة مبدعة، وبدون أحكام مسبقة. كما نحتاج لتطوير التعليم، ليكون وسيلة للتعامل مع تحديات القرن الحادي والعشرين، كما قالها البروفيسور اون ستج تان بأن: "يرتبط تعليم القرن الحادي والعشرين بالتعامل مع تحديات عالم حقيقية، معقدة، متشابكة، ونحتاج لتعليم يعتمد على التعامل مع المعضلات لمعالجتها، باحتضان الذكاء ضمن الأفراد، والمجموعات، والبيئة، للتعامل مع الأزمات بطريقة مرتبطة بالمجتمع بواقعية مناسبة."
كما أن المهنية مهمة في العمل الدبلوماسي، والتي تتميز بالجمع بين الصفات القيادية، والمسئولية، والمحاسبة، والتميز، والاضطلاع الواسع، والثقافة العالية، والاحترام الإنساني للآخرين، مهما كانت درجتهم، ومسئولياتهم، بالإضافة لتوفر نفسية تجمع بين القدرة المتميزة في التواصل، والتعاطف، والشرف، والأخلاقيات السوية، والاستقامة ، والغيرية، أي حب الغير، بأن تحب لغيرك ما تحب لنفسك، وأن تحب لبلد الآخرين، ما تحبه لبلدك. ومع انتشار الديمقراطية في وطننا العربي، علينا أن تذكر بأن على القيادات أن تكون مستعدة لمخالفة الرأي الشعبي، فالقيادة الحقيقة تستطيع أن تنير الرأي الشعبي، حينما يكون مخطئتا، كما أكدها الرئيس الأمريكي جورج واشنطون. كما علينا تذكر حكمة فيلسوف الحروب الصيني، صان تسو، في قوله بأن: "القوة العسكرية تكون متميزة، حينما نستطيع أن نحقق أهدافنا، بدون استخدامها."
وليسمح لي عزيزي القارئ بإنهاء المقال، بمقولتين، أحداهما لبروفيسور الاقتصاد والفلسفة بجامعة هارفارد، امارتيا سن، يقول فيها: "توردت حضارات العالم حينما استعارت الأفكار، والإبداعات، والاختراعات من جميع أنحاء العالم." ومقولة نظرية الارتقاء والتطور، بأن: "الأجناس الأقوى ليست هي التي تستمر في الحياة، فالديناصورات القوية انقرضت، ولا حتى الأجناس الأذكاء، فالإمبراطورية البريطانية انهارت، بل الأجناس التي تتلاءم مع التغيرات المحيطة بها." ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ستعتبر قيادات الأنظمة العالمية من انتفاضة العولمة، لتصلح أوضاع بلادها، قبل أن تقوم نظرية التطور والارتقاء بتغيرهم؟

سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف