الخوف من الحرية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يقدم لنا اريش فروم عالم النفس الاجتماعي الألماني واحد رواد مدرسة فرانكفورت النقدية الأوائل في كتابه المشهور والهام "الخوف من الحرية" الذي صدر عام 1942 تفسيرا لنمطي " الشخصية المتسلطة " و "الشخصية الخاضعة" او بتعبير فروم " الشخصية السادية" و " الشخصية المازوشية" وكذلك تحليلا للظروف الذاتية والموضوعية التي تنشأ فيها والآليات التي تدفعها وتهيمن بموجبها والتي توحي في ادائها وكذلك في قدرتها على التعبئة والتأثير واستغلال الميل الى الخضوع الذي يساعد على ظهور المستبد والدكتاتور.وتجد نزعة الخضوع تعبيراتها في العلاقة القائمة بين الفرد والسلطة، وبين الأنا والآخر، وبخاصة في ممارسة الاستبداد والتسلط من قبل ذوي النزعة الابوية ـ البطريركية التي تظهر في البنى المجتمعية الذكورية كما في العائلة والقبيلة والسلطة الشمولية وكذلك في المجتمع، حيث تشكل علاقة هرمية تقوم على ثنائية التسلط والخضوع من الاعلى الى الاسفل، وهو ما يدفع بالضرورة الى سيطرة الكبير على الصغير والقوي على الضعيف ويؤدي في كثير من الاحيان الى انقسام الشخصية: واحدة متسلطة قمعية واخرى خاضعة نكوصية، تشل قدرات الفرد الذاتية. ان وجود شخصية متسلطة مقابل شخصية خاضعة تنتج بالضرورة من التناقض في طرائق التفكير والعمل والسلوك وترتبط بالحرية والاستقلالية الفردية والاعتراف بالاخر كند، وكذلك بقدرة الافراد على التصرف "كذوات فاعلة" وليس "كعناصر" مستهلكة فقط تقف متفرجة خارج الحقل السياسي.
لقد ربط اريش فروم الخوف من الحرية بالنزعة السادية التي تدفع الى التسلط وبالنزعة المازوشية التي تدفع الى الخضوع، منطلقا من تطورمفهوم الحرية المتداول اليوم عبر التاريخ. فهو يبحث في مقدماتها النفسية والاجتماعية وامكانيات تحقيقها ومخاطرها وكذلك في نشأتها وتطورها منذ ان كان الانسان فردا بدائيا مرورا بالعصور الوسطى وعصر النهضة حتى العصر الحديث.
ان ضرورة التفرد لم تقد بكل تأكيد الى تحرر الفرد. فالحرية الحديثة مكنت البشر من ان يكونوا مستقلين وعقلانيين من جهة، ولكنها جعلتهم قلقين وبلا حول ولا قوة من جهة اخرى. وهناك عدة عوامل داخلية تلعب دورا هاما في تقييم فروم لحرية الانسان الحديث. فهو يرى في الحياة العملية للانسان الحديث عقبات، ولكن في ذات الوقت، امامه فرص عديدة تجعله حرا. وهو يميز اساسا بين امكانيتين من ردود الفعل البشرية على وضعية الحرية، الاولى منتجة، فالانسان يستطيع ان يكون حرا بواسطة التعاون والتضامن الفعال مع الآخرين من خلال الفعاليات العضوية والحب والعمل وان يكون فردا مستقلاأ، ولكن عندما لا تكون هناك ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية مناسبة لتحقيق الفردانية او التفرد فقد تختفي بالتدريج ضمانات الشروط الممكنة وتتحول الحرية الى ثقل لا يمكن احتماله. وفي هذه الحالة يحدث عدم توافق وانسجام مع الحرية وهروب مخرب وهدام منها.
ويضع فروم امكانية ثانية او خيار آخر يعبر عنه بـ " أن نتملك او نكون؟ ". ويعني بذلك ان وجود الانسان لا يكون على أساس ما يمتلكه الفرد، وانما على أساس ما يكون عليه، أي على أساس امكانيته في التعبير عن الذات والعلاقة مع الاخر والفعاليات والنشاطات التي يقوم بها ومدى التعاون والمشاركة وتقديم التضحية من اجل الاخرين للتخلص من النرجسية والانانية وتقديم الحب والتعاون واحترام الحياة. وهنا تكون "الكينونة" نقيض التملك، وهو ما يعطي للحياة معنى وقيمة عالية. وهو الجواب الحاسم على أزمة الحضارة المعاصرة والخيار الذي يقودنا الى الحرية.
في دراسته المعمقة حول علاقة الطاغية بشعبه خلال فترة النازية في المانيا، اعتبر هتلر(1889-1945) شخصية سادية متسلطة هدفها السيطرة على الآخرين، أبتدأت بالمحيطين به وبالشعب الالماني وانتهت بالسيطرة على الشعوب الاوربية. واذا كان هتلر يحب الشعب الالماني ومعجب بتاريخه وحضارته، فهو في ذات الوقت، يحتقره ويدمره، لان شخصيته لا تستطيع الحياة من دون موضوع يمارس عليه سيطرته وتسلطه وفي الوقت ذاته سحقه واذلاله. يقول هتلر ، بأن" الجماهير تريد انتصار الاقوى وخضوع الاضعف واستسلامه وسحقه بدون شروط". وان " الجماهير كالمرأة، رغبتها ان تخضع الى رجل قوي وليس الى ضعيف، ولهذا فهي تحب الحاكم القوي لا الحاكم الضعيف الخاضع المتوسل، وهي في اعماقها اكثر اقتناعا بمن لا يتسامح مع الخصوم وليس بمن يمنحها الحرية، لأنها سوف تشعر بالضياع في تعاملها مع الحرية، بل وتشعر بأنها وحيدة ومهجورة". كما اعتقد هتلر، مثل غيره من الطغاة، بأن القائد قادر على الاستحواذ على ارادة الجماهير، بل وتحطيم هذه الارادة، لأنها بين يدي "القائد " اشبه بقطع الشطرنج، فهو يحركها كيفما يشاء واينما يريد.
وفي الحقيقة، فان محور نظرية فروم هو الانسان، الذي كلما يحصل على الحرية، كلما يرتفع بنفسه على وحدته مع الطبيعة. وكلما تصبح للانسان شخصية فانه يبدأ بالبحث من خلالها عن خيارات عديدة: اما التوحد مع العالم واختيار الحب والعمل النافع، او البحث عن نوع آخر من الارتباط الذي يفقد به حريته وكذلك فرديته ذاتها.
كما ارجع فروم الامراض النفسية وخاصة العصاب الى نوع معين من العلاقات التي تربط بين الافراد بعضهم ببعض، كالسادية والمازوشية، التي لا يمكن اعتبارها ظواهر جنسية فقط، وانما هي محاولات تساعد المرء على الهرب من الوحدة غير المحتملة والشعور بالعجز والنكوص وعدم الاقتدار، مؤكدا على اهمية التغيرات الاقتصادية وضرورتها للكشف عن اغتراب الحرية ومحاولة اعادتها الى ما كانت عليه. وعندما يتحدث فروم عن الحرية تقابلنا تصورات مختلفة. فعندما بدأ الانسان بامتلاك الوعي بذاته اخذ يسيطر على الطبيعة ويخضعها لمشيئته واشباع حاجاته المتزايدة، ولكنه حاول في ذات الوقت، تطوير علاقاته معها، بسبب خوفه من ظواهرها الخارقة التي لم يستطع ايجاد تفسير لها فعمد الى استرضائها عن طريق الشعائر والطقوس التي يتقرب بها الى تلك الظواهر الطبيعية، كالشمس والقمر والاعاصير وغيرها من الظواهر الطبيعية. وبعد تطور العلوم والتكنولوجيا الحديثة تغيرت العلاقة بين الانسان والطبيعة، بعد ان استطاع الانسان السيطرة على اجزاء كبيرة منها وتذليلها، وجعل المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بديلا للعلاقة القديمة معها. وبهذا نشأ نوعان من العلاقات مع الطبيعة: علاقات بناءة واخرى هدامة.
وتتمثل العلاقات البناءة بين الانسان والطبيعة او مع العالم الخارجي بالتلقائية التي لم تستأصل فرديته، وذلك عن طريق التعبير عن قدرات الانسان العقلية والعاطفية والحسية من خلال الحب والعمل والتعاون، الذي يعيد اتحاده مع الطبيعة ومع ذاته دون ان يتنازل عن استقلاليته وتكامله. اما العلاقة الهدامة فتتمثل بالسيطرة على الآخر او الخضوع له، حيث يصبح مغتربا عن مجتمعه الذي انتجه بنفسه. ويشير فروم الى ان الخضوع هواستلاب وهو حل نكوصي وهروب من الواقع وذلك بسبب الشعور بالعزلة والعجز والاحباط، وهو حل يتميز بطابع قسري اضطراري يتنازل فيه الفرد بشكل او آخر عن فرديته وتكامله.
يرى فروم بان الفرد الذي يخاف الحرية يشعر بالعجز فينكر فرديته ولا يريد ان يكون حرا، وذلك لان الحرية عنده تعني وقوفه منفردا ووحيدا في مواجهة العالم، فلا يجد امامه من مخرج سوى الهرب من الحرية والتخلي عن الاستقلالية الذاتية واضطراره الى الخضوع الى الاقوى للحصول على القوة التي يفتقدها.
ويعرف فروم الرغبة في التسلط بالنزعة السادية والميل الى الخضوع بالنزعة المازوشية
الموجودتان بدرجات متفاوته في الاشخاص الاسوياء وغير الاسوياء على حد سواء.فالسادية والمازوشية هما سلوكان مكتسبان من المجتمع عن طريق التعلم خلال طرق التنشئة الاجتماعية في البيت والمدرسة وكذلك في الشارع والعمل والوظائف والمؤسسات المختلفة. وغالبا ما تكون الرغبة اليهما غير واعية في البداية، ولكنها تتحول بالتدريج الى ان تكون واعية وعقلانية.
هذه الظواهر غير الطبيعية نلاحظها في المجتمعات الشمولية التي يسيطر عليها فرد مستبد لمدة طويلة، حيث تظهر حالة سايكولوجيةـ ثقافية معقدة تتمثل بهاجس خوف مركب يستولي على نفوس الافراد، كما حدث في المانيا النازية ايام هتلر وفي العراق ايام صدام حسين او ليبيا ايام القذافي. وغيرهما. فالكائن الانساني يتحول الى فرد يخاف فرديته ويخاف استقلاليته التي تضعه في مواجهة قدره وحيدا دون اية مساعدة، ولذلك لا يمكنه تقبل الحرية ببساطة، بل ويهرب منها.
ويظهر العامل الحاسم في ممارسة السادية والمازوشية في علاقة السلطة بالمواطنين وكذلك بنوعية السلطة وممارستها للقوة، فيما اذا كانت تطبق كضرورة اجتماعية من اجل تحقيق العدالة بين المواطنين، او اذا كانت تستخدم من اجل الهيمنة والتسلط بالعنف والقسوة. ففي العراق كانت العلاقة بين السلطة والمواطنين وما زالت علاقة استبداد وتسلط واكراه، ومارست اغلب السلطات شتى اساليب الهيمنة، وبخاصة في العقود الثلاثة الاخيرة من اجل اخضاع المواطنين لسلطة الاقوى وليس الاعدل للاقرار بشرعيتها.
ان الخوف من الحرية والهروب منها يعني الميل الى التخلي عن الاستقلال الذاتي للفرد والاندماج في شخص آخر للحصول منه على القوة التي يفتقدها او يشعر انه لا يمتلكها. وهذه الآلية هي نتاج خطاب ثقافي قمعي وسلوك سياسي لاعقلاني، اضافة الى المعوقات الذاتية التي تتمثل بآليات التفكيرالسلبية المتخلفة والقيم التقليدية الراسخة التي لا تنفصل عن بنية النظام الاجتماعي ـ السياسي ـ الشمولي الذي يمسخ ذات الانسان الحرة المستقلة ويجعلها مغتربة.
التعليقات
لاحريات إلاّ في الإسلام
alaa shemmeri -مظاهرات بلا شروط وبلا قيود! هل تجدون اليوم عند الحكومات التي تدّعي بوجود الحرّية في البلدان التي تحكمها أنّها تسمح لشعوبها بالمظاهرات بدون شروط وحدود.أمّا الإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب وقبل 1400 سنة قد سمح بالتظاهر ضدّه بدون أيّة قيود أو شروط، ومنها ما في القصّة المعروفة التالية:قال الإمام الصادق عليه السلام: «لمّا قدم أميرالمؤمنين عليه السلام الكوفة أمر الحسن بن علي عليهما السلام أن ينادي في الناس لا صلاة (صلاة النافلةأو ماتسمى بالتراويح) في شهر رمضان في المساجد جماعة، فنادى في الناس الحسن بن علي عليه السلام بما أمره به أميرالمؤمنين عليهالسلام فلمّا سمع الناس مقالة الحسن بن علي صاحوا: واعمراه واعمراه، فلمّا رجع الحسن إلى أميرالمؤمنين عليه السلام قال له: ما هذا الصوت؟ فقال: ياأميرالمؤمنين الناس يصيحون: واعمراه واعمراه، فقال أميرالمؤمنين: قل لهم صلّوا» .إنّ الذين اعترضوا على أميرالمؤمنين لم يكونوا يمثّلون نسبة واحد بالألف من مجتمع الكوفة ولكن على رغم ذلك سمح لهم الإمام بالتظاهر والإعتراض وأمر بتركهم على ما يريدون. فهل تجدون نظير هذا في الدول المتحضّرة والتي تدّعي بالحرّية؟
رائع كعادتك
عراقي -ان ما يعوزنا في هذه الايام هو فهم عميق للانسان وتعليل لتصرفات الجماهير والطغاة على حد سواء, وانت يا ايها الحيدري الرائع تنقل لنا بحوث ونظريات اساطين الفلسفة وعلم النفس , و بصراحة لولاك ولولا امثالك لما سمع بهم وبنظرياتهم الكثير من الناس , فشكرا لك .
لاحريات إلاّ في الإسلام
alaa shemmeri -مظاهرات بلا شروط وبلا قيود! هل تجدون اليوم عند الحكومات التي تدّعي بوجود الحرّية في البلدان التي تحكمها أنّها تسمح لشعوبها بالمظاهرات بدون شروط وحدود.أمّا الإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب وقبل 1400 سنة قد سمح بالتظاهر ضدّه بدون أيّة قيود أو شروط، ومنها ما في القصّة المعروفة التالية:قال الإمام الصادق عليه السلام: «لمّا قدم أميرالمؤمنين عليه السلام الكوفة أمر الحسن بن علي عليهما السلام أن ينادي في الناس لا صلاة (صلاة النافلةأو ماتسمى بالتراويح) في شهر رمضان في المساجد جماعة، فنادى في الناس الحسن بن علي عليه السلام بما أمره به أميرالمؤمنين عليهالسلام فلمّا سمع الناس مقالة الحسن بن علي صاحوا: واعمراه واعمراه، فلمّا رجع الحسن إلى أميرالمؤمنين عليه السلام قال له: ما هذا الصوت؟ فقال: ياأميرالمؤمنين الناس يصيحون: واعمراه واعمراه، فقال أميرالمؤمنين: قل لهم صلّوا» .إنّ الذين اعترضوا على أميرالمؤمنين لم يكونوا يمثّلون نسبة واحد بالألف من مجتمع الكوفة ولكن على رغم ذلك سمح لهم الإمام بالتظاهر والإعتراض وأمر بتركهم على ما يريدون. فهل تجدون نظير هذا في الدول المتحضّرة والتي تدّعي بالحرّية؟