مرض الكلفة والرعاية الصحية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
كان متوسط عمر الإنسان في الغرب عام 1865 حوالي 45 سنة، ومع التقدم المجتمعي، والتحسن الغذائي، والتطورات الصحية، والاختراعات التكنولوجية، أرتفع هذا الرقم في عام 1900 إلى 60 سنة، ويصل اليوم في المجتمعات الغربية لحوالي 84 سنة، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 95 سنة في عام 2040. وطبعا ستختلف هذه الأرقام بين الدول والأفراد حسب تعاملهم مع التحديات الحياتية، ومدى صحة أكلهم، وتجنبهم التدخين والكحوليات، ومدى اهتمامهم بالرياضة، ودرجة جشعهم على الماديات، وزيادة ارتباطهم بالأخلاقيات الروحية، ومدى سيطرتهم على عواطفهم لمنع القلق وأمراضه القاتلة، كجلطة القلب والسكتة الدماغية والسرطان.
وقد ترافقت هذه الانجازات الطبية بزيادة مقلقة لكلفة الرعاية الصحية. فقد ارتفعت مصاريف الرعاية الصحية في الولايات المتحدة في عام 2011 إلى 18% من الناتج المحلي الاجمالي، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم مع نهاية هذا القرن لحوالي 60%. وقد أصبحت هذه الكلفة مقلقة جدا لاقتصاديات دول الغرب، وخاصة بعض الأزمة المالية لعام 2010، لذلك خصصت مجلة دي ايكونوميست في عددها الصادر في يوم 29 من شهر سبتمبر الماضي مقالا لمناقشة هذا الموضوع وأسمته بمرض الكلفة الذي لا شفاء له. وبدأت المجلة مقالها بالقول: "تتزايد كلفة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة بسرعة مقلقة. فبينما كانت هذه الكلفة في عام 1960 حوالي 5% من نسبة الناتج المحلي الاجمالي، ارتفعت في عام 2011 إلى 18%، وستستمر في الصعود خلال القرن الحالي لتصل إلى 60% في عام 2105، حسب تقديرات بروفيسور جامعة نيويورك وليام بومول. ويعتقد البروفيسور بومول بأن كلفة الأمراض لا يمكن الشفاء منها ولكن من الممكن معايشتها لو عالجنها بحكمة."
ولنتفهم مرض الكلفة علينا استيعاب مفهوم بسيط، وهو أنه حينما ترتفع الانتاجية بالتطورات الصناعية التكنولوجية تتقدم بعض الصناعات على أخواتها. فمثلا في عام 1913 بدأت شركة فورد الصناعة الاوتوماتيكية للسيارات، مما أدى لتجنب العامل التحرك من مكان عمله، بينما كانت السيارة المصنعه تتحرك في خط التصنيع بين العمال لتكملة تركيباتها. وقد أدى ذلك لانخفاض بارز في تضيع وقت العمل في تحرك العامل من مكان لآخر بأجهزته. وقد أدى ذلك لخفض وقت تصنيع سيارة فورد "تي" لعام 1913 من 12 ساعة إلى ساعتين فقط، مما زاد من إنتاجية العمال ستة أضعاف وسهل إمكانية رفع مرتباتهم الشهرية.
ومع الأسف هناك قطاعات صناعية وخدمية راكدة ليس من السهل تحقيق هذه الدرجة من زيادة الانتاجية فيها، ولكي يتمكن المجتمع توفير بضائع وخدمات هذا القطاع الاقتصادي الراكد، عليه أولا أن يقي الموارد البشرية من تجنب العمل بهذه القطاعات. وهنا تكون الحاجة ضرورية لرفع المرتبات للتعويض عن التضخم الاقتصادي وتحسين مستوى المعيشة، بالرغم من عدم زيادة الانتاجية، وطبعا سيؤدي ذلك لزيادة كلفة هذه البضائع والخدمات. وخير مثال للقطاعات الراكدة هي قطاع الرعاية الصحية الذي يحتاج للتواصل البشري من خلال الممرضات والأطباء. فمع أن التطورات التكنولوجية حسنت من دقة التشخيصات وجودة العلاجات، ولكن لم تستطع أن ترفع نسبة الانتاجية بنفس درجة القطاعات الاقتصادية المتحركة سريعا، مما أدى لاستمرار ارتفاع كلفة قطاع الرعاية الصحية، بدون زيادة ملحوظة في الانتاجية، وبذلك بدأت معضلة أمراض الكلفة.
وقد بينت الاحصائيات التاريخية حقيقة مرض الكلفة. فمنذ عام 1980 ارتفعت كلفة التعليم في الجامعات الامريكية بنسبة 440%، وزادت كلفة الرعاية الصحية بنسبة 250%، بينما لم ترتفع كلفة الأسعار في الاقتصاد العام عن 110%، وكلفة الرواتب عن 150%. ويتوقع البروفيسور بومول بأنه إذا استمر ارتفاع كلفة الرعاية الصحية الأمريكية من النتاج المحلي الاجمالي بنسبة 1.4 % سنويا حتى عام 2105، سترتفع كلفة الرعاية الصحية إلى 60% من نسبة الانتاج المحلي الاجمالي. ولن تقتصر معضلة مرض الكلفة على الولايات المتحدة بل انتشرت هذه الظاهرة في باقي دول الغرب والشرق. فمثلا ارتفعت كلفة الرعاية الصحية للشخص الواحد في اليابان بنسبة 5.7% سنويا، بين عام 1960 وحتى عام 2006، بينما زادت الكلفة في بريطانيا بنسبة 3.5% سنويا في نفس الفترة.
ولو قبلنا بدراسات بروفيسور بومول الاحصائية، سنجد بأن كلفة الرعاية الصحية سترتفع في اليابان من 8% من الناتج المحلي الاجمالي، وفي بريطانيا من 10% إلى 50% في عام 2105. وهنا يؤكد البروفيسور بومول بأنه ليس من الممكن الشفاء من مرض الكلفة في الرعاية الصحية، ولكن من الممكن استخدام الحكمة للتعامل مع هذا المرض بالتركيز على تطوير كفاءة الرعاية الصحية لخفض الكلفة، بخفض نسبة الأمراض بفلسفة الوقاية خير من العلاج، والتحكم في كثرة استخدام التشخيصات الغرير ضرورية، والهدر الغير مقبول في صرف علاجات دوائية وإجراء عمليات جراحية مكلفة وغير لازمة، بالإضافة لمعضلة كلفة أخطاء التشخيص والعلاج.
فمثلا مشكلة زيادة الوزن والبدانة سيكون لها ارهاصات خطيرة على كلفة الرعاية الصحية، حيث ارتفعت في بعض دول الغرب لنسبة ثلثي السكان. كما بينت الاحصائيات الحديثة ارتفاع نسبة البدانة وزيادة الوزن في بعض دول الخليج العربي لحوالي 65% من السكان، وسيترافق ذلك بزيادة أمرض القلب والشرايين والسكري والسرطان. وبينت الدراسات بارتفاع نسبة الاخطاء الطبية في المستشفيات، لتؤدي لزيادة كبيرة في الكلفة، ولتزداد نسب الوفاة من اختلاطاتها. فقد بينت دراسة أمريكية لحوالي 40 مليون مريض بالمستشفيات ألأمريكية بأن عدد الأخطاء الطبية بينهم تجاوزت المليون ومائتي ألف خطاء طبي، مما أدت هذه الخطاء لوفاة 300 ألف مريض. كما قدرت دراسة أخري بأن ألأخطاء الطبية في المستشفيات الأمريكية أدت لإجراء 7.5 مليون عملية لم يكن هناك الحاجة لإجرائها، وترافقت الأخطاء الطبية لدخول 8.5 مليون مريض للمستشفي، لم يكن هناك حاجة لذلك، كما ترافقت العلاج بالأدوية لتاثيرات جانبية خطيرة في المرضى تجاوزت 2.2 مليون مريض، كما أدت لوفاة 780 ألف مريض.
وبينت دراسة علمية أخرى بأن الوفاة بسبب الأخطاء الطبية تجاوزت الوفاة بسبب من سرطان الثدي أو حوادث السيارات القاتلة، وبأن الأخطاء الطبية في الولايات المتحدة ادت لزيادة 95 مليون زيارة طبيب إضافية و لصرف 77 مليون وصفة طبية إضافية والقيام بحوالي 17 مليون زيارة لقسم الطوارئ و 8 مليون زيارة لدخول المستشفى. فهل من الممكن أن نتصور كلفة هذه الأخطاء الطبية وارهاصاتها. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ستنتبه دول المنطقة لامراض الكلفة في مجتمعاتنا العربية؟ وهل ستحاول خفض نسب البدانة التي ستضاعف كلفة الرعاية الصحية لأضعاف مضاعفة؟ وهل ستعمل على رفع نسبة الكفاءة في رعاية المستشفيات لتخفض نسبة الأخطاء الطبية؟ ولنا لقاء؟
د. خليل حسن سفير مملكة البحرين في اليابان