أصداء

أسلمة العرب سياسيا

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

كانت فترة المد القومي العربي سياسيا من الفترات العصيبة على العديد من القوى الدولية والاقليمية المتضاربة المصالح والتوجهات في هذه البقعة من العالم التي تمتاز بثرواتها وبموقعها الاستراتيجي. وبغض النظر عن الاتهامات التي وجهت لهذا المد او التيارات التي اعتنقته , فانه لايزال فاعلا كما لايزال امتدادا لفترة تشكل فيها وعي الشعوب العربية بالضد من تطلعات مايسمى بالقوى الامبريالية الغربية وبالذات منها امريكا و اسرائيل, وهو امر تركز جغرافيا في العديد من الدول المحورية التي اجتاحها مايسمى بالربيع العربي.

عادة ماتصدمنا حقيقة ان الولايات المتحدة بشكل خاص تتعامل مع المنطقة العربية وفقا لمنظور مستقبلي يستند على مؤشرات الحاضر , وهو معاكس تماما لطريقة تعاطي حكامنا وشعوبنا مع السياسة في بلداننا. لذا وجدنا بان صناع القرار السياسي هناك فضلا عن مراكز الابحاث قد بدأت تدق ناقوس الخطر فيما يتعلق بالمصالح الامريكية في المنطقة العربية على المدى البعيد , خاصة في ظل ثنائية استمرار مشاعر العداء لامريكا واسرائيل على حد سواء والتنامي المستمر لتصاعد مشاعر التعاطف مع ايران في اوساط الشباب العربي , الذين ينظر كثير منهم الى ايران نظرة مغايرة لتلك التي تحاول الكثير من المؤسسات الاعلامية تشويهها او تغييرها قسرا في اذهانهم. وقد جاءت الصدمة الاكبر للقادة السياسين في امريكا بعد ان قامت احدى المؤسسات المستقلة باجراء استفتاء لمعرفة اكثر الشخصيات بروزا كنماذج قيمية بين الشباب العربي تحظى باهتمامهم واحترامهم , واذا بالنتيجة تظهر قادة ايران وحزب الله اللبناني وسوريا في المقدمة بفعل وقوفهم ضد اسرائيل في لبنان وفي غزة وكذلك بفعل وقوفهم ضد السياسات الامريكية في المنطقة Paul Salem , Can Hezbollah Weather the Arab Spring )). لذا فبعيدا عن الرؤى والمواقف المؤدلجة وبعيدا عن ضبابية الصورة العراقية في هذا الموضوع التي عادة ما نشهدها لدى العديد من كتاب العالم العربي عند تحليلهم للاوضاع فيه بين متهم لمحور الممانعة ومؤيد لمحور الاعتدال او العكس , فقد دفعت نتجية هذا الاستفتاء الامريكان وحلفائهم في المنطقة الى اعادة حساباتهم والتوجس مما ستحمله قادم السنوات لهم من تغيرات لاقدرة لهم على التحكم بها او التقليل من سلبياتها على مصالحهم.

بدأت الادارة الامريكية في البحث عن مدخلات هذا التوجه ووجدت ان من بين عناصره العديدة نقطة جوهرية تمثلت في اساس البنية الثقافية العربية التي ارسيت دعائمها الاساسية بشكل خاص خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. فالتيارات القومية العربية لم تكن متوافقة بالكامل مع ايران فهي الاخرى كانت تعيش معها حالة من الصراع القومي مابين العروبية والفارسية التي كانت تُصور ايران من خلالها على ان سياستها الفارسية وتصدير ثورتها الاسلامية فيما بعد تشكل مصدرا من مصادر التهديد لفكرة الرابطة القومية العربية. ولعل في الحرب العراقية - الايرانية مثالا حقيقيا لما آلت اليه عملية التصعيد السياسي لهذا التضاد القومي بين الطرفين.

رغم ذلك لم تنجح هذه التيارات في زرع بذور الشقاق بين العرب وايران بشكل نهائي عندما يتعلق الامر بدولة ايران الشيعية. على اعتبار ان تلك التيارات كانت قومية وليست دينية , وتضم في صفوفها العرب المسلمين من الشيعة والسنة وكذلك العرب غير المسلمين , كما انها لم تكن عائقا يمنع من التوصل الى تسوية للصراع العراقي مع ايران ( الذي وصف بالصراع الفارسي - العربي وليس بالصراع الشيعي - السني ) ولم تكن ايضا عائقا يمنع من تطبيع العلاقات العربية معها في مجالات مهمة بين الطرفين. لذا وجدت الولايات المتحدة بان هنالك اليوم العديد من الشباب العربي الذي استهوته فكرة النموذج الايراني الداعم للحركات الاسلامية في لبنان وفلسطين رغم انه يدعم في الاولى حركة شيعية وفي الثانية حركات سنية , هذا في الوقت الذي تقاعست فيه العديد من الانظمة العربية عن تطبيق شعاراتها المعادية للمصالح الغربية والاسرائيلية في الدول العربية. وهو ماجعل البعض في امريكا يتخوف لا من انتشار التشيع في هذه الدول , بل من انتشار مزيد من التعاطف مع نموذج ايران السياسي في المنطقة , وربما بالطريقة التي تقود الى انفلات الامور بالكامل من بين يدي الادارات الامريكية القادمة.

بدأ الحراك الامريكي سريعا عبر الدفع بتركيا الى قلب احداث المنطقة , بهدف سحب البساط من تحت اقدام النموذج الايراني المتنامي هناك , ولعل في ذلك شيء من التفسير لما قام به اوباما في اختياره تركيا كأول محطة له في زيارته للشرق الاوسط مؤكدا في حينها على اهمية الدور الذي ستلعبه هذه الدولة في الترتيبات الشرق اوسطية القادمة. لذا كانت هنالك اكثر من قضية معدة سلفا لتنشيط وتجميل صورة هذا الدور في الاذهان العربية. كما تم الحديث بشكل اعمق عن انتشار خطر التشيع في العديد من الدول العربية وبالذات مصر وتونس وسوريا فضلا عن الحديث المغلوط حول فكرة الهلال الشيعي , كما وبدأت ايضا لهجة التهميش و التخوين الرسمية / الحكومية للتيارات القومية العربية المعتدلة في نظرتها لايران ناهيك عن تصعيد لغة التشكيك بكل ماهو ايراني واعتبار كل من ينتقد السياسات السعودية او التركية في المنطقة العربية على انه موال لايران او جزء من مشروعها العام في المنطقة وبانه يغض الطرف عن السياسات الايرانية , التي نعترف بانه لا يخلو كثير منها من السلبيات ويحتاج الى النقد ايضا. وهي امور تفاعلت مع بعضها لتهيئة الارضية للتغيير الذي دعمته امريكا باتجاه صعود الاخوان المسلمين في العديد من هذه الدول وبالذات منها في مصر التي تُعرف بمكانتها الاستراتيجية وبدورها القومي في العالم العربي. وكأن ماحصل هو استغلال للعديد من العوامل الحتمية والمنطقية التي قادت الى تفجر الثورات العربية داخليا , باتجاه التحكم بنتائجها على صعيد السلطات الحاكمة التي تمتاز بعدائها المذهبي والفكري للنموذج الايراني , في مقابل مهادنتها المعروفة للنموذج الامريكي - الاسرائيلي.

لقد وجدت الولايات المتحدة ان الفرصة الان سانحة للسماح بنشر فكر التيار الاخواني في الاوساط العربية على اعتبار انه البديل الاكفأ للتيارات العربية - القومية , التي وصلت الى مرحلة الشيخوخة والافول امام تصاعد تيارات قومية عربية اكثر اعتدالا واقل تطرفا في نظرتها القومية بعد ان ادركت حجم الانتكاسات التي عانتها الفكرة القومية طوال العقود المنصرمة من الزمن. على اعتبار انها اذا ما دعمت وصول الاخوان وتياراتهم للحكم في العديد من الدول العربية , فانها ستكسبهم حلفاء مستقبليين ينوبون عنها في مواجهة الخطر الايراني في المنطقة دون ان تواجه امريكا اي خطر حقيقي في هذا الامر. الا ان هذا التوجه الذي يراد ترسيخه لدى اكبر عدد ممكن من الشباب العربي يواجه اليوم بترقب لدور الاخوان وسياساتهم في الاوساط العربية التي سأمت من التلاعب بمقدراتها وفقا لصيغة التنافس الاقليمي الذي لم تجني منه اي ثمار تعود بالنفع على حياتها.

في ظل ما تقدم يبدوا اليوم ان هنالك نوع من التوافق في النظرة الاقليمية والدولية لضرورة اسلمة التيارات السياسية في المنطقة العربية بدلا من استمرارها في نهجها القومي الذي بدأ يميل كثيرا نحو الاعتدال في موقفه من ايران وفي النظرة بشيء من التفهم لمطالب الشعوب العربية وغير العربية التي تعيش في العالم العربي. اذ تصر هذه القوى على هذا التوجه على اعتبار انه سيكون كفيلا لوقوفها ضد المصالح الايرانية في المنطقة وسيعمل على تهيئة الارضية لتفجير الصراعات المذهبية وتجييش اكبر عدد ممكن من الشباب في اي اقتتال قادم مع هذه الدولة. وهو ما يفسر هذا الصعود البارز لحكم الاخوان المسلمين في اكثر من مكان تحت وصاية القوى المعروفة التي تبنت هذا المشروع لاهداف وغايات ترتبط بعلاقاتها بالقوى الكبرى المعادية ايضا لايران.

للدليل على حجم التناقض في الرؤية العربية لايران مابين المؤسسات الحاكمة وتياراتها الاسلامية المتشددة و مابين المؤسسات المدنية والفكرية العربية ذات التوجه القومي نؤكد على ماورد من افكار في بيانات المؤتمر القومي العربي وما صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في هذا الصدد من رؤى تشدد على ضرورة التفكير الاستراتيجي في النظر الى دول الجوار وبالذات منها تركيا وايران باعتبارها عمقا حضاريا و اسلاميا للعرب انفسهم بعيدا عن ادلجة الخلافات الدينية - المذهبية التي تعزف على وترها الحركات الاسلامية المتشددة , لذا نجد بان الباحث طلال عتريسي يشير في كتابه " الجمهورية الصعبة : ايران في تحولاتها الداخلية وسياساتها الاقليمية " الى هذه الحقيقة ونقلا عن البيانات المختلفة للمؤتمر القومي العربي التي نقتبس منها مايلي " يجب ان تتغير النظرة الى دول الجوار الجغرافي ايران - تركيا واثيوبيا بشكل خاص... من اعتبارهم خصوما محتملين الى قيام حوار وتخطيط وتنفيذ سياسات في اتجاه تحويلهم الى جيران اصدقاء... وقد يكون اقامة حوار عربي - ايراني وكذلك حوار عربي - تركي على المستويات الفكرية والسياسية غير الرسمية مقومات ضرورية لهذا الغرض...ان هذه الدائرة الحضارية " ايران وتركيا " تمثل عمقا استراتيجيا للامة العربية... وفيما يتعلق بايران فان المدخل الاساسي للتواصل والتفاهم هو الحضارة الاسلامية... لقد دخلت العلاقات العربية - الايرانية بعد مرور عشرين عاما على الثورة الاسلامية الى مرحلة من النضج والاحساس بالحاجة المتبادلة الى تطوير العلاقات الاخوية على قاعدة الاحترام المتبادل للمصالح المشتركة ولسيادة كل دولة من دول المنطقة ".

وهي رؤية عقلانية تغيب عن الخطاب المتشدد لحركات الاسلام السياسي الذي يؤكد على لغة التخوين تجاه اعداد كبيرة من سكان العالم العربي ممن اعتنقوا مذهبا مغايرا لمذهب هذه الحركات , التي ترى في ايران مصدرا للشر المطلق ولابد من محاربتها واستئصال فكرها و عدم التعاطف معها بكل الوسائل الممكنة وبالذات منها العنيفة. الامر الذي قاد الى حدوث صدع سياسي مهم في العديد من الدول العربية على اسس مذهبية معروفة , كما قاد الى حدوث تراجع في مكانة الصراع العربي - الاسرائيلي , ليحل محله الصراع الشيعي - السني في اكثر من مكان والسبب الرئيس يكمن في الاختلاف في النظر الى دول الجوار والى دور المكونات السكانية التي تعيش في العالم العربي , مابين رؤية قومية تميل كثيرا اليوم نحو تجاوز اخطاء الماضي وكذلك نحو العقلانية والاعتدال وتبحث عن عوامل التقارب والاستقرار وحل المشكلات عبر الحوار والقانون الدولي , مقارنة بنظرة اخرى متطرفة تنزع باتجاه العنف والتخوين الذي تمارسه الحركات الاسلامية المتشددة التي بدات اليوم تتخذ طابعا رسميا بصعودها الى سدة الحكم.

كاتب واكاديمي عراقي
Dr.diearrysm_iraqiwriter@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف