رحلة في التاريخ الياباني (2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي لليابان
عرضنا في الجزء الأول من المقال أهمية الأسطورة والتاريخ في نجاح التجربة اليابانية بخلق إنسان متآلف مع مجتمعه وأبنا شعبه، ومتناغم مع ما يحيط به من طبيعة جميلة، وما يرافقها من تحديات حياتية، لتنتج شخصية منتجة متزنة ومؤمنة بعمل الفريق، ومسيطرة على عواطفها بحكمة. فيتعلم المواطن الياباني منذ صغره بأن الذكاء العاطفي والذكاء الاجتماعي مهم جدا لتناغم المجتمع وتآلفه. لذلك يعتقد اليابانيون بأنه من المهم أن يكون بداخلهم نوعين من الذكاء العاطفي، الأول ذكاء عاطفي خارجي يتعاملون به مع أقرانهم بلطف في المعاملة، وحسن في الخلق والسلوك، وبالسيطرة على العواطف، لتوجيهها بشكل إيجابي، في التناغم المجتمعي، لزيادة الانتاجية، ليزدهر المجتمع، ويزداد ثراءه. أما الذكاء العاطفي الداخلي فهو شي يخص الانسان في داخله، ويحتم عليه الواجب المجتمعي أن يحفظ عواطفه الخاصة لنفسه، ويوجهها بشكل حكيم، لمنع سلبيات العاطفة من خلق المجابهه والصراعات الخارجية، والقلق والضغوط النفسية الداخلية المكبوتة، والتي قد تؤدي لبؤس الانسان، وشقاءه، والقضاء على تناغم المجتمع، وخفض انتاجيته.
كما يؤدي المفهوم الأسطوري لتعدد الالهة في مبادئ الشنتو لفلسفة القبول بوجود احتمالات عديدة في الحياة. وبأن ما تعتبر بأنها هي الحقيقة ما هي إلا وجه واحد لعدة احتمالات وفرضيات، فليس هناك حقيقة مطلقة فريدة. وتؤكد الثقافة اليابانية على الحكمة الصينية دائما، والتي تكرر القول: "هل تبحث عن الحقيقة، ليس هناك حقيقة في الوجود الحياتي." أي بأن هنا احتمالات قابلة للمناقشة قد تناسب ظرف، وزمن، وواقع معين، ولكن قد لا تناسب ظروف وأزمان وواقائع أخرى. فالحقيقة المطلقة ليس لها وجود في الثقافة اليابانية، فكل شيئ معرض للنقاش والمحاسبة، وكل شيء معرض أن يكون خطأ أو صواب بنسب متفاوتة. ومن هذه النقاشات يشعر المواطن الياباني بأنه محاسب على فكره، وفرضياته، وسلوكه، وأخلاقياته، أمام شعبه، وأمام الدولة والقانون، ليؤدي ذلك لأن يحاسب الياباني نفسه دائما، ويتأكد من صحة سلوكه المجتمعي.
وقد ناقشنا في الجزء ألأول بداية التاريخ الياباني حتى بدء تعرض الثقافة اليابانية للحضارة والثقافة الصينية منذ القرن الأول من الميلاد مع إنتشار البوذيه فيها، وإرسال حفيد جنكيز خان في القرن الثالث عشر بعد الميلاد خطاب لحاكم اليابان طالبا منه الاعتراف بسيادته على البلاد ودفع الجزية، ولكن اليابانيون تجاهلوا طلبه. فقام بعدة محاولات شرسة ،حتى موته عام 1294، لغزو اليابان ولكن جميعها باءت بالفشل، لبسالة المحاربين اليابانيين، وشدة الرياح والطوفان الذي أدت لتحطم سفن العدو. واشتهرت منذ ذلك الوقت تلك الرياح والطوفان "بالكاميكز" أي الرياح الالاهيه التي حمت أرض الالهه. ولنكمل عزيزي القارئ رحلة التاريخ الياباني.
ففي عام 1333 بدأت حرب أهلية طاحنة في عهد "مروماشي" (1333-1568) أدت إلى خراب البلاد وتوقف عملية التقدم. وفي عام 1543 وفي فترة الاضطرابات الشديدة، "سينكوجوا"، وصل إلى البلاد ثلاثة من الرحالة البرتغاليين بعد تحطم السفينة الصينية، التي كانت تنقلهم للصين، على شواطئ اليابان. وقد كانوا أول مجموعة أوربية تصل اليابان، لتجدها ممزقة بحرب أهلية طاحنة، ولوردات حرب يسرقون أراضيها، وحكومة ضعيفة وعاجزة.
وفي عهد "ازوشي مونوياما" (1568-1600) توحدت البلاد بعد حرب أهلية طويلة طائشة، بفضل ثلاثة من القيادات القوية المتتالية وهم نوبوناجا، هايوشي، واياسو. ويكرر اليابانيون مقولتهم في هؤلاء الزعماء الثلاثة الذين وحدوا اليابان وأنقذوها من دمار الحرب الأهلية بقولهم: "إذا لم يغرد الطير فنوبوناجا سيقتله، وهيديوشي سيقنعه ليغرد، وأما اياسو سينتظره حتى يغرد." فقد حارب نوبوناجا بشجاعة وشراسة، وكسب جميع المعارك التي خاضها. وأشتهر بالعنف والشراسة، فقد قتل أخوه وكثير من أفراد عائلته، وكان يحرق الجنود الأعداء بالآلاف بعد هزيمتهم. كما أنه ذبح الكثير من الرهبان البوذيين خوفا من توجهاتهم. وخلفه بعد ذلك هيدياشي الذي حارب بشراسة أيضا، فوحد البلاد وحاول غزو كوريا والصين ولكن هزم، وتوفى بعد مرضه.
أما اياسو فاشتهرت فترته بعهد"التـوكوجاوا أو الايدو" (1600-1868) بعد انتصاراته في معركة سيكييجارا. وقد فرض نظام اجتماعي يقسم المجتمع إلى طبقات، تبدءا بطبقة السموراي المحاربين، ثم المزارعين، وبعدها الصناع، ومن ثم التجار. وتحدد طبقة المواطن منذ ولادته، وقد كان أهم ما في هذا التقسيم هو تقسيم المواطنين إلى عساكر السمواري، وباقي الشعب. وكان الأمراء العسكر المعروفين "بالشوجن" يمتلكون ثلاثة أرباع الأراضي وجميع المدن والموانئ والمناجم.
وقد قام أمراء العسكر بتقييد حركة التنقل للمحافظة على الاستقرار في البلاد بسبب الصراعات الأهلية. كما أحتاج السفر لوثائق مرور، ومنع التنقل بأية وسيلة تستعمل فيها العجلة، ودمرت الجسور أيضا لمنع حرية الحركة، وفرض حضر التجول في المساء. وكان التعذيب والإعدام شائعا كعقاب للسرقة، كما فرضت المسؤولية الجماعية وبقسوة. ونفذت أيضا قوانين قطع الرأس لمعاقبة الجريمة، وزادت معاداة الأجانب، وبدأت مرحلة " البلاد المغلقة".
كما أشتد العنف ضد المسيحيون لاعتبارهم متآمرين مع الغرب، وكانوا يصلبون ويتم إلقائهم في الأحواض المغلية. وقد أدى هذا العنف والصرامة في الحكم لزيادة الخوف ليتم الاستقرار في البلاد.
وبداء الناس يتساءلون بعد ذلك عن دور العسكر السموراي في الواقع الجديد، وحس الشعب بأنهم طفيليين على المجتمع. وتفهم السموراي الوضع الجديد وبدءوا بنشر أخلاقيات "البوشيدو" بينهم. وقد تزامن الاستقرار السياسي مع التطور الاجتماعي والاقتصادي. وبرزت طبقة قوية من التجار، كما طورت الفلسفة الكنفوشسية التعليم والتفكير الذهني والإبداعي. وبداء الناس يتساءلون عن أهمية دور الأمراء العسكر في المجتمع، وخاصة حينما برز عجزهم وفسادهم على السطح. وقد بني معبد للقائد "اياسو" بمدينة شيزوكا، ليعتبر بعد وفاته من أحد آلهة اليابان. وقد سنحت لي الفرصة برحلة وزارة الخارجية اليابانية لزيارة هذا المعبد الجميل، الذي يقع في وسط غابة خلابة، وعلى مرتفع بارز في مدينة شيزوكا اليابانية.
وفي شهر جولاي من عام 1853، وصل القبطان ماثيو بيري لشواطئ اليابان، برفقة أربع سفن حربية، وبأوامر من حكومته الأمريكية للحكومة اليابانية، بفتح الشواطئ اليابانية للسفن الأجنبية، للتزود بالوقود والتجارة الدولية. وقد أحتقر اليابانيون أوامره، ولكنه أنذرهم برجوعه بعد عام لتنفيذ هذه الأوامر، أو ستتعرض البلاد لحرب شرسة. وقد رحل القبطان بيري ليعود في شهر فبراير من عام 1854، برفقة أسطول حربي مكون من تسع سفن، واضطرت اليابان لفتح شواطئها للخصم الأجنبي.
ولنتوقف عزيزي القارئ ولنكمل في الحلقة القادمة، ولنلاحظ بأن اليابانيون مع إن ديانتهم الأصلية هي الشنتو، تقبلوا الديانة البوذية بحكمة، واستفادوا منها كناقلة لنشر حضارة الصين العريقة في اليابان، كما استفادوا من التعاليم الكنفوشسية لتطوير التفكير التحليلي الذهني بين مواطنيهم، وفي تقدم تعليمهم. ولم يسلم الشعب الياباني من حكم الطغاة ولكن عرف كيف يتعامل معهم ويكمل تطور مجتمعه بتناغم جميل. فهل سيستفيذ العرب من هذه التجربة لخلق مجتمع شرق أوسطي مسالم ومتناغم ليحقق تنميته الاجتماعية والاقتصادية، وليوفر الازدهار لشعوب المنطقة وثرائها. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان