أصداء

تركيا و عسكرة الحدود السورية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

قد يقع البعض في وهم كبير اسمه تركيا الثائرة من اجل الشعب السوري او غيره من شعوب المنطقة الباحثة عن مزيد من الحرية والديمقراطية التي تستحقها بعد ان دفعت ثمنها سنوات من الصراع ومن اراقة الدماء. فعندما يتعلق الامر بالقوى الاقليمية ومن بينها تركيا " محور الحديث هنا " , لابد ان نُحكم المنطق قبل الوقوع في التحليل الذي تسبغه لغة العاطفة او الميول المذهبية التي تمحو عنه اي شكل من اشكال الواقعية والرؤية العقلانية. فتركيا التي لم تستجب بعد الى اي جهد اقليمي او دولي اخر يهدف الى ايجاد حل للمشكلة السورية خارج سياقات ما خططت هي له , بدأت العمل على اتخاذ خطوات جديدة تعزز من خلالها الشكوك المثارة حول اهدافها الحقيقية في المشروع المراد تطبيقه في سوريا التي تسعى الى تحويلها الى مجال حيوي خالص لها , ولتثبت بذلك ان الموضوع السوري يتجاوز كثيرا فكرة اسقاط النظام فيه نحو اهداف وغايات ابعد من ذلك بكثير.

الخطوة التركية الجديدة جاءت في الاسابيع الماضية عبر تقديم طلب الى حلف الناتو بنشر صواريخ الباتريوت على الاراضي التركية , بهدف مواجهة التطورات الحاصلة على الاراضي السورية. وهي خطوة تهدف الى اضفاء مزيد من العسكرة على الحدود بين البلدين , وذلك بعد ان قامت تركيا باعتراف العديد من المنظمات المحايدة , بالعمل على تحويل تلك الحدود الى ممرات آمنة لتزويد القوى المسلحة , وبالذات منها الاسلامية المتطرفة , بالسلاح والمعدات التي تحارب بها على الارض السورية.

تعززت الدعوة التركية لحلف الناتو بنشر هذه الصواريخ قبيل الزيارة التي قام بها اردوغان الى الباكستان واجرى فيها اثناء لقائه بوزير الخارجية الايراني مشاورات سريعة عن هذه الازمة , لكنها وكما يبدوا لم تساعد ايضاً في تغيير الموقف التركي من الموضوع السوري بل عملت على العكس من ذلك على زيادة تعنتها في هذا الموضوع وتصعيد حدته بادخال الناتو الى حدود التماس المباشر لها مع سوريا.

وهو ما اثار ردود فعل سلبية من قبل كل من روسيا وايران , الدولتان اللتان تصران على ان حل المشكلة السورية لايتم ابداً وفقاً للنهج العنيف الذي تدعمه تركيا وبقية الدول الاعضاء في حلفها. اذ ان سياسة العنف والتسليح للقوى المعارضة لم يقد الا الى اطالة امد الصراع الذي كلف السوريين كثيرا من الارواح ومن الدمار للبنى التحتية في بلادهم. لذا نجد ان هنالك تطابقاً في رؤية هاتين الدولتين من خلال تصريحات كبار مسؤوليها المحذرة من خطورة عسكرة الحدود التركية - السورية , اذ نجد على سبيل المثال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يصرح بالقول " بقدر ما تتكدس الاسلحة , يزداد خطر استخدامها ". واضاف " ان تكديس الاسلحة يطرح تهديدات ويشجع على الارجح اولئك الذين يريدون اللجوء بشكل اكبر الى القوة ". واوضح ان " نشر هذه الاسلحة يطرح تهديدا بان يؤدي اي استفزاز الى نزاع مسلح خطير. ونحن نريد تفادي هذا الامر باي ثمن ". في حين اعلن متحدث روسي ان "عسكرة الحدود التركية السورية مؤشر مقلق... اننا نحذر من مغبة استخدام صواريخ الباتريوت لابراز العضلات ". وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الروسية للتاكيد من جانبه عن القناعة الروسية المتزايدة تجاه هذه الخطوة " ان عسكرة الحدود التركية - السورية يعد بمثابة اشارة تحذير. لذا نود ان نقول بان لدينا نصيحة مختلفة لاصدقائنا الاتراك وهي ان عليكم ان تستخدموا نفوذكم على المعارضة السورية من اجل تسريع بداية الحوار السياسي مع الحكومة السورية ". وهنا تجد روسيا ان الحقائق الجيوبولتيكية للشرق الاوسط تشير الى ان تكديس الاسلحة واضفاء مزيد من التفعيل لعملية تقريب حلف الناتو بهذه الطريقة من حدوده الجغرافية لتصبح آلته العسكرية على تماس مباشر بشكل اكبر من ذي قبل مع دول مثل العراق وسوريا , سيقود لا محالة الى استخدام هذه الاسلحة في الصراع حاليا او خلال المستقبل وبالطريقة التي تفضي الى امكانية تغلغل الناتو عسكريا في اكثر من دولة من دول المنطقة. ويأتي هذا الاعتقاد في ظل الادراك الروسي لطبيعة الاطماع والاهداف التركية - الغربية في المنطقة والتي تتم عبر مساعدة مالية ولوجستية من بعض دولها. لذا نجد روسيا تعبر صراحة عن هذا الموقف بالقول " ان روسيا تتهم القوى الغربية بانها هي التي تقف وراء اندلاع الصراع في سوريا بدعم العناصر المسلحة , وبان الخطط الموضوعة من قبل باريس لتزويد هؤلاء المقاتلين بمزيد من الاسلحة , سوف يعتبر انتهاكا للقانون الدولي" كما تكرر في اكثر من مرة بان هذه الدول هي التي تحول دون الاستجابة لدعوات الاطراف الاخرى بتسوية الصراع هناك سلمياً.

في حين اكد الجانب الايراني رؤيته الخاصة بهذا الخطر الذي ينتظر المنطقة عموما من خلال تصريح وزير خارجيتها علي لاريجاني الذي قال " ان المشكلة الداخلية السورية لايمكن ان تُحل بنشر هذا النوع من الصواريخ ".وهو ما يشكل امتداداً للرؤية الايرانية من موضوع الحل السوري الذي ترى بانه يجب ان يكون حلا داخلياً سلمياً بعيداً عن عسكرة المشكلة و حلولها معاً , على اعتبار ان ذلك سيقود الى تعقيد الاوضاع على الارض.

لم تتوقف الاصوات المحذرة من هذه الخطوة التركية على كلا من روسيا و ايران فقط , وانما امتدت الى الداخل التركي نفسه حيث حذرت العديد من الاحزاب المعارضة من ان هذه الخطوة جاءت بهدف تحويل تركيا الى مجرد اداة لتحقيق طموحات الغرب في الملفات المهمة في المنطقة. وهو ما ادى الى احراج الموقف الذي اتخذته حكومة العدالة والتنمية في هذا الموضوع , مما دعا اردوغان الى تصعيد حدة خطابه النقدي لمجمل تلك القوى وبالذات منها روسيا التي قال عنها " ان ردة الفعل الروسية ازاء نشر صواريخ حلف الناتو قرب الحدود التركية - السورية تعتبر خاطئة جدا وهي بالنتيجة تعد بمثابة تدخل في الشؤون الداخلية التركية ". كما اشار اردوغان خلال زيارته التي قام بها مؤخرا الى الباكستان بتاريخ 22-11 -2012 الى ان قرار نشر هذه الصواريخ لن يخضع الى موافقة البرلمان التركي , وقد جاء ذلك الرأي الاستبدادي من اجل تفويت الفرصة على معارضيه في الداخل التركي ممن هددوا بانهم لن يسمحوا بتمرير هذا القرار عند طرحه للتصويت في البرلمان. وقد كانت الحجة التي طرحها اردوغان في هذا الصدد تؤكد على ان طلب نشر هذه الصواريخ جاء من قبل حلف الناتو وليس من تركيا , وهو مايستند وفقا لذلك الى فقرة قانونية استشهد بها قائلاً " وفقا للمادة 4 من معاهدة واشنطن تعتبر ارضنا ارضا لحلف الناتو , لذا فان هذه القضية لا تتطلب موافقة البرلمان من اجل تطبيقها , لكونها قرار اتخذ من قبل اعضاء هذا الحلف ".

يبدوا من سياق هذا الحديث , الذي يعكس رغبة اردوغان في خداع الرأي العام , ان هنالك فعلاً نوايا مبطنة من قبل تركيا فيما يتعلق بنشر هذه الصواريخ. ورغم ان هنالك ادلة عديدة تثبت هذا الامر , الا اننا سنستشهد باثنين منها. الاول يشير الى ان " تركيا هي التي طلبت رسميا من حلف شمال الاطلسي نشر صواريخ باتريوت المضادة للصواريخ على طول حدودها مع سوريا. وايدت الولايات المتحدة وفرنسا خصوصا هذا الطلب. وقال الامين العام للحلف اندرس فوغ راسموسن ان الحلف سينظر في الطلب التركي "في اسرع وقت". وبين الدول الاعضاء الثمان والعشرون في الحلف، وحدها المانيا وهولندا والولايات المتحدة تملك بطاريات صواريخ باتريوت ". وقد قال ايضاً في بيان له للرد على الطلب التركي بنشر منظومة الصواريخ المضادة على الحدود التركية - السورية " ان مثل هذا الانتشار سوف يزيد من قدرات تركيا الدفاعية من اجل حماية سكانها واراضيها , كما انه سيساعد على الحد من امكانية وصول الازمة لتمتد على طول الحدود الجنوبية - الشرقية لحلف الناتو. لذا فان الناتو سوف يقوم بمناقشة الطلب التركي بدون اي تاخير". وهو ما يشير صراحة الى ان الطلب تقدمت به تركيا وليس العكس كما ادعى اردوغان في تصريحه الذي تقدم به لقطع الطريق على المعارضة التركية امام رغبتها في التصدي لهذا المشروع.

الدليل الثاني ان هذا المشروع جاء ايضا بضوء اخضر امريكي بهدف خلق مايعرف بمنطقة حظر الطيران فوق الاراضي السورية فضلا عن تحقيق غايات مستقبلية ذات علاقة بطموحات وربما تخوفات تركيا من بعض الملفات الساخنة في المنطقة. لذا نجد ان واحداً من بين الشخصيات الامريكية المهمة ( السيناتور جون مكين ) يؤكد على مكانة هذا الموضوع بالقول " انني اؤيد نشر منظومة صواريخ الباتريوت هناك من اجل تعزيز منطقة حظر الطيران في سوريا , وهو ما يعكس قناعة الجمهوريين بانه سوف يكون عاملاً حاسماً في انهاء العنف الذي اجتاح سوريا منذ عشرين شهراً... انني اؤكد لكم بان اول طائرة سورية نسقطها , ستكون اخر طائرة يمكن لها ان تحلق فوق منطقة حظر الطيران تلك ". لكن السيد " مكين " لم يكشف لنا اذا ما كان ذلك فعلا سيؤدي الى انهاء الصراع , ام انه سيقود الى كارثة حقيقية في المنطقة وفقاً لما حذرت منه روسيا بشكل خاص من ان مثل هذا الصدام قد يولد شرارة حرب شرسة لن يتوقف حريقها عن الحدود التركية - السورية كما يتوهم البعض , وانما سيمتد الى خارج نطاقها نحو مجالات مكانية اوسع و اكثر تعقيداً.

يبدوا ان عسكرة الحدود السورية بفعل الطلب التركي المقدم الى حلف الناتو بنشر صواريخ الباتريوت , تكمن وراءه العديد من الابعاد الاستراتيجية التي تسعى تركيا وحلف الناتو الى تحقيقها على المدى البعيد. لذا نجد انه وعلى الرغم من الحجج التي قدمها رئيس الوزراء " اردوغان " الى الجمهور التركي والى دول القادة المتشككين من هذه الخطوة , لازالت تركيا بعد غير قادرة على اقناع الرأي العام الداخلي او الاقليمي بجدوى نشر هذه الصواريخ او بالحجج التي سيقت لتبريرها , والتي يعي الجميع خطورتها من خلال امكانية استخدامها في الصراعات الحالية او الكامنة في منطقة ملتهبة بالعديد من المشكلات. هذا فضلا عن تنامي الادراك لدى العديد من المهتمين , من انها خطوة ستعمل على حدوث تحول ما باتجاه مزيد من تشدد القوى المعارضة لها مثل روسيا و ايران التي تتخوف كثيرا من عسكرة الحدود التركية - السورية , وهو ماقد يجبرها على القيام بردود افعال تقوي فيها من صلاتها العسكرية ايضا بالدول الصديقة لها في المنطقة لتحقيق نوع من التوازن الذي يحفظ لها مصالحها المهددة هذه المرة بدور مباشر للناتو في مشكلات الشرق الاوسط وفي تحولات الجغرافيا - السياسية التي يتوقع حصولها هناك.

كاتب واكاديمي عراقي
Dr.diearrysm_iraqiwriter@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف