فضاء الرأي

التونسيون ومخطط الثوار المزيفين

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

يثبت التاريخ كل مرة أن "الاستبداد صنيعة الصمت" أو هو أيضا "صنيعة الاحتجاج بعد فوات الأوان"، و يراهن أصحاب المشاريع الاستبدادية، كما تفعل حركة النهضة اليوم، على عديد العوامل لإنفاذ مشروعها الانقضاضي، لعل أقساها رفع شعارات "الحق" الذي يراد به الباطل، من قبيل شعار "تحصين الثورة" الذي يدرك كل ذي نظر أن المراد به "تأبين الثورة" لا حمايتها، من جهة السعي المحموم إلى التخلص من أهم خصم سياسي يمكن أن يقف في وجه التغول السلطوي و يحول دون استفراد طرف واحد بتوجيه دفة الحكم.
و لا يعدم المحلل القدرة على فهم المقصود من وصم طرف سياسي فاعل في الساحة بمعادة الثورة، الذي هو من كنه طرف سياسي آخر كذب على نفسه و الناس، و مضى مصدقا الكذبة و بانيا على مقدماته الفاسدة تلك، استنتاجات تبيح له "التفرعن" و "التجبر" و "الطغيان"، حيث بدأ قادة النهضة يومين قبل انتصار الثورة بالتملص من المشاركة فيها، ثم انتقلوا بعدها بيومين إلى زعم المشاركة في قيادتها، و بعد أسبوعين من ذلك ادعوا أنهم كانوا قادتها الرئيسيين، قبل أن تمسي بعد انتصارهم الانتخابي صنيعة لهم و لأبنائهم دون سواهم، و لا شك أن من يزور التاريخ و شهوده عيان أحياء يرزقون، قادر على إتيان الأشنع و الأبشع و الأنكى و الأمر، بارتكاب الموبقات و الفضائع والحماقات بناء على هذا التاريخ المزور المختلق و تلك المزاعم الزائفة المفتراة.

لأننا نعرفهم أكثر من غيرنا..
تأتي صيحة الفزع التي أطلقها اليوم، بعد صيحات أطلقها إخوة أعزاء و رفاق درب قبلي، يكاد يكون الرابط بينهم جميعا أنهم تخرجوا من مدرسة الحركة الإسلامية على أطوارها، لكنهم كرهوا جميعا على اختلاف توجهاتهم اللاحقة أن يكونوا شركاء في مشروع استبدادي جديد على حساب الوطن، فقد سبقني إلى التحذير من حقيقة مشروع حركة النهضة الدكتور محمد الهاشمي الحامدي زعيم تيار العريضة الشعبية الذي صرح قبل أشهر تصريحا لا يقبل التأويل أن الشيخ الغنوشي و جماعته بصدد الاستيلاء على الدولة الوطنية، و أن للتونسيين بضعة أشهر فقط للحيلولة دون ذلك، و تخليص بلادهم من سيناريو أسود سبق أن عايشوا مثله أواخر ثمانينات القرن الماضي و أوائل تسعيناته.
ثم تكلم الأخ الصديق الأستاذ محمد الحبيب الأسود القيادي السابق في حركة الاتجاه الإسلامي عن المشروع المخاتل الشرير الذي يجري تنفيذه على مراحل و توظف فيه انقسامات المعارضة و شره بعض قياداتها و تكالبهم على مناصب لتمرير أجندته، و أخيرا دعا الشيخ الفاضل خميس الماجري، وهو أحد وجوه "السلفية العلمية" لا "السلفية الجهادية" كما يروج بعض المغرضين، إلى المسارعة إلى التبرؤ من أفاعيل النهضة و مخططاتها التي ستفضي حتما إلى الإضرار بصورة الإسلام و مكانته و مصالحه.
و لعل الجامع بين هؤلاء و سواهم ممن تكلم في العلن أو كتم شهادته لتقدير خاطئ أو مصلحة مرسلة أو ود مقطوع، أنهم خبروا النهضة من داخلها، و عرفوا عن قرب قسوة و عنجهية و "حقرة" قيادتها، و يدركون قبل سواهم شره هذه القيادة إلى الحكم و ولعها بالسلطان و استعداداتها الاستبدادية التي تجعل من الغايات عندها مبررة لتفعيل كل وسيلة، مشروعة كانت أو غير مشروعة، أخلاقية كانت أو غير أخلاقية، و لعل المتصفح لآثار الميليشيات "الافتراضية" الدنية و المتابع للوقائع الميدانية لعمليات بعض أنصار النهضة العنفية، التي لم تكن حادثة تصفية الشهيد "لطفي نقض" إلا عينة منها، سيعلم أي منقلب يمكن أن يشرف عليه هؤلاء و أي خطية قد يعملون و أي خطب جلل قد يقترفون.

بن علي "المجزأ" أو "المتخفي"..
و قد يعترض معترض على هذه الرؤية السلبية مستندا إلى عدم وجود "الديكتاتور" الممكن، فالشيخ الغنوشي لا يمتلك أي منصب رسمي، و الرئاسات ثلاثة موزعة بالقسطاس بين شركاء الترويكا، غير أن ذلك يعد صحيحا في ظاهره كما يرى، مجافيا للصواب كما يكشف تاريخ الديكتاتوريات العاتية، حيث ثبت في أكثر من مكان و مناسبة أن الديكتاتورية ليست ممارستها حكرا على ديكتاتور مستبد واحد، بل كثيرا ما مورست من قبل فرقة أو طغمة أو جماعة من الناس اتفقت مصالحها و أهواؤها على تركيز نظام شمولي تتوزع فيه الممارسة الاستبدادية على أكثر من طرف و جهة.
و يمكن توصيف الأمر بعبارة أخرى، أن تونس قد تكون مقبلة على دورة استبدادية جديدة، يستعاض فيها عن بن علي "الموحد" و "الظاهر"، ببن علي "المجزأ" و "المتخفي"، فبدل بن علي من حجم كبير نكون أمام "بن عليات" من أحجام أصغر، و بدل بن علي الذي نعرفه و يقود البلاد من قصر قرطاج، يفرغ القصر من محتواه و صلاحياته، لتذهب السلطة إلى عدة مكاتب و أماكن موزعة على عاصمة و خارجها، و المحصلة واحدة، و تماما كما صنع بن علي "التغيير" أو "التحول المبارك" فعلا ليحوله طيلة ثلاثة و عشرين عاما مقصلة لأعدائه و خصومه السياسيين، فإن النهضة قد صنعت "ثورة مباركة" زورا و بهتانا، و تحب اليوم أن تحولها باسم الشرعية الثورية تارة و الشرعية الانتخابية تارة أخرى إلى ذات المقصلة القميئة التي ستطيح برؤوس أعدائها الواحد إثر الآخر.
و لا يغفل كل قارئ للتاريخ السياسي لبلادنا، عن كيفية تخلص بن علي من حركة النهضة نفسها، بحجة طبيعتها الإرهابية و معاداتها للمشروع التحديثي و الإصلاحي الذي أتى به تغيير 7 نوفمبر 1987، و وجد تماما بعد فوزه الانتخابي الكاسح في أفريل 1989 من القوى السياسية من يسير معه و يؤيده و يعينه على سن القوانين الإقصائية الجائرة لإعدام خصمه السياسي اللدود من الساحة، و طفق "المهللون" و "المكبرون" و "المطبلون" و "أحزاب الكرتون" إلى مباركة خطوات القائد المقدسة الحامية لقيم الحداثة و الجمهورية و حقوق المرأة، و كانت "النهضة" حينها "الثور الأسود" الذي ذبح بسكين دامية و بلا رأفة أو شفقة، ثم تواصل ذبح ثيران السياسة التونسية الواحد تلو الآخر، إلا من دخل بيت الطاعة أو آثر السكوت و السلامة أو لزم بيته و العزلة، و دفعت البلاد ضريبة ذلك عقدين من صمت القبور و أمراض التقية المزمنة التي تظهر اليوم طفحا جلديا نتنا على جسم أمتنا الصغيرة الطموحة.

رهانات النهضة..الغفلة و الصمت و انقسام المعارضة
لقد كشفت لغة الشيخ الغنوشي المزدوجة في أكثر من حالة حقيقة المشروع الاستبدادي، و تمكن إسلاميو حركة النهضة من تلويث أيديهم و سجلاتهم النضالية بكافة فضائع المستبدين في زمن قياسي لم يزد عن السنة، حيث مورس في عهدهم الزاهر التعذيب و القتل و السحل و الترهيب و تسخير القضاء و استخدام عصا السلطة في محاولات لتركيع الإعلاميين والكتاب و المثقفين أو غوايتهم و استقطابهم، و ها أن الأمور تبلغ مبلغها بسن قانون "تحصين الثورة" الظالم، حيث تحل الحركة محل "الشعب" و "القضاء" لتزيح من أمامها معوق بقائها في السلطة.
و تراهن قيادة النهضة كما خبرت طيلة عقدين أو أكثر من الزمان، في تشبثها بالسير في طريق الهيمنة على المجتمع و الدولة، على دروس المستبدين الذائعة، سواء المستمدة من رحم أربعة عشرة قرنا من التراث السلطاني الجائر، أو من رحم سير الطغاة القريبة، فهي تعتقد ربما أن الشعب سرعان ما سيستسلم طلبا للأمن و الاستقرار، و أن عامة الناس عادة ما يفضلون التجديد للحاكم ما إن كان قويا، و أن نخب المعارضة بالمقدور معالجة أمرها من طريقين، طريق الجزرة للطماعين من بينهم، و طريق العصا لمن ركب رأسه و تمادى.
و تعرف قيادة النهضة حال زعماء المعارضة أكثر من غيرها، فقد كانت رفيقة لهم خبيرة بأحوالهم و تناقضاتهم و أزماتهم، قادرة على توظيف "جن الرئاسة" الذي يسكن كثيرا منهم، بأن تضرب بعضهم ببعض و تغوي بعضهم على بعض و تدس لبعضهم على بعض، و قد كانت هذه لعبة "بن علي" المفضلة و كانت لعبة مسلية ناجحة حالت طيلة العهد السابق دون صدور بيان سياسي واحد يعبر عن معارضة موحدة متضامنة، فلما لا تتكرر اللعبة و لو في أجواء مغايرة و بأساليب لعب جديدة ما دامت النتيجة ستكون في غالب الأمر واحدة.
و يدهش المرء شديد الدهشة عندما يرى الشرعية الشعبية تقصي الشعب ذاته عن ممارسة دوره في منح الحكم لمن يريد و إقصاء من يريد، فهذا الشعب الذي يعطي حق ممارسة السلطة و الحكم يصبح فجأة قاصرا، و هذا الشعب الذي نجح في انتخاب الأفضل مرة يراد أن يقال له أن عقلك فسد و أهليتك قصرت بعد أشهر قليلة فقط من الانتخابات الأولى، فيضحى مسموحا أن يحدد له من ينتخب و من لا يرى مناسبا للعرض عليه، و هؤلاء الثوار الذين وجدوا ثورا آخرين قد حلوا محلهم، و هذه لجان حماية الثورة التي حلت محلها روابط حماية الثورة.
و أقول في الختام إن الاستبداد لعين لا شك، لكن أسوأ أنواعه على الإطلاق ذلك الذي يمارس باسم الدين، غير أنني لا أفقد الأمل أبدا في التونسيين، فهم شعب ذكي و متوثب و قادر في كثير من الأحيان على تخييب ظنون المراهنين على صبره و جلده و حبه للحياة و الدعة و الهدوء، و لربما قرر التدخل بما أوتي من عزيمة صلبة لكي لا يذبح ثوره الأسود، فيصبح على ذبح بقية ثيرانه من النادمين..حيث لا ينفع الندم.

كاتب وناشط سياسي تونسي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
نوعان
خوليو -

الديكتاتورية نوعان : الفردية والدينية ، الأولى يكون رمزها ديكتاتور فردي يقدم نفسه على أنه أبو الحداثة ويجمع من حوله رجال دين لتبرير أفعاله ويقضي على خصومه بشتى الوسائل :تتراوح بين الحيل والخداع والترغيب وبين القتل والتعذيب والترهيب وتأليب فعاليات المجتمع بعضها على بعض ، هذا النموذج سيطر على جميع الدول العربية من المحيط إلى الخليج ، والديكتاتورية الثانية هي ديكتاتورية دينية تعتمد على مجلس يسمونه مجلس شورى يتشاورون فيما بينهم على كيفية ذبح الشعب على طريقة الديكتاتورية الفردية ، هذا النوع من الديكتاتورية بدأ يظهر ممتطياً على حصان الربيع العربي ، سرعان ما انتبه الشعب له ، والنموذج في تونس ومصر الآن ، في النهاية ستنتصر الديمقراطية الحديثة وستنزوي الديكتاتورية الدينية وتلحق بزميلتها الفردية ، حكم الشعب هو الباقي ولو بعد حين ، وحكم الحياة وبهجتها سيتغلب على العيش من أجل الجنة وأوهامها ، الحقيقة لها قوانينها وتُكتشف دائماً بشكل متأخر ، الأوهام والكذب أسهل للتصديق من الحقائق والحقيقة.

مقال جيد
القحطاني -

مقال جيد يصف جيدا الحالة التونسية الراهنة. الحمد لله أتيحت الفرصة في كل من تونس ومصر ليعرف الناس من هم الإخوان الذين حذرنا منهم سابقا ولم نجد آذانا صاغية.

بدون تعليق
نوفل -

مخالف لشروط النشر