بومة مينرفا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لمفهوم الإختلاف حضور كثيف في التداول الثقافي، حيث يلاحظ بوضوح كمعطى لا يمكن تجاهله، واستعادته بوصفه كذلك ليس جديدا، لكن الجديد والذي قد يصل في تجلياته القصوى إلى أن يتسم بالفتح المعرفي هو تحديدا في مقاربته أخلاقيا، أن يتموضع أخلاقيا ويصبح قيمة، فليس الاختلاف موجودا كمعطى واقعي وحسب وإنما ينبغي أن يكون كذلك، وهو كذلك ليس لتعددية الذوات وبالتالي لتأسيس متواصل لكثرة التأويلات ولكن أيضا لإضفاء معنى من شأنه أن يجمع التعدد والكثرة المحسوسة في وحدة محتجبة ولا مرئية. التأكيد على الاختلاف كشف لهذه الوحدة المتوارية، الوحدة اللامتعينة والتي تتكثف أكثر كلما أمعن الاختلاف في تشتيت الوحدة وتمزيقها، وهو قيمة لأنه دخول في علاقة، هذه العلاقة لها طابع جدلي، تبدو الفلسفة المعاصرة مدعوة لكشفها وتفسيرها معرفيا وتبريرها أخلاقيا.
فلسفيا تتأسس الهوية على الاختلاف، على الانفصال والتمايز. أرادت المثالية تفريغ الهوية من المادة والمضمون، لكنها اصطدمت بتهافت التجريد، إذ في الصعود المتعالي بالهوية نفي لها، ولكن النزول تعيين، والتعيين كثرة، مما يعيد المعرفة للموقف الأول، حيث الإشكالية الفلسفية الأساسية في إضفاء المفهوم على الكثرات، لجأ أفلاطون في معالجة الإشكالية إلى الأسطورة، فالمثال غير متعين عند أفلاطون، لكن أتباعه ملكيون أكثر من الملك، أحالوا الأبستمولوجيا الأفلاطونية إلى أنطولوجيا، فجعلوا من الهوية المطلقة والتي تمقت الاختلاف وتعتلي قمة الوجود تعينا واقعيا، إنها مبدأ السلام إذا لم نقل الركود، وهي معيش التماثل.
وإذا كانت المثالية صعود فالمادية نزول، تلك تؤله الوحدة والأخرى وثنية، إذ أنها تأسيس فلسفي لوحدات، وتبجيل أخلاقي لهويات تتكاثر باستمرار وتمتلئ بمضامين متمايزة وربما منعزلة، لكن المادية وهي تملأ الهوية تدرك أنها تتسم في ذات الوقت بطبيعة متخارجة، إنها تتخارج في تعينها، فمن شأنها التمدد والاقتحام، إنها في صراع ومعركة أزلية، قال هراقليطيس: "الحرب هي أم الأشياء وملكها" إنها الأصل والحيز الممتد بلا نهاية لولادة الأشياء، واستحضار الحرب هو بمعنى ما تمجيد للانفصال الذي يعني تأكيدا جذريا للهوية.
الهوية تغاير، وهي لذلك تمقت التماثل البليد، وفي الحرب تتحدد الهويات وتتعين، أي تختلف، الحرب إذاً مهد الهويات، والفكر هنا ليس سجاليا، ولكن في وفائه لبومة منيرفا، يستعيد الواقع كما هو، إنه إعادة بناء ذهني، فهو الآن فلسفة، أي ذلك النشاط المعرفي العابر للمعارف والذي يتقوم ويستمد وجوده في الوقت نفسه من فروع معرفية عديدة، كاللغة والتاريخ والمجتمع والأنثربولوجيا.
هل نشهد موت الأرباب اللغوية؟ هل ستموت المفاهيم وتنقرض الكليات؟ ما كان لإله سومري أصغى ذات مرة إلى أدونيس أن يدلي بشهادة اعترافه لو لم تواجه اللغة مصير الموت: " صعب على الرب نفسه في هذا العالم أن يكون نفسه".. وهذا نص أدبي ورد على لسان إله سومري، والمعنى فيه مجازي حول المقولات والكلمات التي تؤول إلى مبادئ، إلى كليات مولدة للتشابه والتماهي الذي فيه تموت الهويات وتنزلق الأشياء/ الكلمات في مستنقع الاستلاب والتكرار الأعمى، الرب في هذا النص استعارة أو مجاز لوصف الأرباب التي تتسيد قطيع الكلمات الأخرى، واللغة هنا ترجم لكي يبقى "الرب" على عرشه، ولكنها تعيش فقط حينما لا يكون الرب نفسه، أي حينما لا تكون الكلمات هي نفسها، الكلمة منغمسة في ذاتها، وكل تواصل هرطقة، وحياة اللغة في مجونها، فالكلمة كذات تميل إلى البروز بروحها المعراة، تتعرى اللغة فتحضر الأشياء، إنها محايثة ذاتية كتلك التي نجدها في التصور البدائي للعلاقة بين الأشياء والأسماء، إذ اللغة بيت الوعي والأسماء مفاهيم، ألم يلح كونفوشيوس على أهمية التسمية؟ أن تسمي الأشياء وتجزئ اللغة، تلك هي المسألة وما سواها سفسفطة أو هراء. موت الكلي في اللغة تمجيد للصمت وإمتداح لصخب الشاعر: "لئن كان الكلام نارا، فالصمت أول الجحيم"، كما يقول أدونيس.
والتاريخ بوصفه وقائع هو إمساك بالنسبية، أو إمساك بالاختلاف، وفلسفة التاريخ فلسفة اختلاف، فلسفة تشتيت لوحدة الحقيقة، وكلما تحرك التاريخ كلما تعينت الأشياء، تمفصلت، تمسكت باختلافها وصارت هويات، إنه تاريخ الوعي: تتموضع الأشياء بانفصالها، انفصال الذات لكي تبدو موضوعا لنفسها..
هناك تأريخان، أو وجهتا نظر تاريخية: الأولى تعرض الظاهرة أو الواقعة من حيث هي عابرة، والتاريخ هنا تثبيت، أما الأخرى فتعرضها من حيث حركيتها وديمومتها في التغير والتحول، والتاريخ هنا تسجيل: شريط سينمائي بغير خاتمة. وعليه إذاً هناك مؤرخان: الأول مخرج يمسرح الواقع ويعيد انتاجه دراميا، ويتعامل مع إرادات حية، ولكن الآخر حفار قبور، ينصب اهتمامه قبل كل شيء على الجثث.
وفي الأنثربولوجيا نشهد تتويج حتمي، احتفاء بالاختلاف كواقعة لتنتهي بها كقيمة. مارست الأنثربولوجيا اشتغالها في المجتمعات البدائية لكنها عادت متسللة لتغزو ثقافتها الاجتماعية، فما عادت مركزية كما كانت في البدء، ومع انتفاء المركزية سيعالج كل باحث موضوعه بذهنية المتفرج، فليس ثمة هدف سلوكي للمعرفة التي ستعود إلى طبيعتها الأولى من حيث هي مجرد توصيف أو جمع للوقائع.. لكل ثقافة هنا منطقها الداخلي، الثقافة بنية مغلقة، فهي إذن هوية، إنها مرتع للاختلاف.
زاحمت الأنثربولجيا الفلسفة، فقلصت هذه الأخيرة ميدان اشتغالها إلى أن تبدو هي كذلك مجرد فلسفة للاختلاف، الفكر الفلسفي اليوم يمنح الاختلاف قيمة معرفية، ولكن لطبيعتها بالذات تمارس نشاطها على أرضية لغوية، تشتق وتولد الكلمات وتنتج المفاهيم، فإذا كانت الثقافة بنية مغلقة، فإن الهوية تعين، والأشياء تستمد كيانها في عالم من الحرب والصراع، الفلسفة اليوم على موعد آخر مع الحرب، حيث ثمة استعادة حاضرة للتمجيد الهرقليطي، هي مما تفتقت عنه عبقرية رجل متردد في الفكر، لكنه واثق بأبسط أبجديات الواقع، راديكالي حينا ومحافظ حينا آخر، إنه هيجل، المثالي الذي كان يتنازل في كل صباح ليقرأ أو "يرتل" ما جاء في الصحف، لكي لا يسبق الليل "بومة مينرفا".. فهيجل يعيد إلى الأذهان الوادعة ضرورة الانتباه إلى المنجم الثري الكامن في "رذيلة" الصراعات الفكرية، فالفكر ومعه الواقع يغتني بالخلافات أو لنقل الاختلافات حتى لا يسخط علينا الهانئون في عيشهم الرتيب وطمأنينتهم ويقينهم المعرفي.
هيجل مثالي، لكنه مثالي يحتضن الواقع، الواقع المملتئ بتناقضاته والمثخن باحتكاكه الجدلي "بالروح الكلي": "كل واقعي هو حقيقي"، ولهذا السبب بالذات لابد للمثالي أن يتابع الصحف بل عليه أن يرتلها حسبما يقول لكي لا يتأخر عن تحول هذا الواقع المعشوق وحركيته:
"في السلام تمتد الحياة المدنية وتستقر كل المجالات، وفي النهاية يضيع الناس في بحر، ذلك أن خصائصهم تتحجر شيئا فشيئا وتثبت. لكن الصحة تقتضي وحدة الجسم، فإذا تصلبت الأجزاء حدث الموت.. ففي السلام يحدث هذا التحجر الذي يؤذن بموت المجتمع.. إن هذا الروح الحي هو في نوع ما الفسفور، المادة القابلة للإنطباع، للإحتراق، التي يمكن إضرامها من الخارج والداخل"
يرمز الليل عند هيجل إلى الواقع، و"بومة منيرفا" إلى الفلسفة، وهما في صراع، في علاقة ديالكتيكية لن تنته إلا مع بزوغ فجر لن يأت، من يسبق الآخر، الليل أم بومة منيرفا، ذلك هو الجدل الهيجلي، إن هيجل، وقبله مفكر الصيرورة ممجد الحرب والنزاع، يهمس في آذاننا باستمرار، نحن المتعبين من ويلات النزاع والصراع المؤرق بأن العالم والتاريخ مجرد مسرح في غابة، غابة تتحرك نحو انسجام وتعايش، لكنه بعيد وسيظل بعيد، ومنطق الغابة هو النزاع، أما السلام فهو هدف مرجو ولكن بوصفه مجرد "مثال".
وإذا ما توغلنا أكثر في فلسفة هيجيلية فإننا سنكون أوفياء لبومة منيرفا، وسيكف الواقع عن أن يكون محفلا لممارسة عمليات الاستنساخ، كما واقعنا العربي. في الغرب سبقت "بومة منيرفا" الليل بمعالجتها الجريئة لإشكاليات الاختلاف، بتمثله كمعطى ثابت، إن لم يكن قيمة، أما في عالمنا العربي فالواقع مغتصب لصالح ممارسات سادية تفرض تماهيا زائفا. ومع الربيع العربي تبدو الفلسفة والفكر مثل بومة منيرفا وقد طلع النهار: إنها هروب إلى الأمام أو الخلف!