منظمات المجتمع المدني المصرية بين الدعم والمحاكمة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
حسن عبد ربه المصري
تدور بين القاهرة و واشنطن منذ منتصف شهر ديسمبر الماضي معركة عض علي الأصابع، نأمل أن تنتهي لصالح الشعب المصري ومؤسساته السيادية، خاصة في ضوء التأكيدات التى تتناقلها المصادر الإخبارية علي لسان كبار مسئولي حكومة الدكتور كمال الجنزوري وقيادات القوي السياسية المختلفة التى تنوه بحق مصر في وضع الإشتراطات القانونية التى تنظم إطار عمل منظمات المجتمع المدني..
والتى كان آخرها رفض المجلس الأعلي للقوات المسلحة لأسلوب الإبتزاز الذي تمارسه أطراف أمريكية عدة لتخيير مصر بين أمرين لا ثالث لهما :
إما الإستمرار في محاكمة المحتجزين - بينهم 19 أمريكي - رهن التحقيق، وتحمل تبعات وقف أو تقليص المعونات السنوية الإقتصادية والعسكرية التى تقدمها الولايات المتحدة الأمريكية لمصر منذ حوالي ثلاثة عقود.. وإما تفضيل الحصول علي تلك المعونات في مقابل اغلاق ملف هذه المحاكمات ورفع يدها عن منظمات المجتمع المدني بعامة والتى تعمل كفروع لمنظمات أمريكية بصفة خاصة..
لا أدعي أن القوانين التى تنظم عمل منظمات المجتمع المدني في مصر أو في غيرها من الدول العربية والكثير من الدول الإسلامية، واضحة وصريحة بأعلي نسب العدل والمساواة التى تتوافر لها - أي لهذه المنظمات - في دول غربية ذات تاريخ طويل في تعاملها مع هذه المنظمات..
وعلي نفس المستوي لا يمكن لخبير أن يدعي ان هذه المنظمات خاصة التي تمثل أفرع أو إمتدادات لمنظمات دولية أمريكية أو اوربية، تعمل من داخل مصر لمصلحة شعبها بنية خالصة للإصلاح والتطوير والتحديث !! لأن كافة التقارير الحيادية تعترف أن لبعض هذه المنظمات نشاط إستخباراتي وأمني يصب أولاً وأخيراً في مصلحة الدول الكبري التى ترعاها وتكفل لها الحماية وتساهم في الترويج لأهدافها الرامية التى التحول نحو الديموقراطية وترسيخ حقوق الإنسان والإنفتاح علي آليات السوق الحرة.. الخ..
القصور القانوني الذي تعاني منه حركة منظمات المجتمع المدني في مصر وكذا حريتها في التناول والتعبير، يرتبط عند القائلين به في المقام الأول بـالحق في..
أ - التعامل مع كافة القضايا المجتمعية والسياسية بلا حظر أو تحجيم
ب - الإنتشار والتواجد علي مستوي المحافظات دون قيود مهما كانت الأسباب
ج - تلقي الأموال الداعمة بكافة الوسائل وإنفاقها وفق الاحتياج، دون حاجة للشفافية
هذا القصور الذي تعاني منه القوانين المصرية المنظمة لعمل منظمات المجتمع المدني، يتوافق بنسبة أو بأخري مع وجهة النظر المصرية المتشككة حيال عمل هذه المنظمات..
قد يكون الاطار القانوني الذي يتعامل مع هذه المنظمات في حاجة إلي تعديل وتغيير !! وقد يكون في حاجة إلي إعادة نظر.. لكننا يجب أن نقرر من البداية أنه متفق مع الفكر القانوني السائد علي مستوي الدولة فيما يتعلق بهذه المنظمات الجديدة علي الحياة السياسية، ويكاد يكون متناسق مع محدودية قناعة بعض قطاعات من المجتمع بـ " حدود حق المجتمع المدني " في أن يكون شريكاً في تشكيل الوعي المجتمعي المصري وأن يكون مساهماً في تطوير رؤيته المستقبلية الناهضة..
الولايات المتحدة التي تختلف جملة وتفصيلا مع هذه الرؤية، تري..
- أن المجتمع المدني القوي، ضرورة هامة لضمان إزدهار الديموقراطية تحت نظام اي حكم، خاصة في المناطق التي لها فيها مصالح قوية أي كان مجالها..
- أن هذا المجتمع هو الركيزة الأساسية لتزويد الدول بالطاقة اللازمة للإنطلاق نحو المستقبل..
- وأنه طالما أن مجتمعها - أي أمريكا - يضم مجموعة واسعة من المنظمات التى تسمح للأفراد والجماعات بتحقيق تطلعاتهم الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، فمن الضروري أن تتضمن المجتمعات الأخري مجموعات مماثلة محلية ودولية..
- وما دامت قوانينها قد صيغت بحيث لا تؤثر علي حركة المنظمات غير الحكومية، بل لمساعدتها علي القيام بدور ملموس ومؤثر في العملية السياسية الأمريكية الفيدرالية وأيضاً علي مستوي الولايات، فمن الممكن ان تَصيغ انظمة الحكم الأخري قوانيها بحيث تؤدي إلي نفس الهدف..
علينا أن نوضح، عند هذه النقطة، أن القوانين الأمريكية تلك لم تولد صائبة - هكذا - منذ بزوغ فجر الإستقلال الأمريكي، ولم تتبلور توجهاتها بذلك الكم من الشفافية من أول يوم.. لكنها مرت بتطورات كثيرة وتحولات أكثر حتى استقر - بعد عقود عديدة - إطار تعاملها الحالي مع المجتمع المدني الذي يضم نحو مليون ونصف مليون منظمة غير حكومية تتنوع نظرة الولايات الأمريكية الخمسون إليها وفق احتياجات ومفاهيم كل منها علي حدة، وإن كانت تتفق فيما بينها علي المبادئ الرئيسية..
وبرغم الدعايات الإعلامية والسياسية الأمريكية التى تروج لمفاهيم الحرية والعدالة والشفافية التى تتسم بها " الأليات " التى تحكم عمل منظمات المجتمع المدني وتمنحها حرية الحركة وتنظم مصادر التمويل والعمل، والمشاركة في بلورة رؤية صحيحة فيما يتعلق بالقطاع المجتمعي او الخدمي التى تتبناه.. ألا أن النظرة المتعمقة في القواعد الفيدرالية وقوانين الولايات التى تحكمها ستلاحظ بدقة النقاط الهامة التالية التى حرص المشرع الأمريكي علي ضرورة الأخذ بها :
1 - إشهار صفة " غير الربحية " يجب أن يتوافق مع القوانين الخاصة بكل ولاية
2 - طلب الإستفادة من الإعفاءات الضرائبية المتنوعة أو بعضها يجب أن يكون علي أسس قانونية واضحة
3 - تحديد الأغراض الأساسية لعمل ونشاط كل منظمة بشكل واضح ودون تحايل للتفرقة بين ما هو سياسي وما هو غير سياسي
4 - كل ما يتعلق بقضايا الهجرة وتأشيرات السفر وتمويل الحملات الإنتخابية ونشاطات جمعيات المصالح / الضغط " اللوبي " وتمويل الإرهاب وتبيض الأموال، لا يندرج تحت مسمي منظمات المجتمع المدني
5 - المنظمات الأجنبية غير الحكومية لها الحق في أن تمارس نشاطها داخل الولايات الأمريكية بشرط أن تسجل نفسها بإعتبارها غير ربحية، وأن تحصل علي رخصة بذلك
6 - يجب أن يرتبط التمويل الداخلي والخارجي بالشفافية وفق القوانين الخاصة بذلك
7 - علي كل من يحمل صفة " وكيل لمنظمة أجنبية " ان يسجل نفسه لدي وزارة العدل الأمريكية بهذه الصفة موضحاً بدقة صفة الوكيل الذي ينوب عنه في العمل، وأن يقدم دورياً البيانات الخاصة بنشاطاتهم ومصادر التمويل التى يحصل عليها ونفقاته ذات الارتباط بهذا النشاط..
هذه الإشتراطات لا تنفي أن لكل مجموعة من الأفراد، الأمريكيون وغير الأمريكيون، الحق في تشكيل منظمة غير حكومية من أجل مناقشة الأفكار والمصالح المشتركة.. وان هناك عدد كبير من هذه المنظمات غير مدرج لا بالسجلات الفيدالية ولا بسجلات الولايات.. وأن خطوات التسجيل في حد ذاتها بسيطة وغير معقدة او مكلفة.. وانه ليس هناك اشتراطات حكومية معقدة تسبق التأسيس..
وهكذا يتضح لنا أن..
ملف المنظمات المدنية غير الحكومية في داخل الولايات المتحدة تحكمه قوانين ولوائح صارمة، في نفس الوقت الذي تمارس فيه أطراف كثيرة من داخل واشنطن لعبة عض أصابع الحكومة المصرية لكي تدفعها للإفراج عن الـ 43 شخص المحتجزين - من بينهم 19 أمريكي - في دوائر التحقيق المصرية بسبب قيامهم بنشاطات من خلال منظمات مدنية غير حكومة تزاول نشاطها في مصر " بغير ترخيص " مما يُعد من وجهة النظر المصرية " مخالفا للقانون "..
قلنا ان القانون المصري في هذا الخصوص قد يكون معيب، وقد يكون الأجهزة المسئولة عن تسجيل المنظمات غير الحكومية مغرضة وقد يكون القائمون عليها غير واعين لأهميتها.. لكن هذا لا يعطيها الحق أن تعمل بغير سند أو ترخيص، ولا أن يمارس العاملون بها نشاطهم بشكل غير شرعي.. ومن ثم لا يعطيها الحق في ان تتلقي الملايين من دولارات الدعم التي جاءت الإشارة إليها علنا ضمن المؤتمر الصحفي لقضيا التحقيق - 8 فبراير - وأن تنفقها بغير شفافية إلي الدرجة التى تجعل إحداها تحتفظ بمليون جنية مصري عداً ونقداً في واحد من مكاتبها !!..
وقال البعض إن توسيع نطاق هذه القضية بالشكل الذي يمارسة المجلس العسكري الحاكم في مصر من 11 فبراير 2011، يمثل جذباً للرأي العام الداخلي والخارجي بعيداً عن مساوئ
الادارة التى ترتبت علي تولي أعضاؤه المسئولية منذ عام مضي..
وقال كبار المتحدثين في واشنطن بإسم البيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع وأعضاء الكونجرس، أن موقف مصر المتعنت تجاه المنظمات غير الحكومية الأمريكية التي تمارس نشاطها من فوق أراضيها " سيؤثر تأثيراً سلبياً علي بنود المعونة الإقتصادية والعسكرية ضمن ميزانة عام 2012 / 2013 " وربما ينتهي الأمر إلي وقفها تماماً ولو بشكل مؤقت..
وقالت بعض التقارير العالمية أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة يريد من خلال " تصادمه الزاعق " مع الإدارة الأمريكية، أن يبرهن بشكل عملي ملموس علي حرصه علي تفعيل بنود السيادة المصرية علي مصير مقدراتها المستقبلية وأن يساوم واشنطن علي أن تختار بين امرين :
الأول.. الإبقاء علي حجم المعونات بحجمها الحالي بعيداً عن ملف منظمات المجتمع المدني، مقابل الإبقاء علي مصالحها الإستراتيجية في المنطقة بكل مشتملاتها دون مساس..
الثاني.. تقليص حجم المعونة أو إيقافها نهائياً علي حساب المحاكمات القانوينة لبعض العاملين في تلك المنظمات المخالفة للقانون، وتحمل النتائج الكارثية التى قد تترتب علي ذلك الفعل علي مستوي المنطقة كلها..
تقول أوراق التحقيق المصرية - التي أرسلت صورة منها إلي السفارة الأمريكية بالقاهرة - أن ما عثر عليه من أوراق وملفات وما أدلي به المشتبه فيهم من إعترافات وشهادات وما أزيح الستار عنه من معاملات مالية " لا يدخل تحت مسمي نشاط المنظمات غير الحكومية "..
أما وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون فتقف علي طرف نقيض مما جاء في هذه الاوراق بقولها " أنه لا يوجد أساس قانوني للتحقيقات " مؤكده أنه ليس من حق الحكومة المصرية " أن تدهم مكاتبها وتصادر ممتلكاتها وأموالها "..
ويقف ثلاثة من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي موقفاً متشدداً من الإجراءات القانونية المصرية، ليس من خلال ما يرونه من قصور في بنود القوانين أو خطأ في التطبيق.. ولكن من زاوية تأثيرها السلبي علي مجمل العلاقات المصرية الأمريكية، وحجم المعونة التى سيقررها مجلسهم لمصر في السنة المالية التالية..
لكننا لم نسمع من الجانب الأمريكي رد علي ما ذكرته فايزة أبو النجا وزيرة التعاون الدولي في الحكومة المصرية أمام لجنة حقوق الإنسان بمجلس الشعب - 7 فبراير - من أن هناك أكثر من 80 منظمة مدنية أمريكية تعمل في مصر وفق مواد القانون دون اي منغصات ولم تتعرض لمدهمات، لأنها سبق " ونجحت في توفيق أوضاعها وفق مواد القانون "..
كما لم نسمع تعليق علي ما أشارت إليه من ثبوت تدخل المنظمات الأمريكية المدانة - المعهد الجمهوري والمعهد الديموقراطي وبيت الحرية - في العملية السياسية عن طريق إنفاق ما قيمته 60 مليون دولار لدعم جانب كبير من فاعليات الإنتخابات التشريعية الأخيرة في مصر.. ولا تبرير لمستوي إنفاقها - أي تلك المنظمات - الذي بلغ 170 مليون دولار بين شهري
مارس ونوفمير عام 2011، مقارنة بحجم ما انفقته خلال الفترة بين عامي 2006 و 2011 والذي لم يتعد 60 مليون دولار !!..
الأمر في رأينا يحتاج لرؤية توافقية علي المستويين الأمريكي المصري..
- علي واشطن أن تكيل بمكيال واحد فيما يتعلق بمنظمات المجتمع المدني غير الحكومية العاملة في مصر.. أن تعترف من ناحية بحق الحكومة المصرية في تطبيق القانون حتى لو كان معيباً حتى يتم تعديلة إلي ما يراه الطرفان اكثر ملائمة للأوضاع، وأن تقف بقوة إلي جانب حق أجهزتها ها في فرض الشفافية علي كل ما يتعلق بأموال الدعم الذي يصل إليها وسبل انفاقه..
- علي القاهرة أن تؤمن بأن تعزيز قدرات هذه المنظمات وفق متطلبات التطوير والأصلاح التى تتطلع إليها ثورة 25 يناير المصرية والقوي السياسية التى تدعمها، يصب في مصلحة إستقرا المجتمع وسبل تحديثه.. ومن ثم عليها أن تُعدل من القوانين التى تنظم عملها بما يتيح لها أن تقوم بواجباتها في خدمة المجتمع كعنصر من عناصر إستقراره و أمنه..
يبقي سؤال تفرضة ظروف التوتر التى تمر بها العلاقات المصرية الأمريكية اليوم، كما فرضته لحظات توتر مرت بها من قبل.. هل في مقدور نظام الحكم المصري أن يستغني عن المعونات الإقتصادية والعسكرية الأمركية ؟؟..