علم نفس ما بعد الحداثة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
في مقالنا السابق حول "فرويد بين الحداثة وما بعد الحداثة"1و 2 (ايلاف في 16 و29 فبراير) أشرنا الى ان تحليل سيغموند فرويد (1856- 1939) للنفس البشرية يتعارض مع المفاهيم الفلسفية التي تقول بطبيعة الانسان العاقلة وان الانسان يتميز عن الكائنات الحية الاخرى بامتلاكه العقل واللغة. وهو بهذا يقدم لنا فلسفة مغايرة تقول بان السلوك البشري ليس موجها بالعقل، كما يظن بعض الفلاسفة، وانما بما هو اقوى من العقل واكثر تأثيرا في السلوك البشري: انها الدوافع، التي هي غرائز لا عقلانية تؤثر على حياتنا الاجتماعية وحضارتنا الانسانية. كما رأى فرويد بان التحليل النفسي هو الذي يغوص في اعماق النفس البشرية لاكتشاف دواخلها المكبوته في اللاشعور. وليس من الغريب ان يؤول التحليل النفسي الى نظرية تؤول الاخلاق والدين والاساطير والاخطاء العفوية، بحيث ان تأويل هذه الامور حسب مفهوم الرغبة الجنسية عند فرويد، يقودنا الى حقيقة اساسية تجري على الانسان مثلما تجري على باقي الكائنات الحية.
ومع ان تفسير فرويد لا يعود في الحقيقة الى الاساس البايولوجي، بقدر ما يعود الى الاوضاع الاجتماعية والثقافية والدينية، التي صنعت النظام الابوي ـ البطريكي، فان نظريته ما تزال موضع اهتمام كبير. وينبع هذا الاهتمام من انه مكتشف طريقة التحليل النفسي، التي تطورت على يد تلامذته المقربين، الذين يطلق عليهم "بالفرويديين الجدد". وان اعماله العديدة وتجاربه السريرية وخبراته في التحليل النفسي ستظل تثير بدون ادنى شك كثيرا من السجال والنقد في المستقبل.
والواقع، ان من اهم مميزات فرويد كعالم نفس ومفكر وفيلسوف، انه مجدد وشجاع بتحديه النظريات التقليدية في دراسة العقل البشري والسلوك الانساني رغم الانتقادات العديدة التي وجهت الى نظريته وبخاصة نظريته في الاحلام وتلازم الكبت مع الجنس بقوة وادعاءه بكون الطفل كائن جنسي تعرض لقمع على يد ابويه، اضافة الى عقدة اوديب وعقد الاخصاء عند النساء. وغالبا ما يصطدم المرء بادعاءات تفتقر الى دليل، حيث يخلط فرويد بين المتعة بشكل عام وبين المتعة الجنسية تحديدا.
ان نظرية فرويد لم تستطع في الحقيقة وضع حد للصراع والتناقض بين الانسان وذاته من جهة، وبينه وبين المجتمع من جهة اخرى. وهو يحذر من الازمات التي تجابه البشرية، التي لا بد وان تحدث انفجارا مدمرا على مستوى الفرد وكذلك على مستوى المجتمع. ان هذه النظرية التشاؤمية جعلت الفرويديين الجدد يستبدلون نظريته بنظريات اخرى على نمط نظريات ما بعد الحداثة.
علم نفس ما بعد الحداثة
اذا كان علم نفس الحداثة يعني بشكل رئيس بدراسة الظواهر والحالات النفسية ذات الطابع العام، بهدف استنباط قوانين وقواعد ذات طابع شمولي تنطبق على البشر في كل الامكنة والازمنة، فان علم نفس ما بعد الحداثة يفصل فصلا تعسفيا بين ما هو ذاتي وبين ما هو موضوعي ويؤمن بان دراسة اية ظاهرة نفسية ينبغي ان لا تؤدي في نهاية الامر الى صياغة نظريات او مبادئ ذات طابع شمولي ثابت، ويشغل نفسه بما هو محلي وفرعي وهامشي وبالمشاركة الفعالة في الحياة اليومية. وبهذا تكون المعرفة التي يكتسبها ذات طابع زمني ومكاني محدد وتفتقر الى البعد التاريخي والجغرافي. وبحسب علم نفس مابعد الحداثة فان التحليل النفسي الفرويدي بحاجة الى اعادة صياغة آيديولوجية على نمط مفهوم ما بعد الحداثة بهدف تطور علم نفس يقوم على ثلاثة محاور هي: التقدم التقني والنقد الثقافي وتطوير آفاق جديدة للتفكير والعمل لخلق بدائل جديدة ذات طابع معرفي شعبي وديمغرافي والتأكيد على اهمية الخبرة الشخصية في الحصول على المعرفة على حساب دور النظرية في تكوين المعرفة، وبالتالي خلق علم نفس تأويلي جديد.
وكان اريش فروم(1892- 1940 )عالم النفس الاجتماعي، أحد اعضاء مدرسة فرانكفورت النقدية، من الأوائل الذين طوروا اتجاها خاصا في التحليل النفسي ووضع مقدمات نظرية في "نسق الاخلاق" في اطارها الانساني، موجها انتقاداته الى الفرويديين الذين ما زالوا يستخدمون طرقا بيروقراطية قديمة في التحليل النفسي، محاولا دمج التحليل النفسي بالنظرية الماركسية مع اختلافه معها، مؤكدا على ضرورة عدم فصل الانسان عن اوضاعه الاجتماعية.
بعد قراءته لكتاب "حق الام" لباخوفن الذي صدر عام 1861 حدث تحول هام في فكر فروم واخذ موقفه من نظرية فرويد يتغير بالتدريج وبخاصة موقفه من اللبيدو وعقدة اوديب، وذلك عن طريق تجاربه وخبره السريرية من جهة، وتطوير نظريته في علم النفس الاجتماعي من جهة اخرى. مؤكدا على ان النزعة المسيطرة في المجتمعات الاوربية ذات المعايير البرجوازية تقوم على تعميم تجاربها على جميع المجتمعات، كما في عقدة اوديب عند فرويد وغيرها، التي ترتبط بالمجتمعات ذات النزعة الابوية البطريركية، مؤكدا على العلاقة التي تربط بين " روح الرأسمالية " وبين السلوك الأوديبي. وبهذه العلاقة ربط فروم بين العقلانية الاوربية وبين غريزة التملك والتزمت والكبت من جهة، وبين قهر النظام الاجتماعي من جهة اخرى، ولم يعد يلتزم بالطريقة الفرويدية في التحليل النفسي بقوة، ثم اعلن انفصاله عن فرويد ومدرسته وانتقده ورماه بضيق الافق.
لقد كان فرويد ابنا بارا لعصر التنوير مستكملا مسيرة النظريات التطورية، مقتبسا من الدارونية بحثها عن اسباب النشوء والارتقاء لاشكال الحياة، ومن ماركس تنقيبه عن الاسباب الحقيقية والمحركة في تشكيل الوعي الاجتماعي، كما اخذ عن نيتشه انحيازه الى تلبية الرغبات من اجل البقاء في الحياة، ساعيا الى الاخذ من كل نظرية منها جزءا ليكون من تلك الاجزاء نظرية مقننة حول السايكولوجية الانسانية التي تمرد فيها على عصر التنوير.
وبحسب علم نفس ما بعد الحداثة فان علم النفس الفرويدي بحاجة الى اعادة صياغة آيديولوجية على نمط مفهوم ما بعد الحداثة بهدف تطور علم نفس جديد يقوم على ثلاثة محاور هي: التقدم التقني والنقد الثقافي وتطوير آفاق جديدة للتفكير والعمل لخلق بدائل جديدة ذات طابع معرفي شعبي وديمغرافي والتأكيد على اهمية الخبرة الشخصية في الحصول على المعرفة على حساب النظرية، وبالتالي خلق علم نفس تأويلي جديد.
وتعتبر نظرية علم نفس ما بعد الحداثة للمحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان(1901- 1981) Gacques Lacan امتدادا لنظرية فرويد ومراجعة لها في ذات الوقت. حيث اطلق لاكان صيحة العودة الى الفرويدية، ولكن لاعادة قراءتها من جديد، في محاولة لفهمها وتصحيحها واعادة صياغة مفاهيمها وتصحيح مسار التحليل النفسي حتى يضع فرويد في مكانه الصحيح ويفتح بالتالي عالم التحليل النفسي على افاق جديدة تجمع بين الانثوربولوجيا وعلم اللغات والفلسفة والرياضيات، في محاولة لتحرير التحليل النفسي من جذوره البايولوجية والفسيولوجية وربطه بالطب النفسي، معتمدا على علم اللغة البنيوي كما تطور عند دي سوسير ورومان جاكبسون وغيرهما، معتبرا الاوعي بنية لغوية. وبذلك اعاد تفسير كثير من المقولات الفرويدية كالغريزة الجنسية وغيرها.
كما انتقد لاكان صورة الذات التي يقدمها التحليل النفسي الفرويدي، وهي صورة مغايرة للنزعة الانسانية الليبرالية للذات كفاعل اخلاقي حر ومستقل وبصورة خاصة في عقدة اوديب وعقدة الكترا، التي اثارت سجالا حادا لدى العديد من النقاد ومن بينهم لاكان، الذي وضع "بنية علائقية" تنتج مجالا للاختلاف مع المخطط التطوري الذي وضعه فرويد. فهو يرى بان المرور من المرحلة الفمية يشكل حدثا حاسما حيث يكون الطفل موضعا للانطباعات والخيال حتى دخوله عالم اللغة الرمزي الذي يقتضي قبول اللغة والانظمة الاجتماعية والثقافية المهيمنة في محيط الطفل، والتي يطلق عليها لاكان "المنظومة السلطوية الكبيرة" التي تقر بالطبيعة الابوية والهيمنة الذكورية كبناء ثقافي وليست كمعطى آيديولوجي. وبهذا يصبح القضيب رمزا والذكورة مصدرا وحيدا للسلطة والقوة.
واذا كان فرويد يرى بان الكبت هو الذي يؤدي الى تشكيل اللا شعور في اطار العائلة النووية. فان لاكان يرى بان الكبت هو النتيجة المباشرة للدخول في النظام الاجتماعي. فهناك علاقة مباشرة بين الطبيعة الكبتية للغة والثقافة ونشأة اللاشعور.
ان علم نفس ما بعد الحداثة، رغم توقعاته، هو محاكاة لعلم الفيزياء الكلاسيكية، الذي يساوي بين العقل والدماغ. فهو يدعي ان كل الفعاليات العقلية يمكن فهمها والتنبؤ بها عن طريق استخدام قوانين فيزيائية تتحكم في سلوك الذرات والجزئيات المكونة للدماغ البشري. وبذلك ينفي قدرة الانسان على الاختيار ويعتبر مفاهيم التحرر والانعتاق هي مفاهيم لا فائدة منها ويدعو الى التكيف مع المجتمع وتكريس الواقع الاجتماعي مهما كان تعسفيا وبعبارة اخرى، انه علم نفس المؤسسة الرسمية.