أصداء

هل تغير مفهوم "السلطة " بعد الثورات؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


"السلطة" : نظام هيمنة أم استراتيجية تداول؟

يواجه المناضلون السياسيون عقب ثورات ما بات يُعرف بالربيع العربي أزمة فكرية تتعلق بالسلوكيات التي هي إخراج للسيناريو الفكري الذي نظرّوا له دون ان يكونوا فاعلين فيه على الحقيقة. فطيلة عقود خلت عملوا على تحليل الخطاب الأيديولوجي أو تأسيس خطاب "دوغمائي" بديل، بيد انهم بقوا بعيدين كل البعد عن نبض الشارع الذي سبقهم بفطرية تلقائية بأشواط معلنا شعار "الشعب يريد اسقاط النظام ". وفيما عمدوا الى التوصيفات الفكرية المطولة واصدار الكتب الرصينة النخبوية من خلال المؤسسات الثقافية والاعلامية التقليدية التي قلما تجد من يتابعها من شرائح المجتمع، كان الشباب ينسجون افكارهم عبر الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بعبارات خفيفة قصيرة عارية عن المصطلحات العريضة متجاوزين بذلك كل عمل مؤسساتي بيروقراطي ممل.

غير ان النبض الثوري الشبابي خفت ليتلاشى لصالح النخب والأحزاب التقليدية والمولدة التي انبثقت، مما ادى الى سلطات تعمل على "هضم الثورة" لاعادة انتاج "السلطة " السابقة بمسميات أخرى؛ حيث تمر هذه العملية بطبيعة الحال عبر "المثقفين " و "الاعلاميين " وغيرهم وذلك بهدف تأطير الحقائق بشكل يتلائم مع الوضع الجديد القائم.

وبهذا التوصيف فإن مفهوم "السلطة" لم يتغير بعد الثورات، بل بقي كأداة ايديولوجية وقمعية تسعى لاعادة انتاج شروط الانتاج وعلاقاته بهدف تغليف تناقضات المجتمع الثائر بحيث بقي الفكر السياسي هو المحتكر الوحيد لمفهومها بينما كان من المتوقع ان يتفكك هذا المفهوم لتوليد قيم جديدة من خلال الانطلاق من أرضية متحركة لعلاقات القوى في المجتمع بحيث لا يعود مفهوم السلطة مرتبط برأس الهرم، بل تكون مولدة متفاعلة في ما بين كل العناصر مكونة بذلك شبكة تواصلية بين كل الاطياف المتعددة التي تتكون منها عناصر الانتاج.

من هنا فإن "السلطة " بالمعنى المتوقع بعد الثورة ينبغي ان تكون "استراتيجية حركة وممارسة تداولية" تتحول من خلالها القوى وتتجسد اهدافها في مؤسسات ديموقراطية وتتبلور بقوانين تعتمد على احترام الحريات تساهم بتأسيس دولة المدنية حقيقية. بيد ان الواقع والمعطيات لم تشر الى ذلك حتى الان طالما ان جوهر المفاهيم المؤسسة للأفعال الديموقراطية لم يتبلور بعد.

ان معظم النظم السياسية السائدة في الدول النامية تعاني شعوبها من القهر المتراكم منذ عقود طويلة، وهي وان تعددت أشكال حكمها بين نظام ملكي وآخر جمهوري وثالث قبلي بيد انها جميعا ذو طابع توتاليتاري او ديكتاتوري مباشر او مقنع بحيث ان السلطة تتمثل بأشخاص بعينهم لفترات حكم لا متناهية وان انتقاد اي منهم يعني المساس المباشر بالدولة وامنها. فالوطن بكامله يتلخص في شخص واحد، ولنفترض جدلا ان هذا "الرجل صالحا كل الصلاح "، وهو امر متعذر على الحقيقة فإن الامم لم تجتمع يوما على نبي فكيف على "الزعيم " الذي يفوز على الدوام ب"الاجماع" او بنسب تقارب الكمال؛ وفيما نجد ان الدول المتقدمة التي تتحلى بانتخابات حقيقية وتتميز بحكم تداولي والرئيس فيها ليس الا "موظفا" عند الشعب يعمل ويُحاكم أداؤه فإن الصورة للمسؤوليين في الدول المتخلفة تكاد تكون "كاملة ومثالية " بحيث يُخيل للمطلع على "انجازتهم" التي تنسب اليهم انه امام شخصيات أسطورية قادرة على فعل "المعجزات"؛ ولا "ضير" في ذلك ربما ان تحقق شرط الحرية والازدهار الاقتصادي بيد ان الامر يصبح غير محتمل في الدول الفقيرة التي يتغلل فيها الفساد والعوز و ينتشر فيها القمع المباشر.

وفي وقت أعرب فيه الرئيس الألماني الأسبق رومان هيرتسوغ هذا الاسبوع عن تأييده لتقليص فترة الرئاسة في ألمانيا لتكون فترة واحدة لسبعة أعوام فقط بدلا من إمكانية وصولها إلى عشرة أعوام وفق النظام الحالى الذي يتيح الترشح لشغل المنصب لفترتين (عشر سنوات).معتبرا انه"إذا مرت الخمس سنوات الأولى بشكل جيد فإن الشعب ينتظر من الرئيس معجزات في الفترة الثانية وليس بوسع الرؤساء صنع المعجزات".فإن معظم الرؤساء في الانظمة "العربية " يجدون في انفسهم ما يصلح مدى الحياة ليورث بعد الممات وانهم اصحاب "معجزات" مستمرة.

على اية حال فان النجاح الباهر الذي حققته الثورات السلمية مهدد اليوم بالفشل لاسباب عديدةمنها التفتيت المفتعل وتحويلها الى جزر أمنية وسياسية وعقائدية يُخشى من ان تفضي الى حروب "طائفية " او "مذهبية " او "قبلية " او حتى "حزبية مسلحة" تحت شعارات من شأنها ان تنفي الآخر او تحتقره، فيما تعمل الدول الغربية والاقليمية على تمرير مشاريعها عبر هذه الاقنية مستفيدة من الاقتتال بين ابناء الشعب الواحد، حيث ان هذه الدول غير مهتمة بانعاش ديموقراطية وحرية الشعوب المقهورة الا بالقدر الذي يمكنها من تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية المتمثلة بتسريع دورة رأس المال وتأمين مصادر الطاقة عبر وسيلة تنميط المجتمعات لخدمة اهدافها التجارية ناهيك عن الاهداف الجيوستراتيجة لها. فالانسان بالنسبة لها رقم يدخل في جداول "الاقتصاد " وهو " المستهلك " بالدرجة الأولى.
وهذا ما يفسر لنا بوضوح ملابسات التدخل السريع في ليبيا فيما لازال الموقف من الشأن السوري يراوح مكانه حيث انكفأت الدول الداعمة مكتفية بعبارات الشجب وبعض الضغوط الاقتصادية الشكلية.

وتبقى ثورات الربيع العربي غير منجزة ومخاضها على ما يبدو عسيرا للغاية ما لم يتحقق تحول فعلي في بنية العقل والوعي بحيث يتمكن المجتمع من تفويت الفرصة على جميع اللاعبين داخليا وخارجيا لعدم تحويل المنطقة الى بؤرة فوضى ونزاع مستمر يكون فيها الشعب المنتفض على الظلم الخاسر الأول والأخير!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف