فضاء الرأي

الدستور ”والربيع العربي"

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان

كتب الوزير ألبريطاني ديفيد هول، في عام 2006 بجريدة اليابان تيمز يقول: المؤسسة الأمريكية يبدو أنها لم تستوعب الواقع الجديد الذي تشاهده بوضوح الشعوب الأخرى بأن السلطة والنفوذ قد انتقلت من الجمهورية الأمريكية ألعظمى ولن تستطيع أساطيلها تغير هذا الواقع للسببين: الأول هو أن عصر رقائق الميكروشبس الالكترونية قد بعثر السلطة والقوة والمعلومة إلى جم غفير من المراكز الصغيرة، وفي أيد جديدة سيئة. لقد أعطت الأسلحة التكنولوجية الصغيرة وتكنولوجية الاتصالات والانترنت مجموعات صغيرة مشاغبة قوة توازي قوة الجيوش الجرارة، فالصغير أصبح مهلكا والكبير أصبح مترهلا وعرضه للهجوم. والسبب الثاني هو المشاركة الجديدة للبلايين من الرأسماليين الجدد المتحفزين والذين التحقوا باقتصاد العولمة، وجلبوا معهم كمية هائلة من القوة المالية، ويجب على واشنطون العمل معهم كند متساوي، إذا أرادت الولايات المتحدة المحافظة على مصالحها.
فإذا لم تستطع الدولة الأعظم أن تقاوم رغبة الشعوب لحياة كريمة فلن تستطع أنظمة ما سمي بالربيع العربي في الاستمرار أن لم تحترم كرامة شعوبها، وذلك بوضع دساتير متطورة، بعد حوار وطني صادق وبالعقل والحكمة. وقد عرضت صحيفة ايلاف في الرابع والعشرين من مارس الماضي التحديات التي تتعرض له هذه الانظمة الجديدة في مقال يقول: أعلن النواب الليبراليون في البرلمان المصري انسحابهم من جلسة التصويت الحاسمة لاختيار اعضاء اللجنة التأسيسية التي ستتولى وضع الدستور الجديد. وأعلن نجيب ساويرس مؤسس حزب المصريين الاحرار بان جميع نواب الحزب انسحبوا من هذه الجلسة المشتركة لمجلسي الشعب والشورى. متحدثا بذلك باسم الائتلاف المكون من احزاب مدنية ويسارية هي المصريون الأحرار والمصري الديمقراطي والثورة مستمرة. وقال ساويرس: "أنها مهزلة ان تضع الدستور قوة واحدة قوة واحدة فقط، فقد بذلنا كل ما في وسعنا لكن بلا جدوى." وبعد سلسلة من الاجتماعات التمهيدية سيختار البرلمان المصري اعضاء اللجنة التأسيسية المائة المكونة من 50 من اعضاء مجلسي الشعب والشورى و 50 من الشخصيات العامة وأعضاء الهيئات والنقابات. وخوفا من هيمنة قوى الاسلام السياسي على اللجنة دعت العديد من الحركات المدنية والليبرالية إلى تنظيم مسيرات باتجاه مركز المؤتمرات في القاهرة حيث يجتمع نواب الشعب والشورى.
لقد دخلت منطقة الشرق ألأوسط مع بدايات القرن الحادي والعشريين مرحلة جديدة من تطورها ألتاريخي بعد ما عانت شعوب العالم من عولمة الرأسمالية ألفائقة التي حولت ديمقراطيتها للعبة في يد الشركات الخاصة الكبيرة من خلال لوبياتها المأجورة لتضع تشريعات تحافظ على ثرائها الفاحش على حساب الطبقات المتوسطة والفقيرة، مما أدي لتباين الثراء وارتفاع أسعار الحاجيات الأساسية للإنسان لتنتهي بانتفاضات عام 2010، التي امتدت من نيويورك إلى شوارع لندن ولتشعل الانتفاضات ألثورية والإصلاحية في المنطقة العربية. وقد ترافقت هذه الانتفاضات باستلام الحركات السياسية الاسلامية للبرلمانات العربية، وسيكون أمام قياداتها تحديات اصلاحية كبيرة والتي ستحتاج لوضع دساتير متطورة وبجهود وطنية مخلصة ومتعاطفة. فهل ستكون هذه القيادات في مستوى المسئولية لخلق مجتمعات عربية متناغمة ومستقرة؟ أم ستكرر من جديد سلبيات ثورات القرن العشرين العربية بخلق دساتير تهيئ لدكتاتوريات "مخزية" باسم الدين هذه المرة؟ وهل من الممكن أن تستمر أنظمة القرن الحادي والعشرين بدون دساتير تنظم الحياة الدنيوية؟ وهل يمكنها الاستفادة من التجربة اليابانية في تحقيق ذلك؟
لندرس عزيزي القارئ تجربة اليابان مع الديمقراطية والدستور بعد ما حكمت قرون طويلة من قبل دكتاتورية الإقطاع والعسكر. لقد بداء عصر ميجي بوضع دستور لتحديث وتصنيع البلاد بعد أن زالت اليابان جدار العزلة وبدأت تنفتح على العالم الخارجي. وقد صدر الدستور الياباني في العصر الحديث عام 1889، وأعتمد على قوانين الملكية الدستورية مستفيدا من تجربة الجمهورية البروسية. وتكون البرلمان في الدستور الجديد من مجلسين، مجلس نواب منتخب ومجلس نبلاء معين، وقد تحولت اليابان بذلك الدستور إلى دولة صناعية من خلال تطوير التعليم والتصنيع. وأستمر العمل بنفس الدستور حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية واستسلام اليابان للحلفاء. وقد فرض الحلفاء على اليابان إلغاء دستور ميجي والعمل على وضع دستور جديد. وقد أكدت معاهدة بوستدام بأنه على ألحكومة اليابانية الجديدة أن تزيل جميع العوائق لتطوير الديمقراطية بين الشعب الياباني، والسماح بحرية التعبير والتفكير والعقيدة، بالإضافة لاحترام حقوق الإنسان، ويجب أن تترسخ هذه المفاهيم في الدستور الجديد. وأكدت قوات الحلفاء بأنها ستنسحب حينما تتحقق هذه الأهداف من خلال حكومة منتخبة ومسئولة وتمثل الشعب. وقد أكد القائد العسكري الأمريكي الجنرال دوغلاس ماكأرثر بأن حكومته لن تفرض على اليابان دستورا جديدا، بل ستشجع الشعب الياباني والحكومة اليابانية لبدأ العمل على الإصلاحات الديمقراطية في البلاد.
لقد كان رئيس الوزراء شدي هارا كيجورو متردد في القيام بأي تغيرات جذرية على الدستور، وعين رئيس الدولة ماتسوموتو جوجي مع لجنة من أساتذة القانون الدستوري للعمل على صياغة دستور جديد للبلاد. فصدرت توصيات اللجنة في فبراير عام 1946، وكانت توصياتها محافظة جدا حسب رأي الحلفاء، ولم تضيف أية تغيرات جذرية على دستور ميجي. فرفضه القائد العسكري ماك أرثر وطلب من مسئوليه الأمريكيين أن يقوموا بصياغة دستور جديد تماما. وقد صاغ معظم بنود الدستور الجديد اثنان من العساكر الأميركيين يحملون شهادة في القانون وهما ميلو رويل وكورتني وتني. وقد حاول الاثنان الأخذ بعين الاعتبار دستور ميجي ورأي رجال القانون اليابانيين. وقد قدم مشروع الدستور الجديد للمسئولين اليابانيين كمفاجأة في يوم 13 فبراير 1946، مع الإنذار المبطن بمحاكمة الإمبراطور كمجرم حرب أن لم يوافق عليه. وفي السادس من شهر مارس عام 1946 أعلنت الحكومة للشعب الياباني عن مشروع الدستور الجديد. وفي العاشر من شهر أبريل عام 1946 أجريت الانتخابات لاختيار أعضاء مجلس النواب للبرلمان الإمبراطوري التسعين. وقد طور قانون الانتخابات ليسمح للمرأة ولأول مرة المشاركة في الانتخابات. وعرض الدستور الجديد على أساس أنه مشروع قانون لمراجعه تعديل لدستور ميجي السابق لتجنب أية مشاكل قانونية. وصدر الدستور في الثالث من شهر مايو عام 1947 بعد موافقة ثلثي أعضاء البرلمان عليه، وحصوله على الموافقة في ألاستفتاء الشعبي، وتوقيع جلالة الإمبراطور.
وقد حول الدستور الأجنبي الجديد اليابان إلى دولة تحكمها الديمقراطية اللبرالية واعتمد على النظام البريطاني لحكومة برلمانية، أي أن تختار الحكومة من أعضاء الحزب الفائز في الانتخابات وحلفائه. ووافق ماك أرثر أن يكون البرلمان بنظام المجلسين بدلا عن المجلس الواحد المقترح من الخبراء الأمريكان. ولم يتغير أي بند من بنود الدستور منذ عام 1947 حتى الآن. ويعتبر جلالة الإمبراطور في الدستور الجديد رمز الدولة ووحدة الشعب الياباني ومن خلاله يعين رئيس الوزراء الياباني، بعد حصول أعضاء حزبه وحلفاءه على أكثر من نصف مقاعد البرلمان. كما يعين الوزراء ورئيس مجلس القضاء الأعلى، بعد المشاورة مع رئيس الوزراء. ويتكون الدستور من خمسة ألاف كلمة وبه مائة وثلاث مواد قانونية مقسمة إلى إحدى عشر بندا. ويؤكد الدستور بأن "الحكومة هي الثقة المقدسة للشعب، وسلطتها تنبع من إرادة الشعب، والسلطة تمارس من خلال ممثلي الشعب، والتي تعمل لخدمة الشعب." والمادة التاسعة هي المادة المشهوره في الدستور الجديد والتي تمنع دولة اليابان من إعلان حرب، كما تمنع اليابان من الاحتفاظ بقوة حربية جوية أو بحرية أو برية.
وتلاحظ عزيزي القارئ بأن شعب اليابان حقق معجزته الاقتصادية من خلال دستور وضعه غريم الحرب المنتصر والذي دمر البلاد بالات الحرب المختلفة. ولم يتفرق الشعب في نقاشات نظرية حول الدستور المفروض، مع أن الدستور الجديد ألغى أي دور لقيمهم وتقاليدهم المعروفة ضمن ديانة الشنتو. فمنع الدستور الدولة وإداراتها من ممارسة أو تدريس أي من موادهم الدينية في المدارس. ومع ذلك استمروا العمل جميعا أمام التحديات المتعددة: الأرض المحروقة نوويا، الكوارث الطبيعية المتكررة، عدم توفر الموارد الطبيعية، والأرض الصغيرة والتي لا يمكن الاستفادة إلا 20% منها للسكن والبناء والزراعة، بالإضافة لقيود دستور المحتل، واحتلال أربع من جزره الشمالية. فقد كانت قناعة الشعب الياباني بأن الدستور هو وسيلة للعمل والتنمية، ولكنه ليس الهدف الذي كان ممكن أن يفرقهم ويعطل مسيرة تنميتهم وتطورهم. كما عملوا ومن خلال المعوقات الدستورية لترسيخ قوميتهم اليابانية، وقيمهم المجتمعية، وأخلاقيات سلوكهم. ومع أن الدستور يعزز أهمية الشخصية الفردية في مادته الثالثة عشر، والتي يمقتها الشعب الياباني، والذي يؤمن بالشخصية المجتمعية العاملة ضمن الفريق الواحد وبعيدة عن الأنانية الشخصية، استمروا في بناء مجتمع الفريق الواحد المتكاتف والذي ورثوه من مجتمعهم الزراعي. وحينما تطورت تكنولوجيتهم وصناعتهم أغنوها بنفس قيم وأخلاقيات المجتمع الزراعي. ومع أن الشخصية الفردية المقترحة في الدستور الجديد تشجع الأنانية وحب الغناء والبذخ، ومع ذلك أصر الشعب الياباني المحافظة على تقاليده وعمل بجد واجتهاد، وخلق دولته الثرية لا بلد الأشخاص الأغنياء، وأبتعد عن فلسفة الأنانية الشخصية وحلم الغناء الكاذب، وحافظ على تقاليده بكون القناعة كنز لا يفنى، وعمل الجميع لانجاز معجزة اليابان الاقتصادية. وباهتمام شعب اليابان بالذكاء العاطفي، نجح أن يلجم عواطف الانتقام ضد المحتل الأجنبي ويخلق جسور عديدة مع الشعب الأمريكي. ومع الوقت تطورت هذه الجسور إلى ثقة متبادلة، واستطاعت اليابان من خلال هذه الثقة أن تتكيف مع الكثير من الثقافة والإبداع الغربي، ومع الوقت تطورت هذه الثقة واستطاعت اليابان ينقل كثير من التكنولوجية الغربية وتطويرها لتصبح الاقتصاد الثاني في القرن العشرين. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف