فضاء الرأي

مسيرات العودة والقدس ..تحول استراتيجي في الصراع ضد الاحتلال

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك


شهدت فلسطين يوم الجمعة الماضي حدثاً غير مسبوق تمثل في مسيرة القدس الدولية التي شارك فيها مئات الآلاف من داخل فلسطين ومن الدول المحيطة، حيث وصلت الحشود إلى أقرب نقطة ممكنة إلى القدس، بالتزامن مع ذلك شهدت عشرات الدول في مشارق الأرض ومغاربها فعاليات تضامنيةً للتأكيد على مكانة القدس في وجدان كل أحرار العالم..

هذه المسيرة استلهمت فكرة مسيرات العودة التي نظمت في الخامس عشر من أيار والخامس من حزيران من العام الماضي حيث زحف اللاجئون الفلسطينيون في مسيرات سلمية نحو حدود فلسطين في محاولة للعودة إلى ديارهم بعد ثلاثة وستين عاماً من التهجير القسري، وقد نجحت إحدى هذه المسيرات بالفعل في اجتياز الحدود في قرية مجدل شمس والعودة الرمزية لبعض الوقت إلى داخل فلسطين، مما عزز في قلوب اللاجئين الأمل بإمكانية العودة الفعلية والقريبة إلى أرض الوطن.

ولادة هذا النمط الجديد للنضال ضد الاحتلال لا يمكن فصلها عن الحالة العامة للوطن العربي، فقد ولدت هذه الفكرة في ظل أجواء الربيع العربي الذي أعاد للمواطن العربي الشعور بالثقة والقدرة على إحداث التغيير بوسائل سلمية، ووضع حداً لعقود من اليأس والإحباط.وكانت أول دعوة لمسيرات العودة في فبراير من العام الماضي في أعقاب نجاح الثورة المصرية في إسقاط حسني مبارك.

ثمة عوامل كثيرة تفسر لنا أهمية هذه الوسيلة الجديدة في الصراع مع الاحتلال الصهيوني والتي تنظر إليها دولة الاحتلال بانزعاج وقلق بالغ وتخشى أن تتطور حتى تمثل تهديداً وجودياً لها..

من هذه العوامل أن هذه المسيرات-وتحديداً مسيرة القدس-نجحت في إخراج القضية الفلسطينية من ضيق التجزئة والمحلية إلى سعة العالمية، ونبهت الشعوب الحرة في كافة أنحاء العالم بأن القدس ليست شأناً فلسطينياً خاصاً، بل هي قضية أحرار العالم كافةً.وبذلك تنقلب المعادلة فلا يستفرد الاحتلال بالشعب الفلسطيني الأعزل بل يجد نفسه في مواجهة شعوب العالم.

نجحت هذه المسيرات في تفعيل طاقات قطاع كبير من الشعوب العربية والمسلمة، وأخرجتهم من حالة السلبية أو الاكتفاء بدعم الفلسطينيين بالمؤتمرات والمهرجانات إلى حالة العمل الفعال على أرض الواقع، وأوجدت لهم ميداناً يستطيعون من خلاله الجهاد والمقاومة ضد الاحتلال، كما أن من مميزات هذه المسيرة أنها عمل شعبي وليس نخبوياً، فلم تعد الصورة النمطية هي وجود فرق صغيرة تقوم بالعمل بينما بقية الشعب تقوم بدور المتابعة السلبية أو التضامن القلبي وحسب، كما في حالة العمل العسكري، بل إن مقياس نجاح هذه المسيرات هو مدى اتساع المشاركة الشعبية فيها.

هذه المسيرات نجحت أيضاً في تفعيل دور اللاجئين الفلسطينيين في دول الشتات، وساهمت في خلق وعي لدى جيل الشباب منهم نحو قضيتهم، وقبل هذه المسيرات فإن دور لاجئي الشتات كاد يتلاشى بسبب التركيز المقصود والمتآمر على الضفة الغربية وقطاع غزة ومحاولات اختزال فلسطين في هاتين البقعتين المتناثرتين وحدهما كما فعلت قطر، لكن هذه المسيرات بفضل الله أعادت الأمور إلى مسارها الصحيح، فرأينا حجم مشاركة لاجئي لبنان في مسيرة العودة يفوق كثيراً حجم مشاركة لاجئي الضفة وغزة، ورأينا فلسطيني عام 48 يعودون إلى الواجهة بقوة.
من ميزات هذه المسيرات أنها نجحت في انتشال القضية الفلسطينية من متاهات التجزئة والتقزيم وتشتيت الجهود في القضايا الفرعية، وإشغال الناس في قضاياهم الحياتية، وأعادت توجيه البوصلة نحو القضايا الكبرى، فقضيتنا قبل أن تكون قضية مستوطنات أو حدود 67 أو مياه أو أزمة وقود وكهرباء وحصار هي قضية شعب شرد من أرضه، وكل القضايا الثانوية يجب ألا تشغلنا عن وجهتنا الحقيقية.
ميزة أخرى لهذه المسيرات تتمثل في كونها مسيرات سلميةً، وهو ما يتناسب مع طبيعة التغيرات الإقليمية والعالمية التي زادت من رصيد المقاومة السلمية وقدرتها على التأثير بالمقارنة مع المقاومة العسكرية التي باتت أكثر تعقيداً وعجزاً عن تحقيق أهدافها في ظل القيود السياسية الكثيرة التي تحكم الأداء العسكري، وفي ظل النظرة العالمية السلبية إلى كل من يحمل سلاحاً، فبينما تحتاج ممارسة المقاومة العسكرية إلى حسابات سياسية كثيرة تراعي موازين القوى وطبيعة المرحلة، فإن المقاومة السلمية هي أكثر تحرراً ويمكن ممارستها في أي وقت بغض النظر عن طبيعة الوضع السياسي.

نجحت هذه المسيرات أيضاً في إحداث حراك نضالي حقيقي في الساحة الفلسطينية بعد سنوات طويلة من الركود والرتابة، وشكلت هذه المسيرات تجاوزاً للتنظيمات التقليدية التي تحولت من كونها خادمةً للقضية إلى أن عبء على هذه القضية ومعيق للفعل الوطني الخالص بسبب كثرة حساباتها، وجمود فكرها، وخشيتها من التجديد، لكن هذه المسيرات أعادت زمام المبادرة للشعب مباشرةً وهو ما يتناسب مع طبيعة المرحلة الجديدة التي تمر بها الشعوب العربية والتي تجاوزت فيها الأطر التقليدية لصالح المجموعات الشعبية والشبابية، كما شكلت هذه المسيرات إعادة الاعتبار للشعوب العربية التي بدأت تمسك بزمام المبادرة وتتجاوز أنظمتها المتخاذلة، وحين تكون المواجهة بين الشعوب مباشرةً وبين كيان الاحتلال فإن فرص النصر والتحرير تكون أكبر.

من مميزات هذه المسيرات أيضاً أنها تمثل فعلاً حقيقياً باتجاه العودة والتحرير، وليس مجرد أنشطة رمزية، فهذه المسيرات لا تقوم فكرتها على تنظيم مهرجانات أو تجمعات شعبية بهدف إيصال رسائل إعلامية وسياسية وحسب، وإن كانت كذلك في بعض الأحيان، لكن غايتها النهائية هي النجاح في تجاوز الحدود والعودة الحقيقية باتجاه فلسطين، ومسيرات اليوم يمكن اعتبارها تمهيداً لكسر الحاجز النفسي وتهيئة الشعوب لفكرة الزحف السلمي باتجاه فلسطين، وما رأيناه من تمكن اللاجئين في مجدل شمس من عبور الحدود نحو فلسطين ليس إلا نموذجاً مصغراً لما يمكن أن يحدث على مستويات أكبر في مسيرات قادمة، وحين يتمكن مئات آلاف اللاجئين يوماً ما من عبور الحدود والاعتصام داخل فلسطين المحتلة ورفض الرجوع من حيث أتوا فإنهم سيشكلون حينئذ تهديداً حقيقياً للمشروع الصهيوني من جذوره.
تكتسب مسيرات العودة والقدس أهميتها أيضاً من كونها مسيرات قانونية، فهي تستند في تحركها إلى القرارات الدولية التي تعطي اللاجئين الحق في العودة إلى ديارهم، وهذا السند القانوني يعقد مهمة الاحتلال في مواجهتها، ويضعف حجته أمام العالم بأنه يدافع عن نفسه في مواجهة مجموعات إرهابية، ومهما حاول الاحتلال أن يسوق مبررات من قبيل أن اختراق هذه المسيرات للحدود يمثل انتهاكاً لسيادة دولة أخرى فهي مبررات تبدو واهيةً لن تنقذ كيان الاحتلال من المأزق الأخلاقي والقانوني الذي تسببه له هذه المسيرات، وقد رأينا إدانةً من منظمة العفو الدولية لسلوك الاحتلال تجاه مسيرات الجمعة، مع أن الاحتلال اقترف من الجرائم ما يفوق بكثير قمعه للمسيرات الأخيرة، لكن وضوح الصورة في هذه المسيرات يضعف من موقف الاحتلال في مواجهتها.
تتميز هذه المسيرات أيضاً بأنها تمثل استنزافاً حقيقياً للمجتمع الصهيوني نفسياً وأمنياً، فمشهد إحاطة مئات آلاف اللاجئين والمتضامنين بفلسطين المحتلة من كافة الجهات كفيل بأن يقضي على حالة الاستقرار ويحرم المجتمع الصهيوني من حياته الطبيعية، حتى وإن لم يخترق هؤلاء المتظاهرون الحدود، يكفي أن يواصلوا مثل هذه الأنشطة كل بضعة أشهر ليستنزفوا استقرار المجتمع الصهيوني ويرهقوا أعصابه.

أعجبني تشبيه أحد الأصدقاء لهذه المسيرات برجل سرق بيته وأقام اللص في هذا البيت عشرين سنةً، ثم جاء صاحب البيت بعد هذه الأعوام الطويلة وأخذ يدور حول البيت ساعةً من الزمن وينظر إليه أمام مرأى اللص ثم انصرف، وأخذ يكرر هذا الفعل كل شهر مرةً واحدةً، كيف ستكون أعصاب اللص أمام هذا المشهد؟؟
سيظل في حالة أرق وقلق واستنزاف نفسي وهو يفكر ما الذي يخبئه له صاحب البيت رغم أن صاحب البيت لم يفعل شيئاً أكثر من النظر إلى بيته، ولكنه هزمه بالرعب مسيرة شهر..
أمام هذه الفوائد الجليلة نفهم سبب التخبط والقلق الإسرائيلي تجاه هذه المسيرات، والذي عبر عنه رئيس وزرائهم بنيامين نتنياهو في أعقاب مسيرات العودة في أيار الماضي حين قال: إن هذه المسيرات تؤكد أن المشكلة لا تزال على وجود إسرائيل وليس على حدود عام 1967 وحدها..
هذا الأثر البالغ الذي تحدثه هذه المسيرات السلمية على كيان الاحتلال جدير أن يغرينا بمضاعفة جهودنا حتى لا تفقد هذه المسيرات زخمها، ولا تتحول إلى إحياء مناسبات وحسب، بل إلى فعل متواصل ومركز ومكثف حتى انتزاع حقنا في العودة وتقرير المصير..

"ويسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريباً"..

abu-rtema@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
Stop trying hard
sa7ar -

انصح الاستاذ أبو رتيمة بالكف عن تبرير تناقضات الاسلام السياسي لأن تفسيراته لا تساعد _اخوانه_ بل تلفت النظر لإزدواجية تصرفاتهم! لطالما سخر الاسلاميون ممن نادى بأي مظاهر سلمية لحل أي مشكلة عالقة و لطالما نعتوا من طالب بالسلام بالعمالة لإسرائيل وأمريكا فكيف أصبحت المظاهرات السلمية مطلوبة الآن؟ لما لجأ الإسلام السياسي للاغتيالات والسيارات المفخخة وتفجير الباصات؟ لم اغتلتم السادات وكفرتم كل من تكلم عن حل سلمي إن كانت المظاهرات السلمية حلاً؟ تبدلت سياسات الإخوان 180 درجة من لحظة وصولهم للسلطة لأن المطالبة _بالصمود والتصدي_ كان للدعاية فقط! المشكلة أن نتائج الانتخابات اوعزت للاسلاميين أن المواطن العربي ما زال بسيطاً/ ساذجاً يصدق كل ما يقال له مهما كان متناقضاً وهذا ما دفع صاحبنا لكتابة هذه السطور متناسياً أنه ما زال هناك متعلمين يعلمون أن كل ما فعلة _اخوانه_ سابقاً كان بهدف ازاحة الحكام العرب والجلوس مكانهم.

Stop trying hard
sa7ar -

انصح الاستاذ أبو رتيمة بالكف عن تبرير تناقضات الاسلام السياسي لأن تفسيراته لا تساعد _اخوانه_ بل تلفت النظر لإزدواجية تصرفاتهم! لطالما سخر الاسلاميون ممن نادى بأي مظاهر سلمية لحل أي مشكلة عالقة و لطالما نعتوا من طالب بالسلام بالعمالة لإسرائيل وأمريكا فكيف أصبحت المظاهرات السلمية مطلوبة الآن؟ لما لجأ الإسلام السياسي للاغتيالات والسيارات المفخخة وتفجير الباصات؟ لم اغتلتم السادات وكفرتم كل من تكلم عن حل سلمي إن كانت المظاهرات السلمية حلاً؟ تبدلت سياسات الإخوان 180 درجة من لحظة وصولهم للسلطة لأن المطالبة _بالصمود والتصدي_ كان للدعاية فقط! المشكلة أن نتائج الانتخابات اوعزت للاسلاميين أن المواطن العربي ما زال بسيطاً/ ساذجاً يصدق كل ما يقال له مهما كان متناقضاً وهذا ما دفع صاحبنا لكتابة هذه السطور متناسياً أنه ما زال هناك متعلمين يعلمون أن كل ما فعلة _اخوانه_ سابقاً كان بهدف ازاحة الحكام العرب والجلوس مكانهم.