فضاء الرأي

الدين في ظل الدولة الديمقراطية المعاصرة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

يمكن إجمال أطروحة مارسيل غوشيه Gauchet Marcel بصفة عامة فيما يلي: لقد اعتبر أن المسيحية بسبب التجسد، ووجود الكنيسة؛ هي دين الخروج من الدين وبعبارة أخرى، لقد قامت المسيحية بفصل الإيمان عن السياسة، الشيء الذي أدى إلى خروج المجتمعات من الأديان، وكما عبر عن ذلك بقوله [إن المسيحية هي ديانة الخروج من الأديان]. وقد عرض غوشيه أطروحته في كتابه رفع السحر عن العالم: تاريخ سياسي للدين[Gauchet Marcel, le desenchantement du monde : une histoire politique de la religion. Gallimard 1985.
وشرح في كتابات أخرى منها: كتابه الذي نحن بصدد قراءته بعنوان الدين في الديمقراطية la religion dans la deacute;mocratie (gablimard, 1998).
والعبارة الواردة في كتابه المركزي: زوال سحر العالم مأخوذة من ماكس فيير (1864م-1920م) وتعني زوال الدين في المجتمعات الحديثة، ويذكر المفكر هشام جعيط أن هذه العبارة قد أخذها فيبرweber بدوره عن الشاعر الالماني شيلر schiller، وتندرج هذه الأطروحة في إطار الدعوات التي نادت بنهاية الاديان كما نادى بذلك الآباء الروحيون لمقولة سيادة العلمانية من بعض المنظرين الامريكيين "بيتر بيرجر" و "هارفي كوكس" في مقابل ذلك هناك من دعا إلى عودة المكبوت الديني إلى المجتمع؛ وأن العالم مازال متدينا، وزاده معه التيار المضاد للعلمنة، إلى جانب دعاة العودة إلى سحر العالم، هناك الباحثة المتخصصة في تحليل الظاهرة الكاثوليكية "دانيال لوجيه" التي تقول ان المجتمعات التي تمت علمنتها تستطيع ان تنتج منتجات دينية تتوافق مع الحداثة العلمانية، في حين يذهب "باتريك ميشيل" مسوغا عودة الدين إلى مسرح الحياة، يرجع بنظره إلى انهيار الإديولوجيات ونهاية الروايات الكبرى للعالم، وما نجم عنها من مشكلة وأزمة في الهوية التي أدت إلى لجوء الناس للمورد الرمزي لها، وهو الأديان: لأنها تعطي معنى للعالم.
الدين في الديمقراطية - مسار العلمنة - لمؤلفه المؤرخ والفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه الذي قام بترجمته للعربية الأستاذ بالجامعة اللبنانية الدكتور شفيق محسن، وراجعه بسام بركة والصادر عن المنظمة العربية للترجمة و التوزيع مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الأولى نونبر2007.
Ghauchet, Marcel, la religion dans la deacute;mocratie. Parcours de la laicite, Editions, gallimard 1998.
فيما يلي نعرض لأهم ما جاء في الكتاب بشكل مجمل:
بعنوان انقطاع في تاريخ فرنسا : يستهل غوشيه كتابه بتحديد منهجي يتجلى في استعماله عبارة "الخروج من الدين" تفاديا لعبارات "العلمنة" أو "الدينونة" ثم يشير إلى التحول الذي شهده المشهد الفرنسي في علاقته بين الدولة والدين وبين الجمهورية والديانات الذي أثر على الديمقراطية، ويبرز أن البحث في مسار العلمنة قاده إلى البحث في التحول الاجتماعي والسياسي، ثم يضع ثلاثة ملاحظات قبل الدخول في صميم الرواية التاريخية الموضوعية.

الملاحظة الأولى:
يوضح الإطار التفسيري المنهجي الذي وضعه في البداية؛ وهو الخروج من الدين، وهو لا يعني بنظره التخلي عن المعتقد الديني، وإنما الخروج من الدين فيه بحد ذاته منظما بنيويا، يوجه الشكل السياسي للمجتمعات؛ أي الانتقال إلى عالم يستمر وجود الأديان فيه، ولكن ضمن شكل سياسي وتنظيم جماعي لم تعد تعنى بتحديدهما.
ويعطي مثالا للتدليل على فكرته الآنفة الذكر- تطور العلاقة بين السلطة والمجتمع: كان الدين مصدر السلطة التي تجسد في نظام "الملكية" حيث كانت السلطة تهبط من فوق، وتفرض نفسها فوق إرادة البشر، جاءت الثورات الإنجليزية، الأمريكية و الفرنسية فأعادتها أي السلطة إلى الأرض إلى الإنسان تمثل طموحاته.
هكذا انتقل نظام الحكم من التمثيل التجسيدي في زمن الآلهة إلى التمثيل التفويضي في عالم المواطنين المتساوين، بحيث تصبح السلطة تعبير عن المجتمع، والمجتمع يمثل نفسه بنفسه من خلالها يقول: [إن الخروج من الدين هو على أبعد تقدير تحويل العنصر الديني القديم إلى عنصر آخر غير الدين، وهذا هو السبب الذي من أجله أطعن في مختلف أنواع "العلمنة" و "الدينوة" إنها لا تأخذان بالحسبان المؤدى النهائي للسياق.

الملاحظة الثانية:
يوضح فكرته التي يقول فيها انه يطعن بالقدرة التفسيرية أو الإدراكية لأنواع "العلمنة" أو "الدينوة" لكنني يقول غوشيه، لا أنكر عليها القدرة الوصفية التي تتجلى في ذلك الانقلاب من حال الهيمنة الكلية للعامل الديني إلى حال يجعل دوره ثانويا وخاصا يقول غوشيه: [... نقول تجعله ثانويا، نقصد بذلك أن التنظيم المؤسساتي والقواعد الشكلية للعيش المشترك تعد نتيجة التداول المواطنين وإرادتهم، وبإمكان هؤلاء المواطنين الإعلان عن موقفهم والاختيار بموجب قناعتهم الدينية، إنما على أساس الاعتراف المسبق بان التنظيم السياسي لا يحدد سلفا بالدين...].

الملاحظة الثالثة:
لا يزال الخروج من الدين مستمرا، بدليل انخفاض وتيرته، وانهيار العبادات، والتراجع في الأساسيات، وتناقض الإرشادات الربانية... وهي ما تشهده أوربا في الحقبة الأخيرة، التي اتسمت في ذات الوقت إلى جانب الخروج من الدين العودة إلى اكتشافه ويترافق- يقول الكاتب- الأمران الخروج والعودة سوية في سيرهما. ويوضح ذلك بقوله أن ماركس قام بنقد لا شفقة فيه للظاهرة الدينية. فإن رغبة التخلص من الدين لا تؤدي إلا إلى العودة إليه، يقول: ولاشك في أن العامل الديني الذي استبعده ماركس بشكل كامل، يصبح حاضرا عنده في نهاية الأمر أكثر مما هو حاضر عند هيغل وذلك تحت عنوان الانقلاب الثوري.
وبما أن الايديولوجيا -لدى غوشيه- لا تؤدي معني إعادة الضخ المحتمل لمجموع العقائد المتعلقة بالعالم الآخر، وهذا النوع من الايديولوجيا لا يشتمل على "أخرويات" على عكس ما يقترح غوشيه من مفهوم "الدين العلماني" الذي يتضمن ذلك البعد "والديانات العلمانية" ليست مثل الديانات الأخرى بل هي أديان لا تريد ان تكون مثيلاتها ولا ينبغي لها ذلك.
تحت عنوان: الدين، الدولة، العلمنة، يسلط غوشيه الضوء على تاريخ مسار العلمنة بفرنسا، حيث تمتد المرحلة الأولى من نهاية حروب الدين 1598م إلى الثورة الفرنسية، والمرحلة الثانية من إقرار الميثاق النابليوني وصولا إلى تاريخ قريب جدا منا لنقل العام 1975م. ويمثل قانون الفصل الذي صدر سنة 1905 فترة مهمة يمكن ان نطلق عليها حسب غوشيه إسم "مرحلة التحرر والجمهورية" وفي عنوان فرعي الخضوع للاستبدادية المطلقة تحدث غوشيه عن النهج الذي سارت عليها فرنسا التي أفرزت دولة بمثابة سلطة سلام بأسباب دينية في جوهرها إذن، ثم تأسيس دولة ذات حكم مطلق تسعى لبسط سيادتها الدينية باسم المصلحة العليا، وهي دولة ذات حكم مطلق تسعى لبسط سيادتها الدينية باسم المصلحة العليا، وهي دولة الملك "صاحب الحق الإلهي"، وبذلك يكون ملك "الحق الإلهي" هو بالفعل "ملك الدولة" لقد استطرد كثيرا غوشيه في عرض لملامح دولة الحق الإلهي بإيراده كلاما للاب رينال Reynal في ذروة عصر الأنوار، وهي:[لم توجد الدولة بتاتا لخدمة الدين، وإنما وجد الدين لخدمة الدولة] المصلحة العامة هي القاعدة التي يجب أن يبني عليها كل شيء في الدولة، وهذه الحقبة كان عنوانها استقلالية السياسي، وإخضاع العامل الديني "دينيا" لينتقل للحديث عن عام 1668 التي أسقطت حكم الحق الإلهي المطلق الذي كان مكرسا في بريطانيا منذ العام 1660.
ومن تم، برزت مرحلة انفصال بين الكنيسة والدولة، والعامل الذي ساهم -حسب غوشيه- في هذا الإنفصال هو الحركة الليبرالية التي ساهمت في انشطارالجماعي بين حقل سياسي بحت وحقل مدني، بين حقل الحياة العامة وحقل المصالح الشخصية، الذي تتجاوز فيها العائلة مع مؤسسة، بعبارة أخرى التوجه الليبرالي الذي جاء نتيجة الأمر الواقع، هو الذي كرس الفصل بين العام والخاص.
في مبحث الحياد الديمقراطي يشرح غوشيه قضية انفصال الدولة الجمهورية عن الكنيسة بفضل الشروط الليبرالية، القائم على حرية الفرد في التدين واحتفاظه به مع الاستقلال التام في التنظيم الدنيوي، وفي المبحث ذاته يقول مارسيل غوشيه [ إن إنصهار الأديان في الديمقراطية وخصوصا المذهب الكاثوليكي، لم يتم من دون أن يحصل تحول ضمني في محتوى العقيدة تحت ضغط الديمقراطية أو تحت تأثير جاذبيتها ...] تحقق استقلالية الفرد؛ أي ابتعاد جديد عن الله، يحاول -غوشيه- تعليل هذا الحكم أو المصادرة بقوله لم ينشأ الطبيعي والماورائي كي يندمجا أو يمتزجا معا، وللبرهنة على تلك الاستقلالية قام باستدعاء فكرة لكانط يفرق فيها بين الادراك البشري والعلم الإلهي.
لينتقل في مبحث تكريس المجتمع المدني، الذي يعتبره نهاية للتبعية؛ أي قابلية الفرد لأن يخضع للعالم الآخر في شِوؤنه الدنيوية، تكون الدولة حيادية؛ أو تحقق مبدأ الاستقلالية حينما تتوقف الساحة السياسية عن أن تكون ساحة للمطلق. وبعد ذلك تحدث عن بعض التطورات والتحولات التي جعلت المجتمع المدني يتكرس بفضل التعددية والتنوع والوسائل التي تم تزويد الفرد بها ليتحرر من الانغلاق على الذات عن طريق التعليم والاعلام. هذه التحولات هي التي جعلت المعتقدات تتحول إلى هويات، وتحولت الانتماءات الطائفية إلى مكونات لهوية فردية، تحت يافطة الديمقراطية وذلك ما فصله في مبحث عصر الهويات .
وفي مبحث ثورة الإيمان يقول غوشيه: [إن امتلاك الديانات بيد الديمقراطية ينتهي بأن يجلبها إلى آفاق دنيوية بحتة، مع الاستجابة التامة لأبعادها الدينية تلك هي من النتائج المتناقضة لسياسة الاعتراف.] وتناول كذلك مبحث حدود ديمقراطية الهويات عدة قضايا منها العلاقة بين المجتمع المدني والدولة والتمثيل ووظيفة الدولة والدولة والاختلاف والتفريق والاجراءات، ليختم بمبحث فرعى بعنوان فقدان السلطة سلطاتها تناول فيه الديمقراطية الاكثرية والرقابية.

على سبيل الختم
ثمة أفكار عديدة ومغرية انطوى عليها كتاب الدين في الديمقراطية لكن مشكلة غوشيه أنه كثير الأحكام والمسبقات الجاهزة - أو بتعبير الدكتور محمد حداد في كتابه "ديانة الضمير الفردي" الذي ناقش في أحد فصوله أفكار الكاتب- والمصادرات العديدة، التي تفتقر إلى استدلالات مقنعة وبما أن الكاتب ينطلق من داخل المجال الغربي ويدور في فلك النموذج الثقافي الذي ينتمي إليه، مما سيجعل -لا محالة- أفكاره خارج هذا النسق الثقافي الغربي المسيحي تحديدا مردودة وغير مقبولة في التداول الاسلامي، رغم أن العلاقة بين الدين والسياسة التي حسمها الفكر الغربي نسبيا، فإنها في عالمنا العربي لا تزال من الاشكالات والمعضلات العويصة في الوقت الراهن؛ لا سيما مع وصول حركات الاسلام السياسي إلى سدة الحكم والسلطة.
يوحي الكتاب للقارئ العادي؛ بأنه أمام لاهوتي يقارب الظاهرة الدينية من منظور مسيحي "كاثوليكي" لكن سرعان ما يكتشف أنه أمام فيلسوف علماني، تدور أطروحته حول موضوعة الديمقراطية والدين تحديدا المسيحية الغربية، ولا يميز داخل المسيحية بين الكاثوليكية والبروستاتية، وإنما يتحدث عن خصوصية كاثوليكية كما أنه لا يخفي ليبراليته من خلال تحليله، مما جعل البعض يعده من مفكري الموجة الليبرالية الجديدة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
الدين والدولة
ميس -

الدين والدولة لايجتمعان إلى يوم الدين....باختصار

الدين والدولة
ميس -

الدين والدولة لايجتمعان إلى يوم الدين....باختصار

kjMRMyapXWlos
Damian -

Which came first, the problem or the solution? Luckily it doesn''t matter.