الثقافة والديمقراطية (2/2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تكلمنا في الحلقة الأولى عن اشكالية الثقافة والديمقراطية مؤكدين على أولوية الثقافة الديمقراطية على آلياتها، وذلك لأن الديمقراطية هي قبل كل شيء ثقافة وطريقة حياة وسلوك حضاري وممارسة للحرية. وفي هذه الحلقة سوف نتكلم عن خيار الديمقراطية ومعوقات تطبيقها.
معوقات تطبيق الديمقراطية
هناك معوقات تقف حجر عثرة امام تحقيق الديمقراطية في الدول العربية . والسبب لا يكمن بالديمقراطية ذاتها بقدر ما يكمن في ثقافة الديمقراطية والوعي بها وممارستها بشكل صحيح، وكذلك الى البيئة الثقافية والتربية والتنشئة الاجتماعية والتركيبة المجتمعية التقليدية والذهنية القمعية والتي تظهر :-
اولا - في نظم الحكم الاستبدادية الشمولية المتأصلة الجذور في تاريخنا الاجتماعي والسياسي والثقافي
ثانيا - في ثقافة العنف بدل التسامح والتفاهم والحوار واحترام الرأي والرأي الآخر.
ثالثا - في النزعة الأبوية/ البطريركية/ الذكورية وثنائية التسلط والخضوع التي تنبثق عنها والتي لها دور لا يستهان به في ترسيخ رموز التسلط والاكراه والعنف من جهة، وقيم الطاعة والخضوع، الذي ساعدت بدورها على قتل روح المبادرة والحوار والتفاهم والنقد والنقد الذاتي ، من جهة اخرى.
وهكذا تذوب فردانية الفرد في اطار القبيلة والطائفة والعائلة الذي يتطبع بطابعها وقيمها وخصائصها ونمط حياتها الثقافية. ومن الطبيعي ان تنسجم هذه الخصائص مع حياة القبيلة والطائفة والحزب والوظيفة. وهكذا تصبح العصبية القبلية والعصبية الطائفية والعصبية الحزبية عقبة امام بناء الديمقراطية والمجتمع المدني.
رابعا - في منهج ومنهجية التربية والتعليم التقليدية الذي يقوم على التسلط والخضوع والتلقين والحفظ والكم وليس الكيف وعلى ترسيخ قيم الاستبداد والقمع التي وقفت امام تنمية القابليات والمهارات العقلية، وبخاصة النقدية وممارستها في الواقع الاجتماعي، الى جانب فصل العلم عن العمل والنظرية عن الممارسة والقول عن الفعل والخطاب الرسمي عن الخطاب الشعبي.
خامسا - في عدم تطور مؤسسات مجتمع مدني ديمقراطية ومتحررة، بمعنى ان تكوًن " جماعات ضغط " مهمتها مراقبة ومحاسبة مؤسسات الدولة وتحديد الحقوق والواجبات والمصالح المرتبطة بها، وان لا تتحول الى ايديولوجية، وان تكون متحررة من المصالح والغايات ومن تدخل الدولة ومؤسساتها. والهدف من ذلك هو فصل ما هو مدني عما هو سياسي. فالديمقراطية سيرورة اجتماعية وثقافية وسياسية لا تنمو ولا تتطور الا في فضاء من الحرية والتعددية واحترام حقوق الانسان.
سادسا - في العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية البالية والطقوس الدينية المتحجرة التي يرفعها البعض الى مستوى التقديس والتي لا يمكن نقدها او المساس بها لكونها مقدسة لا تسمح بنمو وعي ديمقراطي سليم.
خيار الديمقراطية
الديمقراطية عملية تعلم وتعليم وممارسة وتطبيق في الحياة اليومية على كافة المستويات.
وان طريق الديمقراطية طويل ومعقد وغير معبد وفيه معوقات عديدة ويحتاج الى إعداد وتربية وتعليم ووعي بها وممارسة لقيمها ومعاييرها، اذ ليس من السهل تحويل الناس بين ليلة وضحاها الى شعب يحترم ويطبق ويمارس مبادئ الديمقراطية وقيمها ومعاييرها بعد عقود طويلة من الاستبداد والظلم والقهر والحرمان، واستعادة وعيه المستلب وتجاوز العقبات العديدة التي تقف امامه، وتعيد هويته الممزقة وتجعله ينظر الى الامور نظرة موضوعية ليست ذات بعد واحد.
واذا كانت الديمقراطية اليوم خيارا ضروريا لا بديل له، فينبغي خلق المناخ الفكري والاجتماعي والثقافي والسياسي لها والسعي الى تشكيل بنية ذهنية متحررة من ثنائية التسلط والخضوع وتستلزم ثقافة متسامحة ومنفتحة على الاخرالمختلف ووعيا بقيم الديمقراطية والتعددية واحتراما لحقوق الانسان. ولا يتم ذلك الا ببناء وتطوير وتنمية منظمات المجتمع المدني وآلياتها المستقلة والمتحررة من كل ايديولوجية.
الديمقراطية عقد اجتماعي بين المواطنين تقوم على الحرية والعدالة والمساواة في اطار الدولة الحديثة التي تقوم على الدستور وسيادة القانون ويكون الشعب هو مصدر السلطات وشرعيتها، مثلما تقوم على منظومات المجتمع المدني التي تعمل على التحكم بقدرة المجتمع الذاتية وتوجيهها، وكذلك امكانية افراد المجتمع وقدرتهم على ممارستها وفق قواعدها ومعاييرها وشروطها. فالديمقراطية تتطلب قبل كل شيء قناعات مسبقة بحق المواطنة وثقة متبادلة بين المواطنين واعتراف بآليات تطبيقها ومشاركة جميع الاثنيات والطوائف والاقليات الاخرى فيها.
الديمقراطية عقد مساواة اجتماعي
واذا كانت الديمقراطية عقد اجتماعي يهدف الى بناء مجتمع مدني تعددي في اطار الدولة الحديثة القادرة على التفاعل مع المجتمع عن طريق المؤسسات المدنية، فان التعاقد الاجتماعي محكوم بقدرة المجتمع الذاتية على الوعي بقيم الديمقراطية وعلى امكانيات افراد المجتمع على احترام هذا العقد الاجتماعي وقبوله طوعا من قبل افراد المجتمع وممارسته في الواقع الاجتماعي. فالديمقراطية هي عقد عدالة ومساواة بين المواطنين باعتبارهم بشر. وكذلك اقرار مبدأ المواطنة الذي هو اساس الديمقراطية، التي هي مصدر الحق في المساواة السياسية وكذلك في ممارستها وفق قواعدها وشروطها ودفعها الى ايجاد صيغ جديدة للتعاقد والتعاون تؤلف بين الاثنيات والفئات والطوائف والاقليات وحمايتها من الذوبان واعطاءها حقوقها للمساهمة الجماعية في اطار وطني واحد وموحد يحول الصراعات الداخلية الى تنافس والاختلافات الى تعايش، ما دامت محكومة بوعي وطني واحد ومشترك يساعدها على تنمية قدراتها الذاتية وحمايتها من التدمير الذاتي. ان مبدأ المساواة هو في الواقع القوة المحركة التي تقوم عليها الديمقراطية، ونقطة البداية في عملية التحول التدريجي نحو الديمقراطية.
ان هذا التحول يتطلب في الواقع قناعات مسبقة بالمساواة مع الآخرين وثقة متبادلة بينهم ، وعلى اقل تقدير، ثقة متقاربة بين الافراد والجماعات والاحزاب، بكونهم جميعا مواطنين متساويين في الحقوق، مثلما هم متساوون في الواجبات، وانهم شركاء في هذا الوطن ومتساوون في هذه الشراكة، وان لا نستثني الاقليات الاثنية والدينية والطائفية منها.
والحقيقة ان كل شعب من الشعوب قادر على انتاج واعادة انتاج وعيه الذاتي، ولكن الخطوة الاولى التي ينبغي ان يخطوها هي التعرف على مواطن الضعف والخلل في البنية الفكرية والمجتمعية والبدء بمعرفة الذات ونقدها قبل الدفاع عنها وجلدها، وان يسبق تطبيق آليات الديمقراطية الوعي بمبادئها وخلق المناخ الفكري والاجتماعي والسياسي المتحرر لها. ان أية ثقافة ديمقراطية لا يكون لها معنى اذا لم تتوفر لها فضاءات واسعة لثقافة الديمقراطية وحضورها وممارستها، ليس في الاوساط الرسمية فحسب، بل وفي الاوساط الشعبية وفي هياكلها وبناءاتها المؤسسية، وكذلك في الاحزاب والمنظومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذلك في قوى المجتمع ونسيجه الداخلي، ولا يكون للديمقراطية معنى اذا افتقرت الى الحضور المجتمعي المؤسسي ، أي الى مؤسسات مدنية قانونية مستقلة ترى في تعزيز ثقافة الديمقراطية شرطا اساسيا من شروط عملية التنمية وديمومتها واستمرارها كممارسة عملية وكأساس في الحكم وفي المجتمع المدني.
ان نظاما ديمقراطيا تعدديا واقعيا وليس شكليا ينبغي ان يتم وفق انتخاب مباشر وحقيقي وشفاف لممثلي الشعب وتحت عيون منظمات مجتمع مدني متطورة ومتحررة تستطيع ارساء قواعد متينة لدولة مدنية حديثة بشروطها وآليات حركتها واستمرارها عبر تشريعات دستورية ديمقراطية تقوم على أولوية المواطنة ووحدة الهوية وفصل السلطات حتى تستطيع تخطي المعوقات التقليدية والمستجدة التي تقف عائقا امام ممارسة الديمقراطية.
لقد اثبتت التجارب ان حصر العملية الديمقراطية في تنظيم الانتخابات فقط هي عملية عبثية في دول ما زالت في مرحلة لم تكتمل فيها أسس بناء الديمقراطية، كما حدث ويحدث اليوم في بعض الدول العربية، حيث تقع الدولة رهينة قوى قد تعرقل مسيرة تقدمها لسنوات أخرى.
والحقيقة لا ديمقراطية بدون انتخابات، وفي ذات الوقت، فالانتخابات لوحدها لا تكفي لأن نطلق على العملية السياسية بأنها ديمقراطية. وهنا يواجهنا سؤال اخر: لمن الأولوية في الوصول الى الديمقراطية: بنية اجتماعية ـ ثقافية تشكل ارضية واسعة ومناخ مناسب لنمو الديمقراطية، أم تطبيق آليات ديمقراطية(انتخابات وبرلمان..الخ) يمكن بموجبها تحقيق تنمية اجتماعية ـ ثقافية وتهيئة مناخ ملائم لتطبيق الديمقراطية؟!
الواقع، ان الفصل التعسفي بين ثقافة الديمقراطية وآليات الديمقراطية أدى ويؤدي الى صراعات ومصاعب وانتكاسات، كما حدث ويحدث اليوم في الدول العربية التي خرجت من وصاية الكتاتورية. ولهذا لا يمكن تطبيق الديمقراطية من دون ثقافة ديمقراطية تهيء مناخ فكري مناسب لممارستها.
امام هذه السلسلة المعقدة من المعوقات التي تقف حاجزا امام تهيئة الظروف والشروط الاجتماعية والثقافية والسياسية المناسبة لتطبيق الديمقراطية، ينبغي على المرء ان يقف وقفة تروي لاعادة النظر في كثير من المسلمات، لان ممارسة الحرية والشفافية والالتزام بمبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية بشكل سليم ليست سهلة، ويجب ان يحسب لها الف حساب، بحيث لا ندخلها دفعة واحدة وبمعزل عن سياقها التاريخي والاجتماعي والثقافي، وانما نخطو بها خطوة خطوة لتهيئة المناخ المناسب لها، لان الديمقراطية تحتاج الى تربية وتعلم وتعليم وتمرين ووعي مستمر بها، فمن الممكن ان يساء استخدام الحرية عن جهل او قصد او مصلحة، كما يحدث اليوم في العراق، وفي جميع الاحوال، فالديمقراطية هي ليست الحرية لذاتها، بقدر ما هي التطبيق العملي العقلاني لها، مع العلم بان تطبيقها بصورة كاملة هو مطلب غير ممكن، لان النظام الديمقراطي نسبي في الزمان والمكان.