فضاء الرأي

بروبغاندا (هجليج)

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

من يتابع فضائيات السودان هذه الأيام، ويقرأ صحف الخرطوم، سيرى سيلا من التعبئة تحولت بموجبه تلك القنوات إلى ثكنات عسكرية، على هامش استعادة بلدة هجليج النفطية التي تنتج 55 ألف برميلا من البترول السوداني المصدر للخارج.
لقد وجد نظام المؤتمر الوطني في أحداث هجليج فرصة نادرة لاستعادة شرعية متوهمة، ومناسبة للشحن الوطني عبر استثمار العاطفة الشعبية المنفعلة بحدث احتلال هجليج من طرف حكومة جنوب السودان. وكان ذلك الاستثمار بمثابة مشروع مزدوج الهدف حاولت عبره البروبغاندا الحزبية للمؤتمر الوطني تمرير أجندتها التي وجدت في تلك العاطفة الشعبية مناخا للاستثمار ؛ فمن ناحية لم يتساءل أحد في صخب الاحتفالات عن السبب الحقيقي وراء احتلال هجليج من قبل جيش حكومة جنوب السودان، إذا وضعنا في اعتبارنا أن حقل هجليج هو تقريبا مصدر الدخل الوحيد لحكومة الخرطوم، ما يعني أن هناك إهمالا متعمدا في الاستعداد العسكري تمت من خلاله تنحية بعض الضباط الوطنيين، ونقل أكثر من نصف الجيش إلى الخرطوم، لا سيما بعدما تصاعدت انتقادات ضد وزير الدفاع السوداني عبد الرحيم محمد حسين، ومن ناحية ثانية حاول النظام تعويم أجندته كما لو أنها خيارا وطنيا وحيدا السودانيين، ليتمكن خلالها من عزل المعارضين له من قوى الأحزاب والطعن في وطنيتهم، فضلا عن قمعهم.
هكذا علا صوت الهتافات والشتائم لتتوارى من خلفه قضية مساءلة وزير الدفاع عن احتلال هجليج مرتين خلال 14 يوما. لقد بدا الأمر كما لو أن هناك ثورة حدثت في الخرطوم، فكمية الاحتفالات، والشحن والتعبئة الإعلامية والعسكرية بتلك الطريقة العجيبة تدل دلالة واضحة بأن ما يجري عبر تلك التعبئة الإعلامية هو أكبر من مسألة الاحتفالات.
لقد تناسى الجميع تقريبا أن أصل المأزق الذي يتخبط فيه السودان هو تحديدا بسبب سياسات نظام الخرطوم لأكثر من 23 عاما وبالتالي فإن الخطر الحقيقي هو في استمرار ذلك النظام الذي فشل في أن يجعل من السودان دولة موحدة ومستقرة. وكأنما انقلب السحر على الساحر فجأة حسب النظام أنه قادر من خلال تمرير تلك البروبغاندا على خلفية استعادة هجليج، أن يجعل الشعب ملتفا من حوله، فقام بمهاجمة القوى الحزبية التي تعاطت مع الوضع في هجليج باعتباره جزء من الصراع السياسي بين الخرطوم وجوبا، بل وشكك في وطنية تلك القوى. كما استغل النظام صور قادة الأحزاب الكبرى الذين زاروا جرحى الحرب في مستشفيات الخرطوم مثل السيد الصادق المهدي وغيره، وقام بتسويقها على أنها تأييد له، الأمر الذي دفع حزب الأمة مؤخرا إلى إصدار بيان أدان فيه إصدار قانون الطوارئ الذي عممته الخرطوم على مناطق الصراع في جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان. كما أصدرت أحزاب الإجماع الوطني إدانة لذلك القانون الذي سيفجر الأوضاع في تلك المناطق الملتهبة.
هذا إضافة إلى السقوط الأخلاقي الذي لا يقره دين ولا عقل في وصف الجنوبيين بأنهم حشرات، واستضافة شعراء عنصريين في القنوات الفضائية للاستفاضة في وصف الجنوبيين بالحشرات وهو أمر يكشف القناع العنصري البغيض لنظام الخرطوم، لاسيما في ظل انتشار أجندة الانعزالي العنصري الطيب مصطفى (خال البشير) وصاحب صحيفة (الانتباهة) التي تعزف على أوتار الكراهية والعنصرية باسم الدين والوطنية.
هذا الجو الذي أشاعه نظام الخرطوم في أوساط الشعب السوداني عبر قنواته الفضائية وصحفه وكتابه أراد أن يوحي للكثيرين، على خلفية ما حدث في هجليج، بأن الحق مع هذا النظام، وأنه هو النظام الوحيد القادر على الدفاع عن السودان، مع أن الحقيقة الواضحة لكل متابع حصيف أن هذا النظام هو سبب المأزق والنفق الذي دخل فيه السودان. وعليه فإن كثيرا من الكتاب الشرفاء تصدوا لتلك الهجمة على القوى السياسية الوطنية، وكشفوا عن ذلك التدليس الذي يقوم به النظام بتلك الطريقة المفضوحة. لذا فإن من واجب كل كاتب سوداني حر مواجهة هذه البروبغاندا البغيضة التي يحاول نظام الخرطوم من خلال استثمار العاطفة الوطنية في أجندات خاصة مثل : تصفية المعارضة، وتكميم الأفواه، ومهاجمة المعارضين والكتاب الأحرار تحت عناوين آيدلوجية رثة ومتهالكة من قبيل (صحافة المارينز) و(كتاب المارينز) كما كتب أحدهم في صحيفة منبر الكراهية (الانتباهة) متناسيا أن أكبر المصائب هي : تراكمات أخطاء وخطايا هذا النظام الذي أدخل السودان في نفق الهويات القاتلة وزرع بذور العنصرية والقبلية حتى جعلها ثقافة عامة، وأشاع ثقافة الشتم التي لا تليق بالإنسان السوي مثل تلك الألفاظ والتضمينات التي أطلقها البشير على الجنوبيين من خلال استبطانه لذلك البيت العنصري (لا تشتري العبد إلا والعصا معه....) في إشارة إلى الجنوبيين.
هكذا في ضوء هذه البروبغاندا نشطت شياطين أخرى في الخرطوم، فقام بعض المتشددين من شيوخ التعصب بإثارة الغوغاء وإحراق كنيسة في الخرطوم تأوي بعض الجنوبيين تحت سمع وبصر النظام، وكذلك طرد والي النيل الأبيض أكثر من 12 ألف جنوبي من ولايته وإمهالهم لمدة أسبوع. هذه كلها جرائم أخلاقية لا علاقة لها بقضية تحرير هجليج.
وإذا كان النظام صادقا في الدفاع عن قضاياه الوطنية فإن الوطنية لا تتجزأ ولا تقبل القسمة إلا على كامل التراب الوطني ؛ إذ يعرف جميع السودانيين أن احتلال مثلث حلايب تم من قبل المصريين، واحتلال منطقة (الفشقة) تم من قبل الأثيوبيين في ظل حكم هذا النظام، ومنذ سنوات كان فيها الجنوبيون مواطنين سودانيين قبل انفصال الجنوب.
ولأن هذه الهوجة الإعلامية مفضوحة فهي فقط ستكون للاستهلاك المحلي الداخلي من اجل تعويم بروبغاندا شرعية للنظام. فليس هناك قدرة عملية للنظام على تنفيذ ماصرح به البشير. فهذه المرة لن يذهب معه بعض أبناء الشعب السوداني كما ذهبوا معه في سنوات (صيف العبور) فلا هو يملك البترول الكافي لتمويل تلك الحرب، بعد أن آل أكثر من 75 في المائة من بترول السودان إلى دولة الجنوب، ولا الشعب قادر بعد هذا على تصديقه بعد أكثر من 23 عاما أصبح فيها السودان منقسما وفقيرا ومعزولا. و النظام يدرك هذا، ويدرك تماما أنه لن يتجاوز حدود المجتمع الدولي، فهو لا يكترث أبدا إلا للمجتمع الدولي والقوى الكبرى. لهذا أعلن اليوم وزير الخارجية الروسي أن السودان مستعد للتفاوض مع حكومة الجنوب إذا وافقت جوبا على التفاوض. كما أكد اليوم أيضا وزير الخارجية السوداني لصحيفة الصحافة السودانية (أن النزاع مع جنوب السودان لن يقود لنشوب حرب بين البلدين) ففي مثل هذه الأنظمة الشمولية كنظام الإنقاذ لا تأتي الحقيقة إلا من الخارج أي من تلك المصادر التي يحسب لها هذا النظام ألف حساب، بالرغم من تصريحات البشير حول مواصلة الحرب ضد جنوب السودان، وتغيير النظام في جوبا. فتلك تصريحات هوائية لاتسمن ولا تغني من جوع، وهي فقط للاستخدام المحلي والداخلي والهدف منها تخدير عواطف العوام، وإيهامهم بوطنية حكومة الإنقاذ فيما هي حكومة انعزالية واقصائية قسمت الوطن الواحد، وقسمت الشعب الواحد، ولا تزال تسعى في تقسيم الوطن والشعب عبر سياساتها الدموية. ينسى الكثيرون أن هذا النظام كان منذ شهور يقصف شعبه في قرى جنوب كردفان وهو الأمر الذي كشفته مجلة تايم الأمريكية، وكشف عنه كذلك الممثل الأمريكي المعروف جورج كلوني في شهادته أمام الكونغرس، فيما لا تزال دارفور تراوح مكانها.
إن مأزق هذا النظام أساسا هو في عجزه عن تطبيق مبدأ المواطنة الذي يقوم على المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع أبناء الوطن بعيدا عن الدين والعرق واللون، ولهذا السبب تحديدا انفصل الجنوب وستنفصل (جنوبات أخرى) بسبب الايدولوجيا الإسلاموية الإنسدادية التي جسدها النظام عبر (المشروع الحضاري) فأنتج كابوسا تخبط فيه السودان ولا يزال يتخبط. فالمشروع الحضاري هو رؤية آيدلوجية انسداديه للحركة الإسلامية السودانية افترضت تأويلها المأزوم للإسلام كما لو أنه الشريعة الإسلامية أو التطبيق الحقيقي للإسلام، وللأسف كان ذلك وهما كبيرا اكتشف النظام زيفه بعد الانقسام التي طاوله أولا بسبب تلك الايدولوجيا عندما انفصل الدكتور حسن الترابي عن النظام في العام 1999، ثم انقسم السودان أيضا بسبب تلك ألايدولوجيا في العام الماضي بانفصال الجنوب، ولن يتوقف التقسيم مادامت تلك الآيدلوجيا هي البروبغاندا الحزبية لنظام الخرطوم.
Jameil_2004@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
شركاء في الهم
ameen mohammed -

استاذنا ود جميل .. لك الشكر اولا على هذا التحليل .. وانا معك في ان احاث هجليج جاءت لتخرج النظام من نفق الازمة التي عاشها منذ الانفصال بدليل هوجة الاحتفالات التي تجاوزت الحدث الى ابعاد اخرى لتسويق شرعية النظام .. في المقابل لا يمكن ان نكيل النقد اللاذع للنظام ونتجاهل نوايا دويلة الحركة الشعبية التي كان ينبغي ان تلتقت الى البناء والتعمير بدلا من من عنترياتها الزائفة وتبنيها قضايا وحقوق الىخرين وهي ما تزال بعد في مرحلة الشرنقة ولم تبلغ الحلم .. القضايا متداخلة وشائكة والكل شركاء في تعميق الازمة التي يعيشها الشعبان ,, ان شخصيا ضد فكرة الاستشهاد بالصحافة الامريكية وجورج كلوني على وجه الخصوص للتحامل المكشوف .ازمتنا ياسيدي ازمة نخب وستظل ,، ولا يمكن ان نبرئ احدا وكلنا شركاء في الازمة . المعارضة والكتاب الاحرار هذه لا استسيغها البتة ولا بد من التفكير بايجابية وتمليك الحقائق المجردة والرصد الدقيق دون التحامل على النظام وان ندرك المرحلة لان المستهدف في الوقت الراه الوطن .

كلام خارم بارم
عمر الطاهر ابو ريدة -

عزيزي محمد جميل احمد لك التحية والتجلي وشكرا علي مقالك الذي لم تأتي فيه بجديد. انا ظللت اتابع معظم مقالاتك علي هذا الموقع وغيره وهي في الغالب سب ومهاجمة للنظام الحاكم في الخرطوم. انت وللأسف الكثير من الكتاب السودانيون اللذين اقرأ لهم بالصحف ومواقع التخاطب الالكتروني لكم وجهة واحدة وهي مهاجمة نظام الخرطوم وسبه باقدح العبارات وكيل التهم له. اخي جميل لك ولغيرك السودان مشكلته ليس نظام الانقاذ فقط ، السودان مشكلته ثقافة عدم التوافق الوطني واحترام الآخر في كل شئ ... السودان مرضه عضال ويحتاج لمعجزة تخرج اهله من ضيق الافق والتمعن في قضايا بناء الدولة العصرية والتي يشارك فيها المواطن من كل الاتجاهات. الانانية المتأصلة في النفوس يجب تركها وحب التعالي علي الآخرين يجب ان يزول وثقافة المواطنة درجات يجب ان تنتهي. لم يضر السودان احد اكثر من مثقفيه من شماله وجنوبه، شرقه وغربه. الكل يهاجم الكل والقليل يبني والدليل ثقتنا الزائدة في انفسنا وبدون اساس. كل الدول التي استقلت بعدنا سبقتنا للتقدم و الازدهار إلا هذا السودان. سؤالي اخي احمد من منا يوالي الانقاذ ؟؟ جميعنا نختلف مع هذا النظام لكن لن نفرط في السودان. انت صاحب كلمة ولك الاوراق وتمتلك القلم فلماذا لاتكتب لنا عن الحلول ولماذا لا تسهم بكلماتك باسداء النصح لمسئولي النظام؟ لماذا دائما ما تنتهز الفرص لصب جام غضبك عن النظام و تتصيد السوانح لتأجيج المشاع رضدهم. إن كان اعلام النظام مطبلاتي للنظام وهذا شئ مألوف في كل العالم فلماذا انت وغيرك من كتاب ومثقفي السودان تقودون حملة تطبيل مضادة ؟؟؟ هنا تكمن المشكلة والتي تفاقمت بنا الي ان وصلنا لهذا الدرك.. الكل يطبل علي هواه ويضيع الوطن. كان الاجدر بك عزيزي احمد بأن تسهب لنا في سرد الاخفاقات التي لازمت اداء مسئولي النظام وقادة اجهزته الامنية والعسكرية و تسهم باقتراح الحلول لأن الذي حدث والحادث الآن والمتوقع حدوثه قريبا لايبشر بخير لأن السودان يضيع من بين يدي ابنائه والكل يهاجم الكل. اتمني ان تتغير الثقافات و كذلك المفاهيم ونحن في امس الحوجة للتغير والاصلاح ليس في النظام الحاكم وحده بل في كل شئ حتي يحترمنا الآخرون.ختاما السودان امانة في اعناق الجميع والمحافظة عليه فرض عين. والسلام

واضح
مواطن عربي -

البشير لم يصف الجنوبيين بأنهم حشرات و انما سمى الحزب الحاكم بجنوب السودان "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بالحشرة اللا شعبية لتدمير السودان. بالمناسبة ايش اخبار زعيم الدجالين حسن الترابي

بروبغاندا
حسن عثمان شاهين -

خلاص مثقف وفاهم يعنى يا اخى اتقى الله عندما احتلوا هجليج كابرتم و قلتم انها ضربه صاعقه للسودان وعندما حررها الرجال الوطنيون الشرفاء اخذتم تقللون من شان الوطن ، وحتى بمنطقكم الاعوج والمسيئ للشعب السودانى نسالكم لماذا تفشلون دائماً وابداً فى حشد الشعب السودانى خلفكم بينما ينجح هؤلاء برغم عدم انتماء معظم الشعب لهم