أَمِنَ الدولةِ الفاشلة إلى الثورةِ الفاشلة؟!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
" إحدى الخصائص الأولية للدول الفاشلة، هي عدم القدرة، أو عدم الرغبة في حماية مواطنيها من العنف، وربما من الدمار نفسه، والخصيصة الأخرى هي النزعة إلى اعتبار نفسها فوق القانون، محليا كان أو دوليا، وبالتالي إطلاق يدها في ممارسة العنف وارتكاب العدوان..." نعوم تشومسكي، من كتاب الدول الفاشلة.
وهذه الملامح البارزة للفشل، كما بيَّنها تشومسكي، ليست حكرا على الدولة، ولكنها قد تتعداها إلى الثورات التي تُمتحَن هي الأخرى، في قدرتها على حماية نفسها_ بما تمثله من طموح الشعب، أو غالبيته_ من الانزلاق، والفوضى، وحماية البلد والمجتمع الذي تعمل فيه، وبمعونته، ومن أجله: حمايته من اليأس من فرص التغيير الآمِن، أولا، وحمايته من الانقسام المفضي إلى التناحر، وحماية الثورة لنفسها من الالتفاف عليها، والعودة بها القهقرى، إلى الفاعلين السابقين بوجوه جديدة، أو مجددة.
وحمايتها، كذلك من الفشل المتمثل في إنتاج (نظام دكتاتوري ثوري)، وحكام مستبدين، يتجاوزون الشعب والقوانين التي تكفل حقوقه؛ باسم الثورة!
ويمكن أن يتسرب الفشل إلى الثورة من عدة مداخل. منها:
ثنائية النظام الفاشل والثورة:
فهناك ثنائيتان متناقضتان لكنهما قد تتبادلان الأدوار: النظام الفاشل الذي استحق طاقَمُه الإزالة، من جهة، والثورة التي نجحت في الإنجاز الأول، وهو الهدم، ثم عليها المُضيُّ إلى الصيرورة الناجزة بأن تبني نظاما سياسيا يتجاوز ما انهدم، ويؤسس على أرضية جديدة، من الجهة الأخرى.
وهنا سؤال جوهري وأوَّلي لا تزال أصوات في القوى الثورية، في مصر، تردده، على اختلاف توجهاتها الفكرية ورؤاها، وهو هل سقط النظام السابق، حقا، وتهدّم؟
أم أن الطاقم القديم المهترىء هو الذي أُزيل؛ ليحلَّ محله "المجلسُ العسكري"؛ للإشراف على عملية التحول الديمقراطي، أو ضبطها، بحيث تظل عرجاء، أو مقيدة الخطى ومحدودة السقف.
وبحيث يظل للمؤسسة العسكرية القدرة على الالتزام والإلزام بالالتزامات الدولية والعلاقات الاستراتيجية مع أمريكا وسواها من الدول الغربية، ومع إسرائيل، بالطبع. فالقيادة العسكرية هي الضمانة الأكثر ثباتا، دوليا، من القوى السياسية الجديدة، ذوات المرجعية الدينية.
وبحيث تظل ميزانية الجيش مستقلة، وبمعزل عن الخضوع إلى المساءلة والرقابة من نواب الشعب.
هذه ثنائية المدني والعسكري، وحولها حشدٌ مكثف، وعاطفة متأججة، تتوق، بعد عقود من الاستبداد وسحق الشعب وقواه المدنية، تتوق إلى تنفُّس نسيم الحرية والمشاركة، دون وصاية من العسكر.
وإذا تجاوزنا العلاقة بين الثورة ومن ثارت عليهم فإننا لا نصادف حالةً مثالية في الحالة المدنية، فهناك ظواهر مقلقة لا تزال، ومنها:
استنساخ الطاغية وآلياته:
لكننا لا نعدم ظواهر مستنكَرة، لكنها ممكنة في الوقت نفسه، ومنها استنساخ النظم السابقة.
فأحيانا قد يقع الثائرُ ضحية جلاده، كيف ذلك؟ كما يقع المغلوبُ تحت سطوة غالبِه، لكن الثائر امتلك القدرة الذهنية والنفسية والمادية للإطاحة بالنظام الذي كان يقمع حياته، ويقف في طريق تحرره ونهوضه؛ فكيف يعيد إنتاج النظام الذي أقصاه وأزاله؟!
فقد يحاول الثائر، حين يتغير موقعُه؛ فيصبح حاكما، اللجوءَ إلى تلك الأساليب القمعية التي استخدمها الحاكمُ البائد، وذلك تحت ضغط الواقع وتحديات السياسة العملية، داخليا، وخارجيا.
أو تحت ضغط الخصومة السياسية والصراعات الحزبية.
وهذه الحالة تكررت مع حكام كثر، ولا سيما في منطقتنا العربية، ولكن كان ذلك، في طور الانقلابات العسكرية، وليس في مرحلة حراك الشعوب كلها.
فهذه الخشية مستبعدة؛ ذلك أن الزمن لا يعود إلى الوراء، والشعوب العربية، ومنها المصري، بعد استعادته قوة شخصيته، قد يعاني ضعفا في الحكم، وتوزعا للسلطة يُفقدها حدَّها الضروري، أو يُعاني تناحرا، ولكن من المستبعد أن يتقبل نظما دكتاتورية متفردة، أو أن تنجح معه.
لكن هذه الشخصية القوية للشعب المصري، متحركة، وليست ثابتة؛ فتتحدد بدوام الوعي وزيادته، وممارسة الإرادة، عبر آليات مؤثرة، ومؤسسية تحتاج إلى بناء وتكريس.
غياب الدستور:
بعد أن ارتاح الناسُ إلى أن الفشل إنما هو في النُّظم الحاكمة، الفاسدة والمستبدة، والظلامية..إلى آخره من صفات التخلف والفشل وأسبابه، وبعد أن غُيّبت تلك الطواقم الحاكمة، كما في مصر، مثلا، صرنا أمام الحقيقة المؤلمة، وهي عدم قدرة "القوى الثورية"، على تواضعات سياسية ودستورية تشريعية.
ولا نقصد هنا الاتفاق على البرامج السياسية للأحزاب، ولكن نعني غياب الدستور الذي يحدد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، ومرجعيتها الفكرية والتشريعية، ونوع الحكم مدني أم ديني، وصلاحيات مؤسسات الدولة، ومنها في حالة مصر، صلاحية المؤسسة العسكرية، ومدى خضوعها للمساءلة، ومنها المساءلة المالية.
والأدهى من غياب الدستور غيابُ الأعراف السياسية الراسخة التي تمتثل للدستور، والتي تتجلى في الدولة والأحزاب، والمجتمع المدني، وفي الشعب. فقد تكون الأزمة أزمة سلوك.
أزمة ثقة:
وأخطر من ذلك مشكلة ضعف الثقة، بل أزمة الثقة بين المكوِّنات السياسية المدنية فيما بينها، كما هي بين الليبراليين والإسلاميين، على خلفية مدنية الدولة أو دينيتها، وعلى خلفية الحريات، وجِدِّية الالتزام بالديمقراطية، وتداول السلطة، وكثيرون يتهمون "الإخوان"، ولا سيما بعد عدولهم عن عدم المنافسة على رئاسة الجمهورية، يتهمونهم بالتكويش على كل شيء، ومحاولات الاستحواذ على الدولة والمجتمع.
تَعَجُّل:
ونتيجة فيضيان النفوس بالظلم، ونتيجة التنافس المحتدم بين القوى السياسية، يتعجل البعض النتائج، مغفلين طبيعة المرحلة، ودور الأطراف، فالإخوان، مثلا، أو حزبهم " الحرية والعدالة" يمسك بمجلسي الشعب والشورى، ولكنه لم يتسلم أية وزارة، فلا وجود له في السلطة التنفيذية، ومع ذلك تسمع من يحملهم المسئولية عن عدم تحقيق شيء للبلد.
ونتيجة للأسباب السابقة، يتعجل البعض أيضا؛ فيطلب من المجلس العسكري تسليم السلطة، الآن، ولا ثمةَ دستورٌ مُنجَز، وثمة اختلافات حول الرئاسة، ومشكلة المرشحين المستبعدين وتداعياتها الجدية، وحالة الإرباك والسيولة السياسية والأمنية؛ فضلا عن مخاطر انهيار اقتصادي، وكذلك مخاوف أمنية خارجية، ولا سيما ومشكلة سيناء، والغاز، تنذر بوضع غير مستقر مع إسرائيل.
وفي الوقت نفسه لا ينجح الإخوان، حتى الآن، في إسقاط حكومة الجنزوري التي يُنظر إليها على أنها حكومة المجلس العسكري.
كما لا نعرف حظوظهم من الرئاسة، في ظل توزُّع الأصوات المؤيدة للإسلاميين.
بين الأمل وتخوُّف الفشل:
يتراوح الناس، في مصر، وحولها عالم عربي مضطلع إلى الأفضل، وبلدان عربية تخوض مخاض التغيير، بين الأمل واليأس، أمل منبعُه ما بلغته شعوب عربية من إنجازات الهدم لنظم سلبية، ولكنَّ يأسا، أو شكوكا تنتاب المعظم حول تأهُّل الثورة والمنخرطين فيها للبناء، أو النجاة إلى شط الأمان.
فمصر تمر في لحظة حرجة مركبة محتقنة، تستجمع عقود الظلم والكبت، وتتطلع إلى غد مشرق تنتابها الشكوك من الماضي الذي لم يمت، وقد لا يموت، وتتوجس فيها مكوناتُها من نفسها، فلا مفر من تجاوزها، ولو مرحليا، بحصر المشكلات، والعمل بالأولويات.
وعلينا أن نتذكر بأن الثورة في مصر، وفي غيرها منقوصة، وما هي إلا البداية، بل أنها تحاول البدء، تتلمس الطريق، وتعدد فيها الرؤى، تعددا عموديا عميقا، وأفقيا.
ولنترك قوانين المجتمعات والأفكار، وإن لم يكن ثمة قوانين صارمة تحكم هذه الحالة، تفعل فعلها، وتفرز ترتيب القوى، لكن لا بد من مواضعات أساسية دُنيا تجرِّم العنف، وتحترم الرأي، ولا بد أن الوعي المتنامي والآخذ في التبلور، وقوة الرأي العام اليَقِظ، ستحمي الثورة وتطلعاتها، من قوى العسكرة، أو من أية قوى حزبية، مهما كانت، أو بلغت.
" وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا..."
o_shaawar@hotmail.com.