فضاء الرأي

حياة كانت لنا ذات يوم... ورقة عن منعم حسن

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الجمعة 18 ايار/ مايو 2012

أمس قررت أن أشاهد، للمرة العاشرة، واحدا من أشهر أفلام سام بيكنبا: "آتني برأس الفريدو غارسيا" الذي تم انتاجه عام 1974، والذي أعيد طبعه مؤخرا على قرص bluray * وملخص موضوع الفيلم هو قصة اقطاعي مكسيكي يكتشف أن ابنته تحمل طفلا غير شرعي من مقامر اسمه الفريدو غارسيا، مما يثير فيه حالة غضب تجعله يكلف مُخبرَين بالبحث عن غارسيا والاتيان برأسه مقابل مليون دولار. يبدأ المخبران بالبحث عنه داخل مكسيكو بعرض صورة غارسيا على أي شخص في حانة او في شارع، سائلين إياه فيما إذا يعرف هذا الوجه، أين يسكن، أين يلتقي. الى أن تقع المصادفة في حانة يأويها المخمورون والعاهرات، حيث يتعرف على الصورة عازف بيانو شعبي، يقبل بأن يزودهم بالمعلومات عن مكان غارسيا مقابل 10 آلاف دولار. وفي الحقيقة الفريدو صديق قديم له، يبحث عنه فيكتشف انه قُتِل ودُفِن في مقبرة يذهب اليها وينبشه ثم يقطع رأسه ويضعه في كيس، وهنا يكتشف ان المخبرَين ينصبان له كمينا، يخرج منه سالما ويقتل المخبرين، وتبدأ رحلة طويلة يقوم بها، بغية الوصول الى عرين الاقطاعي، فيكتشف ان البنت تعشق الفريدو فيدور سجال ثم معركة بالمسدسات يموت بها الاقطاعي وفيما بعد اويتز.
لا أدري لماذا كلما أرى هذا الفيلم، أتذكّر صديقا كنت ألتقي به كثيرا في بغداد ستينات القرن الماضي، وغالبا ما كنا نلعب الدومينو في "مقهى المعقّدين"... أسمه منعم حسن. كان مثقفا، بل متابعا شغوفا لعالم المعرفة والأفكار الحديثة. لكنه، على ما أعي، لم يكتب أبدا، فليس له أي شيء منشور ولا حتى مخطوط... ربما له رسائل أو قصاصات لدى هذا الصديق أو ذاك... كان له حضور وكلمة وسط عدد من المثقفين الصاعدين، يدخّن ويشرب الخمرة كثيرا. كانت مهنة الكتابة بعيدة عنه، كان مكتفيا بطريقة حياته التي اختارها فانتهت به الى الموت بالغنغارينا، قبل سنوات... لا يمكن تصور "مقهى المعقدين" من دونه، فهو جزء من صخبِ وجدانٍ ينتمي إلى تلك الأعوام التي شهدت غيابَ سلطة؛ وبالتالي زمناً قصيرا من الحرية والأمان النسبي،إذ كان نظيفا على نحو ما، فلم يكن للوسخ سلطة، آنذاك.

موضوع الفيلم لا علاقة له بمنعم حسن، وعمره لم يُكلَّف بمهمة كهذه... لكن هناك شبه هائل بين الممثل وارين اوتز الحامل رأس الفريدو في كيس يحوّم حوله الذباب، ومنعم حسن الذي يندم كلَّ يوم على قعلته في الأمس. شَبَه يمتزج فيه الغثيان الوجودي بالابتسامة السوريالية، فينداح تذكر الأشياء الصغيرة: الملاىبس الفضفاضة خصوصا السترة؛

"المفكرة" زاوية مخصصة لتسجيل انطباعات كتاب وملاحظاتهم في ما يمر أمامهم من أحداث عربية وعالمية، أو من مصادفات مع العابر والزائل...

النظارة نفسها وطريقة وارين اوتز بتنزيلها قليلا لكي تتفحص عيناه هذا الذي أمامه؛ بل حتى القرف الذي يشعر به أوتز بسبب هذا التورط، يتلألأ في دخان التماثلات... كل شيء في شخصية وارين اوتز، يذكّرني بمنعم حسن، فترتسم معه بغداد بكل جمالها الفوضوي وتطلعات ناسها؛بصالاتها السينمائية المذهلة ومقاهيها المتناثرة كأوراق الخريف؛بشوارعها التي لا أين لها... بغداد بكل تلك الساعات التي عشناهالعبا أو حلما.

كلما أرى هذا الفيلم أرى منعم وبالتالي أعيش ذهنيّاً السمة الوحيدة التي تميزت بها تلك الفترة؛ سمة يبدو أمامها كل ما كان يُكتب آنذاك شيئا ضئيلا لا قيمة له: والسمة هذه هي"فلتة الصداقة"، على حد عبارة عبد الرحمن طهمازي... نعم الصداقة التيلم تقم على انتماء ما، كما اليوم،وإنما علىهدف حياتي مجاني...الصداقة الحقيقية هذه كانت هي كتابات منعم حسن الوحيدة، وكانت دليلا على نهوضي الصباحي، أيضاً. إنها الفلتة التي علمتني ما هي الحياة، ما هو الكَلِم، ماذا يعني أن تجيء إلى هذا العالم؛ أن تكتب، أن تصبح ذا شأن...وهذا ما لم يقدر أيُّ كتاب على تعليمي إيّاه.

لا أدري إذا كان منعم حسن قد رأى الفيلم، وبالتالي إذا كان قد فرح بهذا التشابه بينه وبين شخصية الفيلم الرئيسية؟ المهم أن كلَّ ما أعرفه أن وارين أويتز، خصوصا بهيئته في هذا الفيلم ولحظات الندم التي يؤديها بشكل مذهل، يجسّم في ذهني صورة منعم حسن حنيناً غريباً ينتهي بادراك عميق هو أن واقعا ملموسا حيّا، قد ضاع منّا بطريقة أصبح معها مجردَ حلم، وبعض هذا الحلم سُرِق منّا، أيضا، بحيث أصبحنا نتشوف إلى نص، قصاصة جريدة، صورة... بل حتى إلى مشهد لا علاقة له بماضينا، لكي نشعر للحظات، بأن حياةً كانت لنا ذات يوم،انفقدت إلى ألأبد.

ليست هناك قصيدةكان لها قدرة علىوصف بعض هذا الضياع مثلما استطاعت، على نحو ما، قصيدة كافافي التي قمت بترجمتها قبل أعوام:

قسطنطين كافافي: منذ الساعة التاسعة

الثانية عشرة والنصف. كم سريعاً مرّ الوقت
منذ أن أشعلتُ مصباحي في التاسعة
حتى أجلس هنا. بقيت جالساً دون أن أقرأ
ودون أن أتكلم، ترى أتكلم مع مَن،
وأنا وحيد في هذا البيت.

منذ الساعة التاسعة، عندما أشعلت المصباح،
ظهر لي خيالُ جسدي الغضّ وجعلني أسترجع
عطورَ الغرفِ المغلقة
وملذّات سالفة، ملذّات جريئة.
لقد رأيت ثانية كما آنذاك
شوارعَ يصعب الآن التعرف عليها،
ملاهي أُغلِقت كانت تضج بالحركة،
ومسارح ومقاهي كان لها وجود فيما مضى.

وأيضاً جاءني خيالُ جسدي الغضّ
بذكريات مؤلمة :
حِداد العائلة، فراقات،
وأناس أعزاء،
وبمشاعر الأقارب، مشاعر الموتى
التي لم تقدَّر حق التقدير...

الثانية عشرة والنصف. كم سريعاً مرّ الوقت.
الثانية عشرة والنصف. كم سريعاً مرّت، السنوات...

* بلو راي هي احدث قرص مدمج لتسجيل الأفلام عليه،ويبرزالصورة في منتهى الدقة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
ذكريات الاحباء
عراقي -

يقول ماركزي : افضل الاصدقاء.....هم من ماتوا ! بعض الاحيان نتذكر اصدقاء قاسمناهم لحظة فرح او حزن او حتى لا شيء سوى الصداقة لكن يبقى للذكرى طعم . .....شكرا لعمقك ايها الرجل الذي يسكن بعيدا عن ذكرياته في بغداد . تحياتي لك

ذكريات الاحباء
عراقي -

يقول ماركزي : افضل الاصدقاء.....هم من ماتوا ! بعض الاحيان نتذكر اصدقاء قاسمناهم لحظة فرح او حزن او حتى لا شيء سوى الصداقة لكن يبقى للذكرى طعم . .....شكرا لعمقك ايها الرجل الذي يسكن بعيدا عن ذكرياته في بغداد . تحياتي لك