فضاء الرأي

خطأ فرنسي: يحيى حقي وانقطاع الكهرباء

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

أتممت واستمتعت بقراءة كتاب: "مصر: ولع فرنسي". وحين وصلت للهوامش - آذتني وجرحتني هذه الجملة في التعريف بالأدباء المصريين المترجمين للغة موليير. يقول روبير سوليه عن يحيى حقي: "تتّسم أعماله بالانقلاع عن الجذور ..".
الانقلاع عن الجذور؟ يا لهول هذا التعميم - التعتيم!
وتذكّرت ذلك اللقاء البعيد، أوائل الثمانينات.
تذكّرت الرجل الشيخ، بدماثته وتربيته الرفيعة وحنانه. كان يقترب من الثمانين هو أيضاً. وكنت قرأت معظم ما ألّف من كتب حينها، فوجدت فيها روح مصر مقطّرة، على نحو شديد العذوبة والرهافة واللماحية. ووجدت في شخصه، هو القادم من أصول تركية، مصرياً صميماً باشمل وأعذب معاني الكلمة. مصرياً، أكاد أقول أكثر صميميّة من نجيب محفوظ.

سامحك الله يا سوليه إذاً. يبدو أنك لم تقترب بما يكفي، ليس من أدب يحيى حقي فحسب، بل من شخصه الكريم أيضاً.

فهذا الأديب النادر، الذي ظُلم حيّاً وميتاً، هو أديب الجذور، بألف لام التعريف.
خطأ بسيط، في كتاب بديع حقاً، أفسد عليّ متعتي وليلتي.


نوستالجيا

أعود لقراءة عودة الروح، زهرة العمر، عصفور من الشرق - قراءة نوستالجيا. قراءة شخصية لا أدبية. قراءة تخصني أنا لا توفيق الحكيم. فأول ما قرأت هذه الأعمال الكبيرة، كان قبل 37 عاماً. في ميعة الصبا كما يقولون. أقرأ وأتشمّم الآن ورق هذه الطبعات القديمة جدا: طبعات "مكتبة الآداب بالجماميز"، فأحسّ بالأمان والاستقرار والاستمرار.
ها هي كتب، مازالت في حالة ممتازة، منذ اقتنيتها قبل نحو أربعين عاماً. إنه لأمر جد طيب، في حياتنا شديدة التقلّب والتغيّر والجريان، أن تعود لعلاقة ذكريات مع شيء قديم في بيتك.

أما لقائي الوحيد بتوفيق الحكيم، في الطابق السادس بمبنى جريدة الأهرام، في ذلك الزمن البعيد، فلا بد من كتابته قريباً - كما آمل، وكما وعدت بذلك صديقي الشاعر خالد النجار.

تبقى كلمة، قبل أن أختم هذه الفقرة: الحكيم، بأسلوبه السلس العذب كالماء الزلال، واحد من أكبر وأعظم من خلّصوا لغتنا وأدبنا من البلاغة والشقشقات اللغوية، التي لا تقول شيئاً. وهو في هذه النقطة رائد عظيم لا ينسى.
إنه نثره عموما، في كتبه وفي مقالاته خصوصاً، أسلس وألذ من نثر العقاد وطه حسين، اللذين سبقاه. بل أسلس وألذ حتى من نثر نجيب محفوظ ويحيى حقي، اللذين لحقاه.
بل إنه واحد من الندرة التي إذا كتبت، جعلتك تتذكر فوراُ المثل الفرنسي: "الرجل هو الأسلوب".

نثر، يبقى على الزمن، بدليل: ها أنا ذا مستمتع جداً ب عودة الروح وزهرة العمر وعصفور من الشرق. وكأنّ هذه الأعمال كُتبت لتوّها فإذا هي بنت يومي وعصري أنا، لا بنت العقود الأولى من القرن الماضي.


إعجاز

[الحنجرة عضو التكلم، طولها خمسة سنتمترات وعرضها كذلك. تقع في مقدمة الرقبة بين البلعوم من الأعلى والقصبة الهوائية من أسفل وأمام بداية المريء. تتكون من تسعة غضاريف (ومنها الغضروف الذي يطلق عليه تفاحة آدم وهو أكثر بروزاً في الرجال منه عند النساء) ومن عضلات، وحبلين وهما الحبال الصوتية لونهما أبيض، والعضلات مغطاة بغشاء مخاطي، تتحرك الغضاريف بواسطة الأربطة والعضلات فتبعد وتقرب الحبلين الصوتيين أثناء الشهيق والزفير وكذلك أثناء البلع أو الكلام.
تقسّم الحنجرة إلى ثلاثة أقسام وهي منطقة الحبال الصوتية، ومنطقة فوق الحبال الصوتية متصلة بالبلعوم، ومنطقة تحت الحبال الصوتية متصلة بالقصبة الهوائية. تتداخل وظائف الحنجرة بين الكلام والتنفس والسعال والبلع، (لذا فهي تشترك مع جهازي التنفس والهضم)، تمنع دخول الطعام والسوائل إلى القصبة الهوائية بواسطة إغلاق باب الحنجرة(اللسان المزمار) أثناء البلع وفتحه أثناء التنفس والكلام، لذا تعد الحنجرة بوابة الحياة، ومن وظائفها المهمة،الكحة، فالكحة هي محاولة طرد المخاط أو الأجسام الغريبة من المسالك التنفسية.]

فكيف يا شيخ ستسكّر نيعي وتقلع حنجرتي، وفيهما كل هذا الإعجاز؟

حصار

الكهرباء مقطوعة ومتقطعة منذ ستة شهور. غاز الطهي مقطوع منذ شهر. واليوم قطعوا عنا النت. الكهرباء والغاز، أهم، طبعاً، من النت. لأنهما ضروريان أكثر. ومع هذا، فهيهات! ما إن دخلت البيت، مساءً، بعد مشوار التريّض اليومي، حتى استقبلتني العاصفة: قطعوا النت! استدن غداً وادفع الفاتورة! صرخ الأولاد. وأعجب ما رأيت وجوههم المربّدة. وجوههم التي ذكّرتني بوجوه الفتيان، في سجن المجدل، الذاهبين للعزل الانفرادي. يا للهول! إنها قصة الإدمان، لا أقلّ. أقول لهم: اصبروا عليّ ريثما أقبض، فيصرخون بصوت واحد: بل غداً! إنه الإدمان لا أقل. وحالهم الآن، يذكّرني بحالي أنا المدخّن المزمن، حين تفرغ العلبة، ويفرغ الجيب معاً، في توقيت هو أسوأ وأوحش المواقيت.
أمام ما يشبه التسول والغضب المكظوم، وعدتهم بحلٍ. وسوف أفي ولو بالدين. من أجلي ومن أجلهم. ذلك أنّ حصاراً واقعياً ظالماً يكفي. فلا أقلّ من تخفيفه ببراح افتراضي.


مفرد

أعود من وقت لآخر، لحنا أبو حنا وسيرته الماتعة "ظلّ الغيمة". كتاب نادر، مبنىً ومعنى. كتاب له عتاقة النبيذ. ثم إنه الكتاب الوحيد، الذي ذكر قريتي "نجد"، وتحدّث عنها. حتى أنني سألت أمي قبل وفاتها، عن وضحة صاحبة الدكان في القرية (وأمي، للمصادفة، ولدت وحنا في عام واحد)، فلم تتذكرها، وإن تذكّرت موضع الدكان، بسهولة. حنا كتب هذا الكتاب، بنسغ الفن المصفّى. الأمر الذي لم يتوفّر في جزأي السيرة التاليين: "خميرة الرماد" و "مهر البومة". حيث غلَبَ هنا السرد الأدبي، بلغة صحافية رصينة (نفس ما حدث مع أيام طه حسين). وعلى ما قرأت حتى الآن من سِير بالعربية، أزعم أنّ"ظلّ الغيمة"، هو الكتاب المفرد، في هذا النوع من الأدب الفلسطيني والعربي. كتاب يُكتب مرة واحدة في العمر، ولا أظنه يتكرّر أبداً.


صمم

إنها ليست لحظة الحقيقة الآن يا عزيزي غراس. على الأقلّ عند السياسيين من ذوي الأيدي القذرة. بل هو دهر من الجنون الطويل، ابتدأ ولا أحد يعلم متى سينتهي. جنون أطاح بشعب ووطن وتاريخ، ولا يزال. ومع كل ما في الروح من ندوب، يتحتّم على واحد مثلي، أن يقف احتراماً لشجاعتك وضميرك الحي. فقد قلت ما ينبغي قوله، قبل أن تنفد آخر قطرة حبر في محبرتك. ولو أنها كانت ساعة الحقيقة، لحيّاك، على الأقل، مثقفو دولة إسرائيل أيضاً. هذه الدولة، التي ولدت ووجدت بفضل مأساة اليهود على أيدي النازيين. تلك المأساة التي لم يدفع النازيون ثمنها، بل دفعناه نحن الفلسطينيين، الأبعدين، العزل! مفارقة تاريخية، لم تجد من يتأمّل فيها، حتى اليوم. مفارقة يحاول الغرب الأوروبي والعالمي، الخلو من ضمير أخلاقي، أن يتجاهلها حدّ النسيان، مع سبق الإصرار والترصد! لكنْ، هو ذا: بين الحين والحين، ثمة طاقة نور تُفتح: يأتي واحد مثل سراماغو، أو مثلك، ويقول ما ينبغي أن يقال. إنّ هذا القول ليسعدنا نحن الفلسطينيين، فلعلّ أصواتكم أن توقظ شعوبكم، فتدق حينها ساعة الحقيقة، على الغرب كله، فيسمع من بأذنه صمم.


ميزتان

لخان يونس - مدينتي هذه الميزة: تقتلك من شدة طيبتها. ثم لها هذه الميزة أيضاً: تقتلك من شدة مكابرتها. وفي القتليْن أنت لا تستطيع الثأر. فمن يثأر - وهو يزعم أنه شاعر إنساني - من الطيبة والمكابرة بوصفهما أخصّ خصيصتيْن بشريتيْن في هذه النواحي؟

جوريّة

تذكرت شعلة اللهب الكبيرة التي لها أجمل اسم: الجوريّة. إنها أبدع ورود وأزهار شرق المتوسط على الإطلاق. بل هي مليكة حدائق العالم كله.
تذكرتها بشكلها الملموم ككأس، وأوراقها الغزيرة ذات الملمس القطيفي. لونها الأحمر القاني، وذلك الفوح الثقيل المغوي ..(كفوح نهد شاب في ليلة صيف) فتمنيت لو أنها بين يديّ الآن.
الآن: حيث صقيع فبراير المتجلّد، في هذه النواحي من فلسطين الجنوبية. الصقيع العدواني الذي لا يطامن من شراسته سوى الاستئناس بشعلة نار مجففة تحمل أجمل اسم: الجورية!

عجيبة

تضع زوجتي وردة الجوري الحمراء، المقطوفة للتوّ من جنينة المنزل، في كأس ماء على الطاولة، ثم تذهب.
أنا أيضاً أذهب.
أدع ما في يدي، وأتأمل المنظر: إنه يكفيني لكي أرى المعجزة.
معجزة امتزاج الماء بالنار، دون أن يجور عنصر على عنصر.
يا ولد يا باسم: لا غرو أنّ الجورية الكبيرة هي عجيبةُ هذا الصباح!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف