فضاء الرأي

تحية كاريوكا: إبهار الجسد .. عصر ليبرالي لم يكتمل

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

سبقني "إدوارد سعيد" في الكتابة عن أسطورة الرقص الشرقي "تحية كاريوكا" في مقال له عام 1990 (ضمنه في كتاب "تأملات في المنفي" عام 2004)، لكني لاحقته بعد سنوات قليلة في برنامج "مع سلمي" علي الفضائية المصرية (أون تي في)، حيث جمعتني الإعلامية "سلمي الشماع" مع المخرجة اللبنانية "نبيهة لطفي" التي قدمت فيلما تسجيليا رائعا عن "سيرة حياة تحية كاريوكا"، ودارت الحلقة حول "أزمة الرقص الشرقي والحريات في المجتمع المصري" من خلال الفيلم التسجيلي للطفي ومقال سعيد "تحية إلي تحية" وورقة قدمتها في أحد المؤتمرات الثقافية عن "الرقص الشرقي: الحضور الغياب في العصر الليبرالي".
لست مضطرا لإزاحة تهمة " البغاء " عن هذا الفن الجميل الذي لا علاقة له - في تصوري - بالخلاعة أو الإثارة الجنسية، وهي النظرة السلبية التي كرستها السينما التجارية طويلا، التي تمزج الرقص بالعهر و" كادرات " التصوير بالكباريهات والغرز التي يتصاعد منها دخان أزرق يتراقص مع رائحة الخمور الرديئة، وينتهي المشهد بمعركة بين القوادين والسكاري للفوز بالراقصة، ومع أول كرسي خشبي طائش في الكلوب يعم الظلام وينتهي المشهد.
صلاح أبو سيف المعجون بالإبداع حتي النخاع ابتكر توليفة سينمائية نادرة (بددت هذه الصورة النمطية) في فيلم "شباب أمرأة" عام 1956 عن قصة أمين يوسف غراب، وحسب تعبيره: حاولت أن أقدم نموذجا لما ينبغي أن تكون عليه الأنوثة في نضجها و" الإثارة الجنسية " دون ابتذال .. واخترت لهذا الدور "تحية كاريوكا" دون غيرها التي ذابت في شخصية " شفاعات " ونسيت شخصيتها الحقيقية، لسنوات ...
في هذا الفيلم الذي مثل مصر في مهرجان "كان" السينمائي وحصلت كاريوكا بسببه علي جائزة الدولة، تجلت "الخلطة العبقرية" لرائد الواقعية في السينما المصرية، في الإيحاء بالرغبات الجنسية المحمومة لشفاعات (بطلة الفيلم) عن طريق الموسيقي التصويرية بإعتبارها "التيمة" الرئيسية (للجنس)، وليس من خلال المشاهد الساخنة أو العري المجاني كما هو الحال في السينما التقليدية، خاصة موسيقي الأغنية الشهيرة التي عرفت في بيوت الدعارة في شارع "كلوت بك" في الأربعينيات من القرن الماضي:
آه، يا زين، آه يا زين
آه، يا زين العابدين
يا وردْ
يا ورد مفتّح بين البساتين
في حواره معي بمجلة "القاهرة"، عقب حصول فيلمه "البداية" 1986 علي جائزة مهرجان "كارلو فيفاري"، قال "أبوسيف": تمنيت ألا تنتهي حياة "شفاعات" هذه النهاية البشعة في الفيلم، لأنها كانت نبوءة سيئة عن انحدار منحني الليبرالية في الأدب والفكر والفن بعد أزمة مارس 1954، ولو كان الأمر بيدي وليس بيد الرقيب الذي زرعه عبدالناصر في كل مؤسسات الدولة، لحصلت " شفاعات " علي " جائزة " لأنها أعطت الطالب القروي أو

"المفكرة" زاوية مخصصة لتسجيل انطباعات كتاب وملاحظاتهم في ما يمر أمامهم من أحداث عربية وعالمية، أو من مصادفات مع العابر والزائل...

(القروسطي) "إمام" (شكري سرحان) أهم درس في الحياة و"الحداثة"!
لكن من شجعني بإصرار علي دراسة "الرقص الشرقي" من زاوية الفلسفة وعلم الجمال، هو المخرج العبقري "يوسف شاهين" خاصة بعد أصبح " ولعا عالميا " ومادة خصبة جدا للدراسة والبحث والتأليف، وفي إحدي شهاداته المسجلة قال عن " تحية كاريوكا ": (جسدها شعر) ... وهو شئ قريب مما قاله "ميشيل أونفراي": الجسد هو المادة الوحيدة التي ينبعث منها النص الإبداعي، وهو نفسه يصير عملا إبداعيا بفضل كيمياء موسيقي (الشعر) ".
وأذكر حين قابلت الفنان "محمود كفاءة"، أشهر (ضابط إيقاع) في شارع "محمد علي" - هل هي مصادفة أن يقترن اسم مؤسس مصر المدنية الحديثة بشارع الفن والفنانين؟ - أثناء تجميع مادتي عن الرقص الشرقي، أنه قال هذه الشذرة البليغة عن "تحية كاريوكا": "ودنها مليانة طبلة".. لأن الرقص الشرقي هو ذلك الفن الذي يجمع بين نوعين من الإيقاع: المسموع والمرئي عبر "نبض الجسد" وضربات القلب وايقاع "الرق والطبلة".
ناهيك عن أن الحديث عن الاحتشام في بدل الراقصات - كما يقول - دليل قوي علي الجهل بطبيعة هذا الفن: لأن "الثوب" هو عيون (لغة الجسد) وآذان (إيقاع الطبلة)، ولا يعقل أن يخفي الثوب حركة الجسد أو يعرقل انطلاقه، كما أن الثوب يجب أن يكون شفافا " شفيفا " يبرز تموجات الجسد، وكلما كان أكثر التصاقا كلما عبر بمرونة وليونة عن التناغم الحركي والموسيقي.
كل " إبداع "- في النهاية - هو نتاج كيمياء جسد صاحبه، ناهيك عن أن هناك أكوام من الأشياء لا نفهمها إلا بأجسادنا فقط، خارج "الوعي الواعي"، ودون أن نستطيع صياغة فهمنا في كلمات، كما قال "بيير بورديو". وربما ذلك هو الذي دفع "إدوارد سعيد" إلي ممارسة (التفكيك) علي (نص) "تحية كاريوكا" الإبداعي، لتصبح منذ الآن فصاعدا قضية " ثقافية - اجتماعية " بإمتياز .. سنتوقف أمامها طويلا في السنوات القادمة، هذه الأسطورة التي فتن بها "سعيد" وهي ترقص في كازينو بديعة مصابني عام 1950، وكانت ايقاعات جسدها نوعا من "الحداثة"، ليست هي المرأة التي قابلها عام 1989 - كما صرح لصحيفة الجارديان البريطانية - فقد تغيرت كاريوكا تماما (جسديا وفكريا) وأصبحت مترهلة ومتشددة دينيا، وللأسف لم تسجل الفنانة "نبيهة لطفي" هذا المشهد في فيلمها التسجيلي، رغم أنها هي التي رتبت لهذا اللقاء التاريخي وكانت حاضرة في أدق تفاصيله.
"تحية كاريوكا" ساهمت - في تصوري - بأهم إضافة في تاريخ الرقص الشرقي الحديث وهي (إبهار الجسد)، وأثبتت ببراعة: أن الرقص الشرقي هو مساهمتنا - الوحيدة تقريبا - في الفن العالمي الحديث، وذروة النضال لتحرير المرأة في العصر الليبرالي (الذي لم يكتمل) .. أو الذي كان!

dressamabdalla@yahoo.com


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
صورة ونظرتين
وحدة -

نظرة تراها عاهرة ونظرة تراها مبدعة وللا سف النظرة الأولى هي الأكثر عددا. مشكلة مبدعي الشرق الأوسط انهم ولدوا في المكان الغلط