أصداء

لا توجد كلمة بريئة في السياسة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

بعد ثورات الربيع العربي زادت متابعة رجل الشارع للأخبار واهتمامه بالشأن العام، و كثر النقاش و تحليل المستجدات،وعلق بعض نشطاء الشبكات الاجتماعية على ذلك أن من شهد الثورات العربية كأنه أخذ دورة مكثفة في العلوم السياسية. ولكن المتابعة وحدها لا تكفي هذا الاهتمام من الجميل أن يرافقه وعي أو إطلاع على تحليل الخطاب الإعلامي السياسي.وأساليب تحليل رسائل وسائل الإعلام كما قسمها البروفسور آرثر برجر في كتابه ( أساليب التحليل الإعلامي ) هي: التحليل السيميولوجي و الماركسي و النقد التحليلي النفسي و التحليل السيسولوجي.

وما يهم هنا هو التحليل السيميولوجي، والسميولوجية بمعناها العام هي علم فك شفرة الرموز، و يستخدم كمنهج في مجالات كثيرة منها الأدب و استخدامه في الإعلام يكون بتحليل المعاني من خلال دلالة اللغة والصور باعتبار اللغة عبارة عن شفرات لكل شفرة دلالة. و كتب د. محمد شومان بحث عن إشكاليات تحليل الخطاب في الدراسات الإعلامية العربية بدأ الدراسة باستعراض التطور الذي وصلت له الدراسات الأجنبية من الأربعينيات و تنوعها بين تحليل إيديولوجي و تحليل ثقافي و تحليل الخطاب الاجتماعي الإدراكي بينما في الدراسات العربية لا زالت الدراسات الإعلامية تتركز على تأثير المواد الإعلامية على الجمهور، ودراسات تحليل المضمون قليلة جداً واغلبها تحلل الخطاب بصفة كمية أي تحويل النص إلى هيئة أرقام تُعبر عن تكرار الكلمة وهكذا بدون تحليل للسياق و الخلفية لاختيار مفردات النص متجاهلين رأي علماء اللغة وتحليل النص بان اختيار الكلمات ليس بريئاً و لا يحدث بطريقة عشوائية ولكل مفردة قصد.

دراسة د. شومان تشير للتقصير في مجال تحليل المضمون الكيفي للخطاب السياسي. بينما يرى الدكتور أسامة المشاقبة أن الدراسات التي تستخدم المنهج الكمي هي أكثر دقة لأن المنهج الكيفي قد يخضع لانطباعات الباحث الخاصة فيقع في الخطأ، و أظن أن د شومان لا يقلل من أهمية استخراج النسب الكمية ولكنه يحاول الإشارة لإهمال جانب مهم و هو التحليل الكيفي.

وقد يستغرب الكثير حشر اللغة في غير مجالات الأدب وخاصة عالم السياسة و عن ذلك تقول توجان فيصل " من الشائع ربط اللغة بالأعمال الأدبية إلا أن أخطر توظيفاتها هي في صياغة القوانين و الاتفاقيات و القرارات. لأن في هذا ترتيب لحقوق أفراد و أوطان، وبسبب خطأ بسيط تأتي خسائر كارثية " و تضرب مثل على ذلك ما ورد في أحد القرارات الدولية التي تخص القضية الفلسطينية وما فيها من تناقض بين النص الانجليزي و العربي وهو أما خطأ متعمد أو فخ العبارة هي " أرض مقابل السلام " و يمكن أن تأتي في الإنجليزية بدون - ال - التعريف أي أرض مقابل السلام وهذا فارق لعبت إسرائيل به عند تطبيق القرار باعتبار أن أرض تعني أية ارض. و للدكتور عبد السلام المسدي كلام مهم و ممتع سواء للمختص أو للقارئ ليستأنس بمعلومة حول استخدام اللفظ في الأخبار السياسية و مدلولاته اخترت من كتابه ( تأملات سياسية ) أبرز الأمثلة وهو يوجه حديثة للقائم بالاتصال ليدلل على ما يترتب على انتقاء الكلمات من عواقب،و للمتلقي ليساعده على تحليل ما وراء الخبر كتب المسدي انه في الانتفاضة الفلسطينية عام 2000م أعلنت المقاومة أن يوم الجمعة هو"يوم الغضب "،و بعد تواتر الأحداث، وازدياد الضحايا أعلنت المقاومة بعدها بشهر عن " يوم غضب" بدون ال التعريف مرسلة بذلك إشارة للعدو انه لم يعد يوم واحداً للغضب و إنما سيستمر.

ويربط المسدي تسمية اقتحام الجيش الأمريكي لمدينة الفلوجة بـ" عملية الفجر " و تسمية عملية القبض على صدام حسين بـ " الفجر الأحمر " ويقول أن هذا الربط بين مدينة الفلوجة ذات الأغلبية السنية و الرئيس المخلوع العراقي ذي المذهب السني بنفس اللفظ فيه إغاظة لم ينتبه لها الإعلام العربي. ومن الانقسام على اللفظ للدلالة على ذات الحدث يقول عن تسمية غزو صدام للكويت أن من قال "دخول الجيش العراقي إلى الكويت " دلالة على انه يميل لتأيد صدام، ومن قال " غزو الكويت " دل انه من أنصار تحرير الكويت. و في الحرب على العراق من استخدم كلمة " المأساة العراقية " مؤشر انه متعاطف مع النظام العراقي ومن استخدم عبارة " القضية العراقية" تعني انه محايد والقضية فيها رأي و رأي مقابل لذلك اختار الكويتيون لفظ " الحالة العراقية " التي توحي بانعدام الرابطة الذاتية بين المتحدث و الموضوع المُعبر عنه. وعندما نجد وسيلة إعلامية تسمي قضية معينة " ملف " مثل ملف القضية الفلسطينية فمعناه أنها تولي أهمية ومتابعة خاصة و مستمرة لهذا الحدث. وعن ذكاء العدو الإسرائيلي وعدم عشوائيته في اختيار مفاهيم لغرسها وتبرير أفعاله نرى تسميته لحرب الأيام الستة ما هي إلا تسويق إسرائيلي على أساس تشبهها بالنبي يوشع عندما شن حرب الأيام الستة على أعدائه فهم يختارون من الموروث الديني لتبرير الحرب ضد الفلسطينيين.

وفي ظل حرب الإعلام في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كتب سلام عبود عن اللغة والعنف : دور الكلمة في الخطاب الإعلامي أن إسرائيل تستخدم كلمة (ناشط) عندما تقتل أي فلسطيني لأن هذه الكلمة تحمل شحن سلبي كون معناها في اغلب اللغات الأوربية يتجاوز حدود الانتماء إلى جماعة إلى كون الشخص مستعد لتنفيذ أي فعل لأجل الجماعة وبهذا التعبير فإن قتل هذا الناشط ليس مُبرر فحسب بل يعطي قاتله براءة قانونية، وهذا يعني أن إسرائيل لا تقتل إلا من يستحق القتل بالضبط مثلما تسمي أمريكا قنابلها بالقنابل الذكية فهي تعرف الأبرياء ولا تقتلهم وتتوجه للقصاص من المجرمين وبذلك تغرس مفهوم أنها دولة الإنسانية والحريات. و تستخدم إسرائيل أيضاً لفظ آخر يحمل دلالة نفسية سلبية أكثر من( ناشط ) وهو لفظ (المطلوب) ولا تحدد مطلوب لمن ولا لماذا وحين يُقتل فإن يد العدالة قتلته و الأمر لا يحتاج توضيح أكثر من ذلك، ويقول عبود بأسى أن بعض وسائل الإعلام العربية تمتص هذه التعبيرات وترددها بدون تمحيص ودراسة أبعادها النفسية.ومن جملة الأمثلة المؤلمة لتعاطي الصحف العربية و نقلها من الغرب ما نشرته عن إعلان المحكمة العسكرية الأمريكية أنها حكمت على مجند أمريكي بالسجن لمدة مائة عام لأنه اغتصب صبية عراقية و احتفت الصحف العربية بهذا الخبر و اعتبرته دليلاً على عدالة أمريكا بينما الإعلام الأوربي عندما نشر الخبر لم يتوقف عند كلمة مائة عام بل أوضح لمتلقيه كجزء من واجب الإعلام المهني أن العقوبة في التطبيق قد تقتصر على عشر سنوات أو اقل لأن هذه الأحكام تراعي عدة أمور.

و من أمثلة تحيز الصحافة الغربية لإسرائيل ومحاولتها تغييب الوعي العربي عنوان كتبته صحيفة سويدية " عودة التوتر إلى الشرق الأوسط " وهذا الاختيار ليس بريء فتوظيف هذا اللفظ واضح لتضييع فلسطين وجعلها شي مجهول يقع على رقعة جغرافية واسعة تمتد من باكستان للبنان، و لكن حين تنفجر قنبلة في إسرائيل فانه يُذكر اسم الحي والشارع واسم القتيل فتتحول القضية الفلسطينية لقضية الشرق الأوسط في استخدام لغوي يهدف لتنظيف الذاكرة من أي مرجعية تربط الفلسطيني بأرضه المعينة على الخرائط بحيث يغدو ابن الشرق الأوسط كما يريده الإسرائيلي، ونحن وصحفنا نكرر بوعي وبدون وعي لمفردات العدو لغرس ما يحقق أهدافه.

واختم بعبارة سلام عبود " لا يوجد في السياسة كلمة بريئة وأخرى اقل براءة : فالكلمة مرجعية تاريخية تختزن التجربة و تعيد إنتاجها في الوقت المناسب."
وكلما كان المتابع غافل عن استعمال اللفظ، سهل على العدو غزو وعيه النفسي و تحكم في ردات فعله كما يريد.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف