قتل عرفات والربيع الفلسطيني
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
فيما تعلن السلطة الفلسطينية أنها تواجه أزمةً مالية غير مسبوقة، ومديونية تصل 1.2 مليار دولار، إضافة إلى مديونيتها إلى القطاع الخاص، وفيما يواجه خيارُ التفاوض انسدادا تاما، مع ثبات حكومة بنيامين نتنياهو، وتوسعها، تشهد فلسطينُ حدثين لا ينفكان من علاقة، الأول ثبوت قتل الزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات بالسُّم، وذلك عن طريق عنصر البولونيوم المشع، كما أثبتت ذلك قناةُ الجزيرة عن طريق مختبر سويسري مرموق.
والحدث الثاني تصاعُد الغضب الشعبي ضد اتفاق أوسلو، والذي نبهت عليه زيارةُ زعيم حزب كاديما، شاؤول موفاز (وقد أُجلَّتْ) إلى مقر المقاطعة، حيث ضريح عرفات؛ فكانت الاحتجاجات على زيارة قاتل عرفات إلى مكان قتيله.. وكانت هذه الاحتجاجات قبل الكشف الصحفي الذي حققته الجزيرة، إذ هو لم يزد على تأكيد الاعتقاد السائد عن مسؤولية إسرائيل عن مقتله.
فكيف تؤثر هذه التطورات على السلطة الفلسطينية، وهل تشهد ربيعا فلسطينيا؟
حتى نحاول الإجابة عن هذا السؤال يلزم أن نعرف الوظيفة التي تؤديها السلطة، فهي ليست إلا مرحلة على طريق الدولة الفلسطينية ذات السيادة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م بما فيها القدس الشرقية، فما دامت هذه السلطة فعاليةً مثمرة نحو ذلك؛ فعلى المنخرطين في الخيار السلمي من الشعب الفلسطيني الانتظار، بل، والدعم لها، والمشاركة في الفعاليات التي تسهم في ذلك.
وقد استوفى رئيس الوزراء الفلسطيني، سلام فياض الذي تولى مهامه عقب سيطرة حماس على قطاع غزة عام في يونيو/ حزيران 2007م المطالبَ الأمنية، ونجح في بناء مؤسسات تستحق الدولة الفلسطينية، بشهادة الطرف الإسرائيلي، على المطلب الأول، والمؤسسات المالية الدولية، على الثاني.
وبرغم عدم استعداد حكومةُ نتنياهو إلى الوفاء بـــــــــــــــ"استحقاقات السلام"، وهو الانسحاب من الأراضي المحتلة، أو القبول بمرجعيات واضحة للعملية التفاوضية تشمل الحدود والأمن واللاجئين والقدس والمياه، لا تزال السلطة الفلسطينية، تلتزم، من جانبها، وبصورة فردية تقريبا، بالتزامات اتفاقية أوسلو في كل جوانبها، بما فيها التنسيق الأمني، ومنع التحريض؛ ما يؤدي إلى قمعها أية احتجاجات، كما حصل في رام الله، في الأيام الأخيرة، وهي مدفوعة إلى ذلك بنفس الأسباب القديمة.
وهي أن لا تترك فرصة لإسرائيل في اتهامها بالتقصير، أو التنصل من الاتفاقات، كي لا تعطي نتنياهو مسوِّغاً آخر للتنصل من استحقاقاته، وكي تُظهر السلطة _ في خطابها الإعلامي للعالم، ومن خلال خططها الدبلوماسية_ حقيقةَ الموقف الإسرائيلي، وكي تعلن الولاياتُ المتحدة، والدول الراعية للعملية السلمية مسؤوليةَ حكومة نتنياهو عن فشل تلك العملية.
ولكن ذلك لا نراه يجدي نفعا، ولا يحرج إسرائيل، إلى درجة يلزمها بتغيير مواقفها، ولا ثمة استعدادٌ دولي، حتى لإعلان مسؤوليتها عن ذاك الفشل.
فهنا تصل السلطة، أو يصل خيارُها الأساسي، وهو التفاوض، وخطابُها، إلى حالة من العراء التام، وقد حاولت فترة أن تغطي عليه بــــــ" النضال السلمي" والتوجه إلى الأمم المتحدة، لكن ذلك لم ينفع بدرجة كافية، أو لم يصلح لتغطية هذه الفجوة الكبيرة.
لكن السلطة الفلسطينية تستند إلى إنجازين تدَّعيهما، وهما الأمن والاقتصاد، كما كان الرئيس محمود عباس، يَعِدُ، منذ فترته الأولى:" أطْعَمَهم من جوع وآمنَهم من خوف".
لكن لا الأمن تحقق، إذ تدخل قواتُ الاحتلال في وضح النهار؛ لتنفيذ مهام أمنية، بحسب اتفاق أوسلو، بالتنسيق مع الشرطة الفلسطينية، ولا الاقتصاد أصبح يرتكز إلى مقومات ذاتية، بل إنها استدانت من البنوك المحلية، إلى درجة لم يعد معها مجال للمزيد، وتنتظر كل شهر منحا ومساعدات خارجية، وتعلن، كما أسلفتْ، أنها تعاني عجزا كبيرا نسبيا، ويجري التلميح إلى الاقتراض من البنك الدولي، مقدار مليار دولار لسد العجز في الموازنة، وهذا، إن حصل يمثل خطورة كبيرة؛ إذ سيراكم الأعباءَ على سلطةٍ تحت الاحتلال، ويثقل كاهلَ الموطنين، بهذا الدَّيْن، وخدمته؛ ما يفاقم الضرائب، في المستقبل، ويرفع الأسعار، مع محدودية الموارد، وقلة فرص العمل، والمعيقات التي يضعها الاحتلال، وذلك أيضا بسبب اتفاقية أوسلو، واتفاقية باريس الاقتصادية، 1994م التي أبقت لإسرائيل السيطرة على التجارة الخارجية، وجمع الضرائب، والتحكم بها، وهي تنفذ ما يفيدها منها؛ ما أدى إلى تدهور الاقتصاد الفلسطيني.
سوء إدارة المال:
ولكن المفارقة أن السلطة، هذه الأيام، وهي تعلن عجزَها عن دفع رواتب الموظفين، وتدعو إلى التقشف، لا تتطرق، مثلا، إلى الرواتب العالية التي يتقاضها عدد كبير نسبيا، من ذوي المناصب العالية، ولا تعمل على خفض النفقات الكبيرة عليهم، فقد كشف نائب المجلس التشريعي، حسن خريشة عن مصاريف باهظة تنفقها السلطة على الوزراء والسفراء والمناصب الرفيعة، وعلى متعلقاتهم من سيارات فارهة، وغيرها؛ ما مثل صدمة للكثير من الفلسطينيين، ويمكن الرجوع إلى لقائه مع صحيفة القدس العربي، في 11 مايو/ أيار 2012م، ولكن نذكر على سبيل المثال أن " ... راتب رئيس صندوق الاستثمار الفلسطيني هو خمسة وثلاثون ألف دولار شهريا، واقل منه رئيس سلطة النقد ومثله لرئيس سلطة كذا وكذا من مياه وبترول وسوق مال.
ثالثا: السفراء والمعتمدون والممثلون، وهم منتشرون في كل أصقاع الدنيا ولدينا منهم عدد قد يساوي ما لدى دول كبرى.
رابعا: مصاريف السفر والمهمات إذا علمنا أن متوسط سفر بعض المتنفذين والوزراء هي خمسة أيام في الشهر الواحد.".
تداعيات الكشف عن مقتل عرفات بالسم:
وأما تكشُّف دليل طبي على أن عرفات مات مسموما فقد يكون له تداعيات قضائية، ولكنها ليست مؤكدة، إذ إن القضية سياسية، أكثر مما هي قضائية، فقد رفعتْ حينها، الإدارةُ الأمريكية، وجورج بوش، الابن، الغطاءَ عن ياسر عرفات، بل اعتبرته مشاركا في "الإرهاب"، وتواطأت، في ذلك مع الموقف الإسرائيلي، على لسان رئيس الوزراء الأسبق، أرئيل شارون، الذي أعلن أنه تخلى عن تعهده بعدم قتل عرفات؛ لنفس السبب المتعلق باتهامه بالتورط في " الإرهاب"، ولانتفاء ثقته به؛ فكانت كيفية الخلاص منه بطريقة غير مستفزة، للشعب الفلسطيني، مسألةً متوقعة، ومُهيَّأً لها، ولذلك كان الحصارُ الذي نفذه جيشُ الاحتلال على مقر عرفات في المقاطعة في نهاية مارس/ آذار 2002م تمهيدا لهذا القتل، بقدر ما كان اقترابا منه، ولم يكن عرفات، وقتَها، محاصَرا من الدبابات الاحتلالية فقط، بل كان كذلك، في عزلة دولية، وحتى عربية رسمية، إلى حد بعيد.
ولإسرائيل دعاوى تشهرها، فضلا عن الغطاء الأمريكي، والتفهم الغربي، الذي لا يسمح بتفعيل أية قضية بصفة جدية، دعاوى ومزاعم تتعلق بحفاظها على أمنها، وهي لا تخفي، في حالات كثيرة مسؤوليتها عن قتل مَنْ تعتبرهم خطرين على أمنها، أو متورطين في قتل مواطنيها، ولو كان ذلك بالتخطيط، وليس بالمشاركة الفعلية، تقوم بعمليات الاغتيال، ولو تجاوزت الحدود الوطنية للدول، كما فعلت في دبي، بقتلها محمود المبحوح، في يناير/ كانون الثاني 2010م ومتجاوزة الحدود الإنسانية، كما كان عندما ألقت قنبلة ضخمة على منزل القائد العسكري في حماس، صلاح شحادة، في يوليو/ تموز 2002م بإلقاء قنبلة تزن طنا )علي بناية في حي مزدحم بمدينة غزة. مما أدى إلى استشهاد 18 فلسطيني بينهم ثمانية أطفال).
فهل لعرفات خصوصية؟
وأما أنَّ عرفات لم يكن رجلا عاديا، وإنما له قيمة اعتبارية وسياسية ومكانة رمزية، فقد والت إسرائيل الهجومَ عليه، قبل قتله؛ لدرجة وصْفِه بالإرهابي، وأنه ليس شريكا في عملية السلام، فقد أسقطته، على الأقل من وجهة نظرها، والولايات المتحدة، وهي الأهم لها، وإلى حد ما في نظر الرأي العام الدولي، كما تحب أن تصدق، سياسيا، ونزعتْ عنه الشرعية؛ فلا حصانةَ له، ولا حصانة لأحد، إذا كان متورطا في " الإرهاب".
فالمرجَّح أن هذا الكشف الإعلامي، وفي هذا التوقيت من الظرف العربي وربيعه، أو ثوراته، وفي هذا الظرف الفلسطيني المتأزم على غير صعيد سيكون له تداعياتٌ على الداخل الفلسطيني، أكثر مما له على الصعيد الدولي والقضاء الدولي.
فقد حفَّتْ مقتلَ عرفات قرائنُ عدة تدل على التواطؤ؛ لسدل الستار عليه، وطي صفحته، سياسيا، إلا من بعض التداعيات الفلسطينية التي لم تسفر عن أية نتائج ملموسة.
ولا ننسى، في أثناء الحديث عن تأثير هذا الكشف على الوضع الداخلي الفلسطيني، أن الأيدي التي نفذت القتل، هي في الأرجح، أيدٍ فلسطينية، وقد يتجدد السؤال عن الجهات السياسية الفلسطينية التي يحتمل أن لها مصلحة في تغييب عرفات، وقد تكون لها رؤيتها!
فهل سنشهد ربيعا فلسطينيا؟
ومع ذلك فإن للوضع الفلسطيني المعقد خصوصيته، فثمة احتلال...، وثمة نضالات متكررة أُجهضت، وفي الشعب ضعف ثقةٍ في الأحزاب والفصائل، ولكن إذا اجتمع الإفلاسُ السياسي والضائقة الاقتصادية التي قد تضفي إلى انهيار، وإذا لم يتم تدارك وضع السلطة المالي( وترك السلطة للانهيار مستبعد) مع تصرفات الأمن الفلسطيني التي لا تخلو من استفزاز وقمع، إذا اجتمعت هذه العوامل فإنها تدفع نحو مزيد من الاحتجاج والمطالبة بتصويب الأوضاع التي تصل إلى أساس السلطة، وهو اتفاق أسلو ووظيفتها، وخياراتها التي تجلَّى ضعفُها.
o_shaawar@hotmail.com.