فضاء الرأي

الربيع العربي والتناغم "الأوكولوجي"

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان

لقد اعتقد البعض بعد ما سمي بثورات الربيع العربي، بأن الثورات، وتغير الحكومات، ستحل جميع التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والبيئية التي تعاني منها مجتمعانا العربية. ولم يتصور هؤلاء بأن معالجة تحديات التنمية المعقدة، وفي عالم العولمة المتشابك، يحتاج لتغير مجتمعي وأخلاقي، مع تطوير عقلية الإنسان العربي بأكمله. وقد لا تكون الديمقراطية التي يحلم بها البعض فقط انتخابات وبرلمانات، بل تحتاج أيضا لتطوير عقلية الإنسان العربي ليحس بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في قريتنا التكنولوجية الصغيرة وبمعضلات عولمة متشابكة، ليستوعب معنى الانتخاب وتحديد من ينتخب من قيادات واعية وناجحة وحكيمة. وقد تكون من أحد التحديات الاخلاقية المعادية للتنمية الاقتصادية في مجتعاتنا العربية معضلة احترام الطبيعة، وخلق تناغم بشري في التعامل معها، والمحافظة على البيئة الإيكولوجية التي خلقها الخالق جل شأنه لخلق توازن ايكولوجي بين الطبيعة والإنسان. وقد اعتقد الإنسان بعد تطورات تكنولوجية القرن العشرين بأنه قد إنتصر في حربه ضد الطبيعة، ليرضخها كما يشاء لراحته وتطوره الاقتصادي، فقطع الأشجار والغابات، ولوث الأنهار والبحار، وسمم الهواء والتربة والماء، لنعيش اليوم في بيئة طبيعة دمر توازنها الايكولوجي.
يناقش البروفيسور الأمريكي دانيال كولمان في كتابه، الذكاء "الأكولوجي"، قوة جديدة لديمقراطية جماهيرية تعتمد على ذكاء القوة الشرائية للدولار، بعد أن يئست شعوب العالم من ديمقراطية برلماناتها. وقد كان ذلك واضحا في الانتخابات الأمريكية لعام 2008، حين استطاع البروفيسور بارك أوباما الوصول للرئاسة من خلال استخدامه تكنولوجية الانترنت، جمع دولارات مؤيديه، لدعم حملته الانتخابية، لتتحول دولارات التبرعات الشعبية، لقوة سياسية تحقق الأحلام "الأكولوجية". ويعقب الكاتب بأن هناك ثلاثة قوى لاستمرارية الحياة، ضوء الشمس وماء المطر وحكمة استهلاك الموارد الطبيعية، وقد أساءت الحضارة المعاصرة لهذه الحكمة ومهارتها. فمع بدايات القرن العشرين فقد الجنس البشري عقلانية بقائه، لتصبح نشاطاته الحياتية منفصلة تماما عن تأثيراتها الخطيرة على البيئة والمجتمع والموارد الطبيعية. كما أدت عولمة التجارة والصناعة وتحريرها من أنظمتها المكبلة، لانتشار تأثيراتها السلبية في كل بقعة من قريتنا الكونية، والتي تنبئ بزوال الجنس البشري، بسبب زيادة الاستهلاك والتلوث بسرعة تفوق عن طاقة كوكبنا الاستيعابية.
ونحتاج اليوم لتنشيط ذكائنا الإكولوجي، لنستطيع التعامل بكفاءة وتناغم مع البيئة والمجتمع وموردنا الطبيعية، لكي نقلل الضرر ونزيد من استمرارية الحياة." ويوصف الكاتب الذكاء الأكولوجي بأنه إمكانية التكيف بتناغم بين الإنسان والطبيعة، ويعرف الأكولوجيا بفهمنا للكائنات الحية، ونظامها البيئي ومواردها الطبيعية، كما يعرف الذكاء بالقدرة على الاستفادة من الخبرات المجتمعة لتأثير النشاطات البشرية على نظامنا البيئي بكفاءة وتناغم لتقليل الضرر وزيادة استمرارية الحياة. ويجب أن تفتح هذه اليقظة أفاق جديدة وتغيرات في فرضياتنا ومداركنا، والتي ستؤدي لثورة ليس فقط في تجارتنا وصناعاتنا، بل أيضا في أفعالنا وسلوكنا الشخصي. وقد نحتاج للتفريق بين قدراتنا العقلية التي تساعدنا على النجاح في المدرسة، عن القدرات الأخرى التي تساعدنا على النجاح في الحياة والتعامل مع تحدياتها، والتي تشمل قدرتنا الفريدة في التكيف مع التغيرات البيئة، وتمتد لقدراتنا في فهم القوانين الطبيعية من خلال العلوم الفيزيائية والكيماوية والبيئية وتطبيقاتها على ديناميكية الحياة من مستواها الذري لمستواها العولمي,
ويعمل نظام الطبيعة على عدة مستويات، وضمن دورات بيئية متكررة، فمثلا دورات البيولوجية الكيماوية لدورة الكربون، تعمل للمحافظة على نسب الكربون في الهواء بشكلها الطبيعي بخلق توازن بيئي بين كمية الكربون المنتجة في الهواء من النشاطات البشرية والحيوانية، والكميات المستهلكة منه في النباتات. فحينما تزيد نسب السكان والسيارات والمواشي في البيئة تزيد نسب الكربون في الهواء، بينما تقل هذه النسبة بزيادة زراعة النباتات والأشجار. كما يزيد الذكاء الاكلوجي الرحمة في قلوبنا، بإدراكنا الذهني للانهيار البيئي، كجفاف الغابات وذوبان جبال الثلوج وزيادة مستوى الماء في البحار وقلة الأمطار ونقض نسب المياه العذبة في الأنهار. وتتحقق فائدة الذكاء الاوكولوجي حينما يكون ذكاء مجتمعي شامل ومتناغم، يعرف جميع أبناء المجتمع التأثيرات الخطرة للتغيرات البيئية والعمل على الوقاية منها وتحسينها والمشاركة في تبادل معلومات مضارها.
كما يناقش الكاتب التطورات المستقبلية المتوقعة في الصناعة ومنتجاتها لكي تتحول صديقة للمجتمع والبيئة ومواردها الطبيعية، وذلك بتحديد نسب انبعاث الكربون في الصناعة وكفاءة استهلاك هذه الموارد. فمثلا ستحدد شركات الطيران نسب الكربون التي ستضيفها كل رحلة جوية للبيئة، فرحلة نيويورك إلى فرانكفورت تضيف سبعمائة كيلوغرام من الكربون لكل مسافر. كما سيحتاج صنع بطاطا الشبس وإيصاله ليد المستهلك لإضافة خمسة وسبعين جرام من الكربون في الهواء. ويمثل هذا الرقم قيمة لحسابات معقدة، تبدأ من معرفة كمية الكربون المنبعثة من استهلاك الطاقة لزرع بذور البطاطا وعباد الشمس، بالإضافة للحصاد والتنظيف والقطع والقلي والتغليف والخزن والشحن، مع صنع الأكياس وتلوينها، والتخلص منها برميها في الزبالة، وجمع الزبالة ونقلها ودفنها أو حرقها. وتنتقل البطاطا منذ زرعها في الحقل وحتى رمي أكياسها في الزبالة حوالي ألف وخمسمائة ميل في الولايات المتحدة، وتختلف كمية انبعاث الكربون حسب نوع وسيلة النقل، فنسبة انبعاث الكربون بالنقل الجوي أكثر بستة أضاف من النقل البحري، وخمسة أضعاف النقل البري.
كما سنحتاج تذكر أهمية المحافظة على مواردنا الطبيعية، فقد بدأت دول العالم تعاني من قلة المياه العذبة وتحتاج شعوبها لذكاء أوكولوجي لتحافظ على استدامة المياه الباقية، وقد نستغرب حينما نتذكر بأن قنينة الكولا التي نشربها تحتاج لمائتي قنينة ماء، لكي توفر محتوياتها من السكر بزرع قصب السكر وترويته، بالإضافة للسموم التي تنتجه بلاستيك القنينة من ذرات البيسفينول المضادة للهرمونات الذكرية، والتي تزداد كميتها لخمسة وخمسين ضعف حينما يكون محتوى القنينة ساخنا.
ومن التحديات الكبيرة التي نعاني منها في التعامل مع التحديات الأكولوجية هو وجود فجوة في المعلومة البيئية، فمثلا حينما نشتري جهاز فيديو رخيص، نحتاج للمعلومة للإجابة على الأسئلة التالية: كيف أمكنهم صناعة هذا المنتج بسعر رخيص؟ فهل خفضوا رواتب العمال؟ وكيف كانت حياة هؤلاء العمال؟ وهل كان بينهم أطفال يعملون بأجور رخيصة؟ وما هي المواد التي استخدموها؟ فهل هي مواد سامة؟ وكيف تخلصوا من المخلفات الصناعية؟ فهل رموها في النهر أم حرقوها؟ وما هي نوعية الطاقة التي استخدمت في المصنع؟ هل هو طاقة ملوثة أو نظيفة؟ وما هي كمية المياه المستخدمة في هذا المصنع؟ وما هي نوعية الأصباغ التي تستخدم؟ وهل بها مواد سامة سرطانية؟ وهل تدفن مخلفات المصنع؟ وما تأثيرات هذا المصنع على المجتمعات التي تحيط به؟ وهل ممكن الحصول على جميع هذه المعلومات حينما نشتري المنتج؟ وكيف يستطيع فهم الإنسان العادي هذه المعلومات والأرقام بسرعة خاطفة؟ وهل هناك حل يسهل على المستهلك أن يفهم بذكائه الاوكلوجي كل تلك التفاصيل وبسرعة؟ وهل ممكن أن توضع على المنتج عدد من النجوم الخضراء لتعبر على مدى سلامة هذا المنتج للبيئة والمجتمع وموارده الطبيعية؟
ولتحديد أكولوجية المنتج وتحديد نجومه الخضراء نحتاج لكمية هائلة ومعقدة من المعلومات، وقد وضح البروفيسور ستجلتز ذلك بقوله: "عدم التناسق المعلوماتي بين المستهلك والشركات يخلق فجوة في عدالة وكفاءة تنافس السوق، ليؤدي لشلل الكفاءة التجارية، بينما تؤدي المعلومات الصحيحة عن المنتج لأن يحدد المشتري قرارات صائبة ذكية. فالمعلومة لها قيمة إضافية وتتحول لقوة مؤثرة في تجارة التسوق، والتي تحددها ليست فقط الربحية المادية بل أيضا تأثيراتها الاكولوجية على البيئة والمجتمع وموارده الطبيعية. كما سيحتاج اختياراتنا لشفافية اكولوجية لمعرفة التفاصيل الاكولوجية لكي نقرر شراء البضاعة المناسبة التي تحمي في صناعتها البيئة ومواردها الطبيعية والبشرية. وستؤدي هذه الشفافية لثورة خضراء وستترافق بثورة تكنولوجية تصنيع هائلة ورابحة.
ويعلق البروفيسور ستجلتز: "لا تتم الثورة ببساطة باختراع تكنولوجية جديدة، بل تنجح حينما تؤثر هذه التكنولوجية في خلق سلوك وأخلاقيات جديدة. والشفافية الخضراء ستكون قوة في السوق حينما تعتمد عليها المستهلكين لإصدار قرارات الشراء، كما سيساعد التواصل التكنولوجي بالانترنت لتبادل المعلومة حول جودة البضائع والمنتجات، والثورة على الشركات المصنعة المخالفة لقوانين المحافظة على البيئة، وعلى تكافل المجتمع بتوفير بيئة عمل صحية وأجور مناسبة ورعاية صحية وتدريب عملي وتأمين تقاعد وتعطل، والدفاع عن العمال في اتحادات عمالية متعاونة عادلة، واستدامة الموارد الطبيعية." ويقترح البروفيسور ستجلتز مؤشر اقتصادي جديد سماه بالشبكة الخضراء للناتج القومي، بدل استخدام الناتج المحلي الاجمالي. والسؤال: هل ستطور ثورات ما سمي بالربيع العربي تعليمها لتخلق ثورة في عقلية المواطن العربي مع تطوير ذكاءه "الأكولوجي"؟ وهل ستستثمر حكوماتها وتجارها في التكنولوجية "الأكولوجية"؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف