فضاء الرأي

ربيع العرب أم خريفه ؟؟؟

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان

اعتقد البعض، بعد ما سمي بالربيع العربي، بأن الثورات، وتغير الحكومات، ستحل المعضلات الاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية، والروحية، التي تعاني منها مجتمعانا العربية. ولم يتصور هؤلاء بأن معالجة تحديات التنمية المعقدة، في مجتمع العولمة الجديد، يحتاج لتغير مجتمعي ذهني أخلاقي روحي، مع تطوير العقل العربي بأكمله. وقد لا تكون الديمقراطية التي يحلم بها البعض، فقط، انتخابات وبرلمانات، بل تحتاج لتطوير ذكاء الإنسان العربي، ليستوعب التحديات الاقتصادية، والاجتماعية، والروحية، فيتعامل مع معضلاتها بنجاح، في مجتمعات مسالمة، متآلفة، متعاطفة ومتناغمة. ولم تمر حتى الآن إلا فترة قصيرة منذ بدء ثورات هذا الربيع، ولكن يتساءل الكثيرون بعد إرهاصات هذه الثورات: هل نحن فعلا أمام ربيع العرب أم خريفه؟ ولن يستطع الإجابة على هذا السؤال ألا حركة التاريخ، وحينها نحتاج لسؤال آخر: ما هي المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية التي ستساعدنا في تقييم تاريخ هذه الثورات مستقبلا؟
لقد حاول الغرب تحقيق مجتمعات مسالمة بديمقراطيته التقليدية بعد دمار الحرب العالمية الثانية، ليتفرغ لتنميته الاقتصادية والاجتماعية، فيوفر لشعوبه الازدهار والرفاهية والثراء، ويبقى السؤال المحير: هل فعلا حققت الديمقراطية الغربية حلم الثراء لشعوبها؟ وما هي المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية التي اعتمدتها لتقيم نجاحاتهما؟ وهل ستصلح هذه المؤشرات لتقيم بما سمي بثورات الربيع العربي، أم سنحتاج لمؤشرات تقيم مختلفة في مجتمع العولمة الجديد؟
لقد ركزت مؤشرات الثراء الاقتصادية في القرن العشرين على الناتج المحلي الإجمالي، لتحديد مستوى التنمية، وقد تعرض هذا المؤشر للنقد الشديد بعد الأزمة المالية لعام 2008، لكونه يمثل حسابات القيمة السوقية للبضائع والخدمات التي تنتجها الدولة سنويا، ولكنه لا يعكس النشاطات الاقتصادية والاجتماعية خارج السوق، من جهود الأمهات والعائلة في البيت، وجهود الدولة في الخدمات الصحية والتعليمية العامة، ودرجة استهلاك الهواء والماء، ومدى النشاطات اللازمة لمعالجة التلوث البيئي، وأوقات المتعة والسعادة التي يقضيها المواطن مع العائلة والأطفال والأصدقاء، ولا الساعات الطويلة التي تقضيها الأمهات في الحمل والولادة وتربية الأطفال ورعاية العائلة، كما لم تهتم كثيرا بمدى عدالة توزيع الثروة في المجتمع ككل. ويبقى السؤال: هل فعلا تستطيع دول الألفية الثالثة أن تتقدم بدون مقاييس دقيقة لنشاطات الثراء الإنسانية؟
لقد تفهمت الجمهورية الفرنسية هذه المعضلة بعد الأزمة المالية لعام 2008، فشكل رئيسها لجنة عالمية لوضع أسس مقياس جديدة لتقييم الأداء الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، وعين على رأسها ثلاثة من خيرة علماء الاقتصاد في العالم الحائزين على جائزة نوبل: جوزيف ستيجلتز، وامارتيا سن، وجين بول فتويسي، وضمت فضمن أعضائها عدد كبير من الخبرات الاقتصادية العالمية. وجمعت اللجنة نتائجها في كتاب بعنوان، "سوء قياس حياتنا: لماذا لا يضيف الناتج المحلي الإجمالي"، وكتب المقدمة الرئيس الفرنسي السابق نيكولاس ساركوزي، وبدأها بقوله: "لن نستطيع تغير سلوكنا، إلا حينما نغير الطريقة التي نقيس فيها أداءنا الاقتصادي. ولنجنب أحفادنا المعاناة من ماسي مالية، واقتصادية، واجتماعية، وبيئية، علينا تغير طريقة معيشتنا، واستهلاكنا، وإنتاجيتنا، بل علينا تغير المقاييس التي تحكم منظماتنا، وسياساتنا العامة. وهناك ثورة هائلة تنتظرنا، ولن تكتمل إلا حينما نبدأ في تغير عقولنا، وذلك بتغير الطريقة التي نفكر بها، وتطوير مفاهيمنا وقيمنا، وتحسين الطريقة التي نعرض فيها عواقب أفعالنا ونتائج أعملنا. ولو استخدمنا المعايير الدقيقة التي اقترحه التقرير لتقيم نشاطاتنا الاقتصادية للعقود الثلاثة الماضية، وراجعنا الحكم في قراراتنا، وثبت فشل نموذجنا، وتأكد سوء أدائنا، لأصبحت الحاجة للتغير واضحة."
ويقيم ساركوزي حقيقة الوضع فيقول: "من الضرورة أن تعكس إحصائياتنا وحساباتنا طموحاتنا والقيمة التي نحددها للأشياء، ولو اعتبارنا إحصائياتنا معطيات موضوعية، معصومة عن المساءلة، سنكون مطمئنين، ولكن ستكون العواقب وخيمة، حيث سنصل لنقطة نتوقف السؤال عن هدف ما نقوم به، وما الذي نقيسه، وما هي الدروس التي تعلمناها. وبذلك ينغلق الذهن، فنترك نظرياتنا مجردة عن الشك والمسائلة، فنمضي عشوائيا إلى الأمام، مقتنعين بأننا نعرف طريقنا، لنخلق فجوة بين إحصائيات خبراء المعلومة وخبرة المواطنين الحياتية، وستكون فجوة خطيرة، توهم المواطنين بالخداع وتدمر ثقتهم بالديمقراطية. وبعد أن أكد خبراء المال للمواطنين، ولسنوات طويلة، بتحسن مستواهم المعيشي، وبأن المال محرك للتنمية، ساءت أوضاعهم الحياتية يوم بعد الآخر، وجرت مخاطرة خبراء المال العالم لحافة الهاوية، ليخسر الكثير من المواطنين بيوتهم ووظائفهم وتقاعدهم. والمشكلة، بأن عالمنا ومجتمعنا واقتصادنا تغير بعد أزمة عام 2008، ولم تستطع مقاييسنا الاقتصادية أن تجاري هذه التغيرات، بعد أن تلاعب خبراءنا بالإحصائيات والحسابات، فتصورنا بأن أحلام الغنى هي الثراء نفسه، وسيأتي اليوم الذي علينا دفع ثمن المخاطرة والمغامرة، بعد أن خدعنا ببحور من المعطيات وغرقنا في أعماقها."
ويعلق ساركوزي على نتائج التقرير، فيقول: " وضح تقرير اللجنة بأن حقائقنا وإحصائياتنا كاذبة، وبأن طريقة تفكيرنا التقليدية عاجزة، وبأننا في حاجة لإعادة البناء والاختراع. وسيبقى السؤال: ما هو نموذج التنمية والمجتمع والحضارة التي ستلهمنا، لنعيشها، ونرثها لأطفالنا؟ ولن يكفي أن يكون السياسي إداريا يقرر حلول للازمات الاقتصادية، ويساعد على التغير، بل عليه أن يكون محرض للتغير، وبسرعة، وبعد أن يقرر أهدافه. فعلينا تحديد طريقنا، وأهدافنا وكيفية تحقيقها، وحينما نتأمل العلاقة بين الكمية والكيفية، وبين الموضوعية والذاتية، وبين القطاع الخاص والعام، نعكس بذلك بوضوح إدراكنا لمفهوم الحضارة، والتي على أساسها سنقرر ما سنحققه. ولو اعتبرنا الخدمات التي نقدمها لعائلاتنا، والساعات التي نقضيها في راحتنا ومتعتنا، كالثقافة والرياضة، لا قيمة سوقية لها، فنحن نعبر عن حضارة تقدم معيار الإنتاجية العالية على إدراك الطاقات البشرية الكامنة، لنخالف القيم الإنسانية التي نتشدق بها. فما الذي سيبقى من فكرة التطور إذا لم نحسب في اقتصاديات السوق زيادة الكلفة الطبية لحوادث سوء صيانة البنية التحتية، والموارد المالية التي تخصص لمحاربة القلق النفسي، وكلفة الخدمات الطبية والتعليمية والاجتماعية والأمنية العامة؟ ولو انغلقنا على مؤشرات ما نخلق لا ما ندمر، كالتلوث البيئي والتغيرات المناخية، ولم نخصم ما ننتجه مما نستهلكه خلال عملية الإنتاج، ونتناسى الديون التي نسحبها من مستقبل الأجيال القادمة، فكيف نستطيع إقناع مواطنينا الثقة بنا؟"
وينهي الرئيس الفرنسي ساركوزي تعليقه بالقول: "وستعتمد الحضارة التي سنخلقها على الطريقة التي نبني فيها حساباتنا، فلو رفع نظام قياسنا قيمة النشاطات التجارية المالية، وربطها بزيادة قيمة المخاطرة المصطنعة، والتي ستؤدي لزيادة تقلبات السوق، فأين قيمة الخدمات المالية التي تحمينا منها؟ ولو بالغ نظام قياسنا فائدة المضاربة، على حساب قيمة العمل، والإبداعات الذهنية، فسيعكس رؤيتنا المغلوطة للتقدم، وسيدخل في قلب نظامنا الرأسمالي تناقض يدمره. والمشكلة بأن معظم قراراتنا تعتمد على معطيات مرتبطة بنظام قياس قيمة المعدل الوسطي، وهي قيمة تبتعد يوميا عن الواقع، وتخفي التباين الهائل في الدخل، ليصبح الحديث عن المعدل المتوسط طريقة لتجنب الحديث عن اللامساوة. وقد أعتقد الكثيرون بأن تغيرات السوق تستطيع حل جميع المعضلات، وقد أثبتت الخبرات السابقة بأن السوق ناقصة، وبعيدة عن المسئولية والخطة والرؤية، وحتى أننا لا نعرف قيمة أصولنا لأن قيمتها السوقية تتغير كل ثانية حسب مضاربات المغامرين. لذلك، لا يمكن أن نبني مشروعنا الحضاري فقط على السوق، ولحظية العرض والطلب. كما لن نستطيع معالجة تحديات التغيرات الحرارية بترك توازن العرض والطلب لخلق سوق للكربون، ولا نستطيع التركيز على المعطيات التي توفرها لنا السوق، واعتبار السوق منبع لكل الحقائق، ولو كانت تلك الأكذوبة صادقة لما كنا اليوم في هذه الأزمة. ولم يخبرنا التقرير أين حقيقة الأزمة، ولكنه سيساعدنا على طريقة البحث عنها، ويجبر كل منا لمواجهة مسئولياته، لنفكر بطرق متعددة، ونقرر قرارات مختلفة، ولن نستبدل طريقة إحصائية بطريقة أخرى، بل علينا تدمير أسلوبنا العقائدي في التفكير، لنخرج من العقيدة المأساوية التي سجنا في قلاعها، والتي منعتنا من التفكير والمسائلة، وحبستنا بطريقة وحيدة لرؤية الأشياء."
وقد استخلصت اللجنة بأن الناتج المحلي الإجمالي لا يعتبر مقياس للرفاهية الاقتصادية، ولا يمكنه تحديد سعر لبعض البضائع والخدمات المجتمعية. فمثلا، لا تحسب السوق كلفة إنتاج الطاقة على تغيرات هواء المجتمع وصحة أفراده، والكوارث البيئية الناتجة عنه. كما أن هناك منتجات قياس درجة نوعيتها معقدة، كالخدمات العائلية والصحية والتعليمية والأمنية، والنشاطات البحثية والمالية. كما أن قياس نوعية الحياة، يغطي مفهوم أوسع من الإنتاجية الاقتصادية، ويشمل عوامل كثيرة تتجاوز المعيار المادي، كرفاهية البشر، ومتعتهم، وسعادتهم، وتحقيق أمالهم، والتي لا يمكن تقدير سعرها في السوق. لذلك، يجب أن يعتمد قياس نوعية المعيشة الحياتية على تقيم اقتصادي ونفسي مشترك، لتلعب استطلاعات الرأي دورا في قياس مدى رفاهية البشر وسعادتهم في المنزل والعمل والمجتمع، ومستوى وضعهم المالي، ودرجة إحساسهم بالألم والقلق والغضب، أو المتعة والفخر والاحترام. بالإضافة بأن هناك مؤشرات تقيم أخرى، كمدى صحة المواطن، ومستوى تعليمه، ودرجة الحرية المتوفرة له للعمل لتحقيق أهداف حياته في السياسة والعمل والعائلة، وعدد ساعات الفراغ المتوفرة ليتمتع المواطن بوقته مع عائلاته وأصدقائه، ومدى توفر فرص متساوية للمشاركة السياسية، والمحافظة على بيئة صحية نظيفة، والضمان الأمني والاجتماعي والاقتصادي. ويبقي السؤال لعزيزي القارئ: هل ستستفيد ثورات ما سمي الربيع العربي من هذه النقاشات، لإيجاد مؤشرات اقتصادية واجتماعية موضوعية لتقيم مدى نجاح تجربتها الجديدة، في عالم الألفية الثالثة. لنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
تصحيح العنوان
Doust -

كان من الأفضل لسعادة السفير أن يختار عنواناً آخر لهذا الموضوعمثلاً الأزمة الأقتصادية العالمية و الثورات العربية. و الديمقراطية ليست نهاية العالم فلا بد من إيجاد أنظمة أكثر أنسانية أي الأرتقاء بالأنسان إلى مستويات من العدالة الأجتماعية الراقية! و أقول ما كان في الماضي مستحيل أصبح اليوم واقع و غداً جنون و بعد غد بالي و قديم و هكذا فماذا يخبئ لنا المستقبل ؟

خريف نسعى له
ابو العز -

نحن نعلم انه خريف ولكن أفضل من جحيم حكامنا,,نحن متمسكين بهذا الخريف لأته الطريق الموصل للربيع المنشود..وسحقا لحكامنا ومن يقف من وراءهم

تحليل صائب وموضوعي
دكتور حسين علي صباح -

تحية وتقدير للكاتب المحترم على هذه المقالة التحليلية الدقيقة لمفاهيم التقدم والازدهار للمجتمع ومقايسها لما لهذا الموضوع من حاجة ماسة وضرورية تسترعي الخوض في أسباره ذلك لان الذي يحدث حاليا استغلال المفاهيم السامية عصارة تجارب مجتمعات الحداثة والتنوير كالديمقراطية مثلا حيث يجري معها وبشكل انتقائي اقتناص بعض من نتائجها وتسويقها وكانها هي الجوهر واستغلالها وبشكل خاص من قبل تيارات سياسية طامعة بالسلطة لا تؤمن لا بجوهر الديقراطية ولا بمقاييس المجتمع الديمقراطي ( ثقافة المجتمع الديمقراطي ) وتستعيض عنها ب..... صندوق الانتخابات ... هذا الصندوق الذي هو احد نتائج الديمقراطية وليس الديمقراطية نفسها. اكرر شكري لسعادة السفير السابق