فضاء الرأي

الأساطير وصدمة الحداثة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

المناهج العلمية لدراسة التاريخ والتي هي وليدة الفكر الغربي الملتزم بالحقائق المادية، والتي تنحو لاستخلاص ما تعده حقائق تاريخية من بين براثن الأسطورة، لابد لكي تحفظ لنفسها قدراً من الاعتبار بل والعلمية العقلانية أيضاً، أن تتواضع في ادعائها الإلمام بالحقيقة التاريخية، لتكون بذات القدر الذي تلعب فيه العوامل المادية حجماً في حياة وتوجهات الشعوب، فالمادة هي الجزء الصلب concrete أو hardware من الحقيقة، وهناك الـ software الذي وظف هذه الحقائق المادية وفقاً لطبيعته بجانب طبيعتها، وأكمل نقص روابطها أو الفراغات بينها بما قد يعده الباحث المادي خرافات وتهويمات، وما هو في الحقيقة إلا تعبيراً عن روح الشعوب، أو فلنقل احتياجاتها الأدبية أو المعنوية، فلو كان تاريخ الشعوب كما تصور بعض الفلاسفة الماديين مادياً محضاً، ولو كان الإنسان منذ بدء مسيرته الحضارية محض كائن مادي تنحصر احتياجاته واهتماماته في المادة، لما كان هذا الفارق الهائل بينه وبين سائر الكائنات التي تعد القردة أعلاها تطوراً بيولوجياً.
نعم التطور الكبير للمخ البشري والذي أوجد لديه ما نطلق عليه العقل reason قد ساهم في صنع تلك المسافة الشاسعة بين الإنسان homo sapiens وسائر الكائنات الحية، لكن هذا العقل ليس أداة أو جهازاً يتعامل مع المادة فقط كما جنح الفيلسوف الألماني "كانط"، فالمساحة الأدبية أو المعنوية التي أوجدها في شخصية الإنسان هي الأهم والأخطر، تلك المساحة هي ما أوجده "القلق" الذي اعترى الإنسان نتيجة لنمو وعيه، فالخوف من الخطر خاصية تتمتع بها سائر الحيوانات، لكنها خاصية تلعب فيها الغريزة الدور الأكبر أو الوحيد، وهو خوف لحظي يزول بزوال التهديد المادي الماثل أمام الكائن أو بعده بسويعات غاية في الضآلة، لكن تطور الخوف إلى "قلق" يدوم لفترة ما بعد ذلك هو ما اختص به الإنسان، وحالة "القلق" أو التوتر هذه هي التي أوجدت تلك المساحة من الفراغ أو الاحتياج المعنوي لملئها بما يخفض من حدة "القلق" أو التوتر، ومن هنا كانت الأسطورةmyth ، إذ بدأ الإنسان يعيد صياغة ما حوله من حقائق مادية وفق منظومة مختلفة، تلك المنظومة التي وإن ظهرت فيها ذات حقائق الواقع العينية، إلا أن سياقها الجديد ومفاصلها الخيالية المنتجة بواسطة العقل الإنساني هي بالتحديد عين ما يحتاجه الإنسان لملء المساحة المعنوية الخالية والتي تتسم بالتوتر، بالطبع بالإضافة إلى تعويض نقص معرفة أو فهم الإنسان لطبيعة المكونات المادية لعالمه والعلاقات البينية بين هذه المكونات، وهذا الجزء الأخير هو فقط ما استعوضه الإنسان عبر مسيرته عن طريق العلم science، وهو الجزء الوحيد القابل والجدير بالهدم من أجزاء الأسطورة.
نقول هذا لمن يتشحون برداء العقلانية والعلمية ويشرعون في تفكيك الأساطير بنية هدمها، بزعم انتسابها لعالم الخيال، وكأن هذا الخيال ليس خيالاً إنسانياً، أو كأن خيال الإنسان كان منقطع الصلة بالإنسان العيني ومعالم حياته واحتياجاته المعنوية التي لا تقل إلحاحاً أو أهمية عن احتياجاته المادية. . الخيال من منظورنا هذا جزء من جسد الحقيقة، فالحقيقة المادية concrete وحدها صخور صماء خرساء وميتة، لكنها تتحول إلى حقائق في عالم الإنسان، ليس فقط باكتشاف علاقاتها المادية بين بعضها البعض، أي ما نسميه علم الفيزياء physics، ولكن أيضاً بذلك النسق أو الأنساق المعرفية التي يلعب فيها الخيال الإنساني دوراً هاماً وحيوياً ما أشرنا إليه عاليه ونعرفه بالأسطورة mythology .
نهدي هذه المقاربة أيضاً للماديين الذي يقاربون الاحتقانات السائدة الآن في العديد من مناطق العالم مستندة لمرجعية أسطورية، بل وتهدد الحضارة العالمية في سائر معاقلها، وذلك عبر مقاربة مادية محضة، متصورين أن التطوير الحضاري المادي لمواقع الاحتقانات هذه كفيل وحده بتخليص تلك الشعوب من أسر الأسطورة وما يترتب على هذا الأسر من بدائية الثقافة وهمجية السلوك، وهو نفس خطأ المثاليين الذي يتصورون أن نشر وعي تنويري كفيل بحل تلك المعضلة التي تتبدى في تخلف الشعوب عن العصر وثقافته ومفاهيمه، فهؤلاء يحاولون استزراع وعي مفارق لطبيعة إنسان تلك الشعوب، هي عملية أقرب لعمليات زراعة الأعضاء لاستبدال عضو مريض بجسم الإنسان، حيث لابد وأن يرفضه الجسد فور توقف المريض عن تناول العقارات التي تعوق رفض الجسم للعضو الغريب، فإذا كانت المادة وتحويلاتها التكنولوجية قابلة للتعميم والتداول بين جميع البشر على سطح ذات الكوكب الأرضي الموحدة مواصفات مواده، فإن العامل أو الجزء الإنساني لا يقبل في جزء كبير منه ذلك التعميم والتداول بلا تحفظات، فالإنسان الفرد وإن كان يشترك مع أقرانه من البشر في الكثير من الملامح والصفات، إلا أن أخطر معالم إنسانيته أيضاً أنه فرد فريد لا يتكرر unique، ما يترتب عليه نسبة خطأ أكبر مما تحتمل الموضوعية في أي محاولة تعميمية على البشر. . أليس هذا بالتحديد والتخصيص ما حدث لمحاولات رواد التنوير في الشرق خلال النصف الأول من القرن العشرين على يد كوكبة من الرواد الذين اعتنقوا الثقافة الغربية وحاولوا غرسها في التربة الشرقية وفي عقول ووجدان أهلها؟!
بدأنا بالحديث عن "القلق" الذي كان إنتاج الأساطير قديماً محاولة لتخفيض حدته أو ملء الفراغ الأدبي الذي ترتب عليه، لننتهي هنا بالإشارة إلى "صدمة الحداثة" التي داهمت بعض الشعوب في عصرنا الراهن، والتي تولد عنها حالة "قلق" وصلت لدرجة "الجزع" أو "الهلع"، بدرجة ربما تفوق صدمة الإنسان الأول يوم فارق أبناء عمومته القردة على الأشجار، ليجد نفسه أمام ما لا قبل له بمواجهته من ظواهر طبيعية وكائنات تهدده أو تصور أنها تشكل له تهديداً نتيجة جهله بطبيعتها. . هكذا كان ما نشهده الآن من تقلصات تلك الأجساد المصدومة، التي تأخذ شكل التماهي مع الأسطورة، لنحتار في كيفية التعامل معها، إذا كانت المقاربة المادية المحضة كما أسلفنا لا تجدي، كما لا يجدي تفكيك الأسطورة لهدمها، كما فشل من قبل استبدال الوعي الذي يتبنى الأسطورة بوعي آخر مستورد يرفضه الجسد المعني كجسم غريب غير قابل للاستزراع. . هي إذن الحيرة كمن يقف في مركز دائرة تحاصره النيران من كل صوب، ويدور حول نفسه عبثاً باحثاً عن مخرج!!
ليس هذا هو المقال أو المقاربة الأولى لي التي أصطحب فيها القارئ فلا أصل به إلا إلى محطة الحيرة والتساؤل، وأضطر لتوديعه عندها لأنني لا أمتلك لحيرته وحيرتي أية إجابات أو مهدئات!!
kghobrial@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
علاج الحيارى الماديين
سامح لطفي -

سوف تذهب حيرتك عندما تغطّس في بحيرة الملح والكبريت !

بلد شهادات
أبو القاسم -

لا اسطورة الا الاسطورة والدجال مخترع الاسطورة.