التغيرات الديموغرافية واقتصاد الطب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
ناقشت صحيفة اليابان تايمز في الشهر الماضي خطورة التغيرات الديموغرافية اليابانية في القرن الحادي والعشرين. فيتوقع الباحثون انخفاض سكان اليابان بنسبة 61.3 %، من 127 مليون في عام 2010 إلى 49.59 مليون في عام 2100، بسبب الانخفاض الحاد في نسب الخصوبة، بينما سيزداد نسبة السكان فوق ال 65 سنة من 21 % إلى 41.1 %. كما عرضت الصحيفة تقريرا عن متلازمة الاستقلاب، وهي ظاهرة مرضية تجمع رباعية ارتفاع ضغط الدم مع زيادة السكر والكوليسترول والدهون في الدم، والتي تنتهي عادة بمرض السكري وجلطة القلب والسكتة الدماغية. وقد قدرت وزارة الصحة اليابانية بأن هذه المتلازمة الرباعية تؤدي لزيادة متوسط كلفة الرعاية الصحية بحوالي 120 ألف ين ياباني سنويا للمريض الواحد، مقارنة بالأشخاص الغير مصابين به. وقد درست الوزارة في عام 2009 كلفة علاج 2.69 مليون ياباني تتراوح أعمارهم بين 40 سنة وحتى 74 سنة مصابين بهذه المتلازمة الرباعية، فوجدت بأن هناك زيادة في كلفة الرعاية الصحية للرجال الذين يتراوح أعمارهم بين 40-49 سنة حوالي 100 ألف ين إضافية سنويا على معدل الصرف على الرعاية الصحية. بينما أرتفع معدل الكلفة بين النساء التي تتراوح أعمارهم بين 70-79 سنة حوالي 90 ألف ين، وقد أكدت مجددا وزراة الصحة اليابانية أهمية الالتزام بنمط حياتي صحي في الاكل والشرب وممارسة الرياضة ومحاولة خفض الضغوط الحياتية التي جميعها تلعب دورا كبيرا في هذه المتلازمة الخطيرة.
لقد أدى تقدم النمط الحياتي الوقائي مع تطور الرعاية الصحية العلاجية لتغير كبير في ديموغرافية المجتمعات المتقدمة، فقد كان متوسط عمر الإنسان في الغرب عام 1865 حوالي 45 سنة، ليرتفع في عام 1900 إلى 60 سنة، وليصل اليوم لحوالي 84 سنة، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 95 سنة في عام 2040. وقد بدأ الشعب الياباني الاحتفال بعيد ميلاد جديد بعد سن الستين متوقعا العيش ستين سنة أخرى ليصل العمر لمائة وعشرين سنة. وطبعا سيختلف مستقبل عمر الإنسان بين الدول والأفراد حسب تعاملهم مع التحديات الحياتية، ومدى صحة أكلهم وتجنبهم التدخين والكحوليات واهتمامهم بالرياضة، مع قلة جشعهم على الماديات وزيادة ارتباطهم بالأخلاقيات الروحية، وقدرة سيطرتهم على انفعالاتهم وتوجيه عواطفهم إيجابيا، لمنع القلق وأمراضه القاتلة كجلطة القلب والسكتة الدماغية والسرطان.
وبينت الأبحاث العلمية بأن هناك ثلاثة أنواع من الخلايا في جسم الإنسان وهي الخلايا الطبيعية والخلايا المسنة والخلايا السرطانية، وتؤدي الخلايا المسنة لتلف الخلايا الطبيعية وشيخوختها وتسرطنها بسرعة. وحينما يلتزم الإنسان بقواعد صحية صارمة في حياته يطول عمر خلاياها الشابة، وتقوى مناعته، لتفرز خلايا الدم البيضاء مادة بروتينية تغلف الخلايا المسنة والخلايا السرطانية فتسهل عملية التهامها وإتلافها. ومع سوء التغذية وقلة الرياضة وزيادة القلق وكثرة التدخين تضعف وظائف كريات الدم البيضاء، لتقل مناعة الجسم، فتزداد الخلايا المسنة وتتكاثر الخلايا السرطانية، لتنتهي بمرض السرطان.
كما أكدت الابحاث العلمية مدى ارتباط طول العمر بمدى التزام الإنسان بالقواعد الصحية والذي يرتبط أصلا بدرجة الذكاء البشري. فالذكاء العاطفي يبعد الإنسان عن الحماقة والغضب لكي يسيطر على عواطفه الحادة ويوجهها نحو نجاحه وتناغم مجتمعه فيقل من كثرة قلقه ليخلق لنفسه حياة سعيدة قنوعة وهانئة. كما يساعد الذكاء الذهني الإنسان على التعامل مع تحدياته الحياتية بتفحص وتأمل، ليحاول معالجتها بعد جمع المعطيات اللازمة وتقيمها وتحليلها. بينما يطور الذكاء الاجتماعي قدرة الإنسان على التواصل الاجتماعي مع أفراد مجتمعه، ليتعايش معهم في وئام، ويعمل بتناغم الفريق ليزيد إنتاجية المجتمع وتنميته الاقتصادية والاجتماعية. ويساعد الذكاء الروحي على الاستفادة من العقائد الروحية ليسمو بسلوك الذات البشرية عن طمع التنافس على الملذات المادية الحياتية. ويلعب الذكاء الجسمي دورا في المحافظة على أجسامنا لنحافظ على صحتها بأكل القليل من الدسم والسكريات، والإكثار من الخضروات والسلطات وتناول نسبة متزنة من اللحوم البيضاء بالإضافة للرياضة المنتظمة وتجنب التدخين والكحوليات.
ومن الجدير بالذكر، بأن نمو الطفل يعتمد على مادة كيماوية أساسية تسمى بهرمون النمو، يساعد على تنشيط تكاثر خلايا الجسم ونموها. وقد بينت الأبحاث الطبية بأن الرياضة المنتظمة تساعد العضلات على إنتاج مادة كيماوية تشبه هرمون النمو، تنشط نمو خلايا الجسم وتكاثرها وتبطئ تحولها لخلايا مسنة. ويساعد الذكاء العاطفي والذكاء الروحي الإنسان على الشعور بالسعادة مع زيادة افراز المخ مادة الأندورفين التي تنعش الروح وتحافظ على صحة الخلايا البشرية.
فتلاحظ عزيزي القارئ بأن المواطنة الصالحة وحدة الذكاء البشري تخفض من نسب الأمراض وتزيد إنتاجية المواطن وتخفض كلفة الطب، والتي وصلت في الولايات المتحدة الأمريكية إلى 18% من الناتج المحلي الإجمالي، مما أدى لارتفاع ديونها العامة إلى أربعة عشرة تريليون دولار، بل من المتوقع أن ترتفع نسبة الصرف على الرعاية الصحية في منتصف هذا القرن إلى 25 % من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي.
وقد أدت أزمة الديون في دول الغرب لمراجعة هذه الدول لبنود صرف ميزانياتها والتي تلعب ميزانية الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية بندا مرتفعا من مصاريفها. لذلك بدأت هذه الدول بزيادة التفكير في حكمة مثقال وقاية خير من قنطار علاج. ومن أخطر السموم على صحة الإنسان والأكثر كلفة على ميزانية الصحة هو التدخين والذي يرفع كلفة الميزانية العامة ليس فقط بشراء السجاير، بل أيضا كلفة علاج أمراضه المرافقة كالسرطان والجلطة القلبية والسكتة الدماغية. وقد خصصت صحيفة اليابان تايمز صفحة كاملة لمناقشة هذا السم القاتل، فكتب البروفيسور بيتر سنجر، أستاذ علم الأخلاقيات البيولوجية بجامعة برنستون الأمريكية، مقالا بدأ مقدمته بالقول: "إذا أخذ من الرئيس الملهم أوباما خمس سنوات لكي يتخلص من إدمان التدخين، فليس من الغرابة أن يكون هناك مئات الملايين من شعوب العالم التي لا تستطيع التخلص من هذا الإدمان القاتل. فمع أن عادة التدخين انخفضت في الولايات المتحدة من 40 % في عام 1970 إلى 20 % ولكنها توقفت عن الانخفاض منذ عام 2004. فهناك 46 مليون أمريكي يدخنون اليوم، ويقتل التدخين 443 ألف سنويا منهم. وتقدر عدد السجاير التي تباع عالميا ستة تريليون سيجارة سنويا، وتقتل ستة ملايين شخص سنويا، أي أكثر مما يقتله مرض الأيدز والملاريا والحوادث المروية معا. وتبين الاستقراءات الإحصائية بأن واحد من كل عشرة من سكان الصين ال "1.3" مليار سيموت بسبب التدخين. لذلك أعلنت أدارة الغذاء والدواء الأمريكية بأنها ستنفق 600 مليون دولار خلال الخمس سنوات القادمة لتثقف الشعب الأمريكي عن خطورة التدخين ومضاره، والغريب بأنها نست أن تفكر في حضر بيع هذا السم القاتل."
فمن المؤمل أن تتغير الديموغرافية السكانية في وطننا العربي مع تقدم النمط الحياتي الصحي وتطور الرعاية الصحية الوقائية والعلاجية، ليزداد متوسط العمر ويرتفع نسبة السكان ما فوق 65 سنة والتي لا تتجاوز نسبتهم في مجتمعاتنا العربية حتى اليوم عن 2.5 %، وسيؤدي ذلك مستقبلا لتحديات مجتمعية جديدة كزيادة كلفة الرعاية الصحية وزيادة كلفة التقاعد، مع انخفاض نسب الشباب العاملين في زيادة الإنتاجية، بسبب انخفاض نسب الخصوبة. ويبقى السؤال: هل ستتفهم مجتعاتنا العربية التحديات الديموغرافية المستقبلية، لتوفر ظروف مناسبة لتشجيع الشباب على الزواج، وإنجاب الاطفال، للمحافظة على التوازن السكاني؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان