فضاء الرأي

العرب وديمقراطية صوت لكل دولار

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان

مع نهاية الحرب الباردة أعتقد الغرب بأن تاريخ العالم قد انتهى بتفوق الفكر الرأسمالي الغربي، بعد أن فشل النظام الشيوعي، فحاول أن يستفيد من ديمقراطيته الرأسمالية لخلق سوق عولمة حرة ينافس فيها بمنتجاته وقوته الناعمة. واستغلت الفرصة شركاته العملاقة لتثبيت مواقعها في سوق العولمة الجديد، بدفع لوبياتها البرلمانية لإقرار تشريعات توفر لها أسواق لتصدير منتجاتها وترفع الحماية عن المنتجات الوطنية، وتضمن لها توفر الموارد الطبيعية والبشرية الرخيصة اللازمة لمصانع منتجاتها. فناضلت شركات الغرب لخصخصة وتحرير السوق من الأنظمة، بعذر نشر الرأسمالية الديمقراطية، وباستغلال ضغوط البنك الدولي والتهديدات العسكرية الغربية. وليتجنب الشرق المجابهة ويستفيد من الاستثمارات الغربية وتسهيلات قروض البنك الدولي، قبل بالرأسمالية الغربية وبديمقراطيتها المستوردة، فحرر أنظمته الاقتصادية لتسهل تسويق وحماية منتجات الغرب وتخلص من ضغوط المعارضة بتنفيذ شعار الانتخابات هي الحل، لتبدأ مسيرة تقليد إصلاحات الغرب الاجتماعية والاقتصادية. ولم تهل شمس عام 2011 إلا بطوفان انتفاضات وثورات في منطقة الشرق الأوسط لتمتد جذورها لدول الغرب، وقد عبر عن ذلك عالم الاقتصاد الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل في كتابه الجديد، ثمن الامساواة، بقوله: "هناك لحظات في التاريخ حينما يهب سكان العالم ليقول الجميع بأن هناك شيء خطأ، وذلك ما حدث في عام 1848 وفي عام 1968، لتبدأ حقبة جديدة من التاريخ، وقد يثبت التاريخ مرة أخرى بأن عام 2011 من أحد هذه اللحظات البارزة في حياة الانسانية. فقد بدأت انتفاضة الشباب في تونس وامتدت إلى مصر ومنه لبقية دول الشرق الأوسط. وقد أدت شعلة الانتفاضة في بعض هذه الدول لتغيرات اجتماعية متشابكة أطاحت معها دكتاتوريات مزمنة، وبسرعة البرق، ولتتبعها نزول شباب اسبانيا واليونان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة للشارع ولأسباب تخصهم. فقد كان المتظاهرون على حق، هناك تباين فاحش لا يمكن تناسيه بين ما يجب أن يحققه نظامنا الاقتصادي والسياسي، وبين ما تم تحقيقه فعلا. فحكومات العالم لم تعالج التحديات الاقتصادية التي تعاني منها شعوبها في القرن الحادي والعشرين وخاصة ما يتعلق بتزايد نسب البطالة والتضحية بالقيم الانسانية للعدالة، وذلك بسبب حفنة من الجشعين بالرغم من كثرة حديث الغرب عن حقوق الانسان ليصبح الشعور بالظلم شعور بالخيانة."
والسؤال لعزيزي القارئ: هل تسرع الشرق في تنفيذ شعار "الانتخابات هي الحل" قبل البدء بإصلاحاته الاقتصادية وتطوير ديمقراطية رأسمالية معاصرة تناسب قيمه وثقافته؟ وهل فعلا لقمة العيش على المدى القصير أهم من صندوق الانتخابات؟ وهل يمكن أن تحقق الانتخابات أهدافها ببيع الموطنين أصواتهم للسياسيين التقليديين لتوفير لقمة العيش، أو لرجال الدين السياسي أملا بالمقايضة للدخول للجنة؟ وهل الديمقراطية تربية ثقافة تعاون وتناغم واحترام الاختلاف، أم حروب إعلامية برلمانية، لتمزيق نسيج المجتمع بالطائفية، وفرض التطرف الفكري من خلال صندوق الانتخابات؟ وما دور علماء ديننا الأفاضل في كل ذلك؟
تؤكد نظرية هرم الحاجيات للبروفيسور الأمريكي أبراهم ماسلو بأن هناك حاجيات بشرية مادية وذهنية ونفسية وروحية لخلق شخصية مجتمعية سوية. وتبدأ قاعدة هذا الهرم بحاجيات فيزيولوجية كالهواء والماء والغذاء، وحاجيات أمنية كالملبس والمسكن والأمان، وحاجيات إثبات الذات بتوفر العمل، ليشارك الإنسان في إنتاجية مجتمعه ويثبت به قدراته الإبداعية. ويمثل جسم هذا الهرم الحاجيات النفسية، والتي تشمل توفر بيئة العائلة والأصدقاء وزملاء المهنة والجيران وأهل الحي. ويشمل قمة هذا الهرم الحاجيات الذهنية الممثلة بالحرية العقلية، والتي يستطيع الإنسان من خلالها أن يعبر عما يجيش في أعماقه من أفكار بصدق وحكمة، ليشارك بتناغم في استقامة أخلاقيات سلوك المجتمع وتطوره وازدهاره. كما يضم هذا الهرم حاجيات الإنسان الروحية التي تسمو بالنفس البشرية، وتدرس الكون وخالقه لتتفهم دورها في الوجود.
وقد طور الغرب فلسفة الرأسمالية الديمقراطية، كمحاولة لتوفير هذه الحاجيات، بالاعتماد على الفرد لتحقيق تنمية المجتمع وسعادته، بتوفير حرية التعبير، وضمانة التملك ومنافسة المتاجرة، والحماية من الفقر بشبكة الحماية التعليمية والصحية والتقاعدية. وربطت الحضارة الغربية بين الحرية والإنتاج وبين السعادة والإبداع، فكلما كان الإنسان حرا، حرية مسئولة، زاد توازن تفكيره وحكمة آراءه، ليستفيد من معرفته وخبراته في إنتاجية مبدعة، ليشارك في تنمية الوطن وسعادة شعبه.
وقد بدأت رأسمالية الغرب الديمقراطية مواجهة تحديات معقدة في القرن الحادي والعشرين بعد أن حول الميكروشب العالم لقرية عولمة صغيرة، وغزت تكنولوجية الانترنت عالم السياسة. فلم تعد تعتمد الشعوب على إعلام حكوماتها، كما صعبت على السياسيين الاختفاء وراء شفافية العولمة. ففتح اليو تيوب والبوك فيس والتويتر أبواب عالم جديد للنقاش وتبادل الأخبار، وسهلت تكنولوجية التلفون الرقمي إحصائيات استطلاعات الرأي والاستفتاءات الدقيقة والسريعة، والتي سلطت الأضواء على شعبية السياسيين، وتحدت أفكارهم وخططهم وسلوكهم. ويبرز ذلك بانخفاض شعبية أحزاب الغرب وبرلماناتها وحكوماتها بشكل غير مسبوق. وقد عبر ديفيد هوول، عضو مجلس اللوردات البريطاني والوزير السابق، عن ذلك بقوله: "الأحزاب السياسية التي خدمت كأعمدة للنظام الديمقراطي في الغرب خلال القرنين الماضيين، بدأت في رحلة انهيار مستمرة، لتذبل أعضائها، وتتحول سياساتها لمهزلة مضحكة ومحتقرة تقريبا في كل مكان. فلم يعد يحترم المواطنون لعب السياسيين الماكرة، وأصبحت أحزابهم وحكوماتهم نكرة مؤسفة. والتحدي الأكبر هو أن الحكومات الوطنية لم تعد في استطاعتها السيطرة على شؤون الدولة لتطفل العولمة في كل زاوية." وبينما بدأت تفقد ديمقراطية الغرب الرأسمالية فاعليتها تقوم دول الشرق بتقليدها بعد أن غيرت تكنولوجية "التلي بوليتكس" آليات عملها.
وقد انتقد البروفيسور جوزيف ستجلتز الديمقراطية الغربية بقوله: ولم تعد هناك فرص تعبير من خلال العملية الديمقراطية في دول الشرق الاوسط، مع أن ديمقراطية الانتخابات قد فشلت في الديمقراطيات الغربية، ومع ذلك كان هناك وميض أمل لانتفاضة الشباب في الولايات المتحدة ودول أخرى، ولم تكن انتفاضة دول الغرب ثورية ولا فوضوية بل يعتقد شبابها حتى الان بأن العملية الانتخابية قد تفلح إذا تذكرت الحكومة بأنها محاسبة أمام الشعب. وقد خرج المتظاهرون للشارع للدفع بهذه الانظمة الغربية للتغير، فرفع المتظاهرين في الولايات المتحدة شعار من 1% إلى ال 1% وبواسطة ال 1%، وقد برزت هذه العبارة في المجلة المشهورة انتي فير، لتعبر عن مدى اللامساواة في بعض المجتمعات الغربية بأن 1% من الشعب في القمة يملكون بقدر ما يملكه 99% من عامة الشعب، ويسيطرون على قرارات الشعب في برلمانات الغرب المضطربة بلوبياتها المأجورة وبديمقراطيتها المستباحة. فهناك نسبة 40% من البطالة بين الشباب الاسباني، بينما يحقق مدراء البنوك علاوات خيالية في بنوك مفلسة ومعتمدة في بقائها على تريليونات من الدولارات من الاعانة الحكومية، والتي سببت افلاس الكثير من حكومات الغرب. والجدير بالذكر بأن عملية اللامساواة وصلت لحد بأن تملك عائلة أمريكية واحدة ما يملكه 110 مليون من الشعب الامريكي، كما أن هناك أكثر من أربعين مليون فقير وستة وأربعين مليون مواطن أمريكي محروم من التأمين الصحي في دولة تعتبر أول اقتصاد عالمي. فقد تحولت ديمقراطية الغرب من ديمقراطية صوت لكل مواطن إلى ديمقراطية صوت لكل دولار، لتصبح الحكومة والبرلمان والقضاء في يد حفنة تمثل 1% من الشعب. فتشكلت اللامساواة ونمت بفضل السياسة التي من المفروض أنها ساحة للمعارك لتقسيم ثورة المجتمع، ومع الأسف أنتصر في هذه المعركة فقط ال 1%، وتلك ليست ديمقراطية صوت لكل مواطن، التي من المفروض أن يكون لي 100% من المواطنين رأي وصوت، وليس فقط ال 1%، ليكون الرأي رأي الجميع وليس رأي النخبة فقط. لذلك هناك اختلاف بين ما ينادي به معظم الشعب وما يقدمه رجال السياسة، وقد أدى ذلك لفشل ذريع في النظام الاقتصادي الغربي، الذي سيحتاج للإصلاح قبل فوات الاوان.
والسؤال لعزيزي القارئ: هل سيراجع الشرق إصلاحاته الديمقراطية ويعطي الأولوية لإصلاحاته الاقتصادية؟ وهل سيطور ديمقراطيته السياسية بالاعتماد على تاريخه وثقافتهوإمكانياته؟ وهل سيحاول الإستفادة من استطلاعات الرأي والاستفتاءات الالكترونية، لتقيم أداء رجال السياسية وقراراتهم الحكومية وتشريعاتهم البرلمانية؟ وهل سيمنع الدعم المالي الخاص الداخلي والخارجي للحملات الانتخابية ويحول مسئوليتها بعدالة على الدولة؟
سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف