تسونامي «فتح» .. دلالات من غزة إلى القاهرة.

كانت المفاجأة، حتى الذهول، هي ردة الفعل على تلك الحشود الهائلة التي تداعت كالطوفان، في الذكرى الثامنة والأربعين لانطلاقة حركة فتح، في غزة... وقد قُدِّرت بالمليون، أو مئات الألوف، فيما يعادل ثلث سكان القطاع، وهو أمر لا يخلو من دلالات.. أمرٌ لم تتوقعْه "فتح" نفسُها، ومن المؤكد أنه سيدعو "حماس" إلى التوقف، مليا، عنده، فهو يدلل على أنها لم تنجح في امتلاك قيادة أهل غزة، على الرغم من أنهم في حالات الحرب والعدوان، وحتى في الحصار الطويل الذي ضُرب على القطاع بعد هيمنة "حماس" على القطاع، وسط 2007م كانوا يزدادون تماهيا معها. فهذا التماهي والتخندق في منطقة المقاومة، والصمود، لا يدل على الانقياد السياسي والفكري للمشروع الحمساوي.وحتى العناصر التي كان يُفترَض أنْ تصب في مصلحة "حماس" وتعمل على تآكل رصيد "فتح" لم تكن إلا عكسية، فالسيطرة الحكومية، وما أتاحته من تحجيم لحركة فتح، وتهيئة لقاعدة حماس على الصُّعُد كافة، اجتماعيا، واقتصاديا، من خلال الإمساك بالمصالح، أو الإشراف على النشاطات الاقتصادية، وحركة النقل عبر المعابر، والأنفاق، وغير ذلك من المناشط التربوية والدعائية، من خلال مؤسسات الحكومة المختلفة..كل ذلك، وغيره لم يُمكّن لحماس في قطاع غزة، شعبيا، وبمجرد أن أُتيح لهذه الجماهير فرصةُ التعبير عن ذاتها خرجت، بهذه الأعداد المهولة. فكأن حرمان "فتح" من الظهور، وطغيان الرايات الخضر على المشهد الغزيّ زاد من التشوق، والتشوُّف للأعلام الصفر.

ليس حبا في علي ولكن بغضا في معاوية:وعلى الرغم من المشكلات الداخلية في حركة فتح، والمشكلات التي كادت تصل حد الانشقاق، على خلفية الخلاف بين عباس، ودحلان، فإن خصما موحدا، قد جمع بينهم، إلى حين. ومن المعروف أن السلطة الفلسطينية في رام الله تحرص على رعاية غزة، من خلال الموازنة والنفقات الدائمة، من رواتب، وخلافه؛ فهذه الصلات، ظلت بمثابة الحبل السري بين غزة ورام الله.وقد تجد قسما غير قليل من أولئك الزاحفين إلى احتفال فتح من عموم الشعب، غير المُؤطَّرين، تنظيميا، ولكنهم لم يستشعروا من " حماس" قربا، أو أنهم أحسوا منها تَحيُّزات إلى أنصارها، والمتعاطفين معها؛ فكانت لهم " فتح" نقيضا لحماس، ليس إلا.ما يدعونا إلى هذا القول أنَّ "فتح" ومشروعها : "السلطة الفلسطينية" تمر الآن في أسوأ حالاتها، سياسيا، وماليا، وإذا كانت حكومة " حماس" لا تزال قادرة على الصمود، برغم العدوان العسكري عليها من الاحتلال الإسرائيلي، فإن السلطة تقف عاجزة عن دفع رواتب الموظفين- وليست المرة الأولى- علامةً، على أزمة مالية بنيوية عميقة، والأدهى من ذلك أن هذا العجز يحدث، برغم التزامها الدقيق بـــ"استحقاقات" الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، وبرغم منعها أية مقاومة مسلحة للاحتلال، وحين تجرأت على "خطوة أحادية" مكَّنتها من "دولة مراقب" في الأمم المتحدة؛ ردا على تغوُّل المشروع الاستيطاني أمعنت حكومة نتنياهو في تغوُّلها، ولا مبالاتها بالسلطة، بل والعالم؛ ما تسبب بحالة من الإحباط سارعت إلى الطغيان على بذور الأمل التي أنبتتها العضويةُ غيرُ الكاملة في الأمم المتحدة.وحتى، على المستوى التنظيمي والإداري، لم تنجح قيادة فتح، في إتمام الحفل، واستكمال فعالياته المقررة؛ حفاظا على أرواح الناس، كما قالوا، برغم احتمالية وجود أسباب أخرى من الخلافات الداخلية، ولا سيما من أنصار دحلان..وهذا المؤشر- ولو أن البعض، قد يراه شكليا- ليس عَرَضيّاً في "فتح"، فهو يكاد يطبع احتفالاتها الجماهيرية، ونشاطاتها السياسية والانتخابية، حيث الشللية، والمشادات والمنازعات، وغيرها؛ ما يكشف عن حركة فيها من الفوضوية، والارتجالية، والولاءات الشخصية، ما يجعلها ليست النموذج الأرقى للقيادة.فقد تكون حالة الضيق التي استشعرها كثيرٌ من الناس، في ظل حكم "حماس"، وقد يكون الحصار والظروف الاقتصادية الصعبة، سببا رئيسا فيها، هذه الحالة هي التي جعلت الكثيرين يتأملون في عودة "فتح"، وعودة التوحد بين غزة والضفة، في ظل تنامي الحديث عن المصالحة، وزيادة المؤشرات على الاقتراب بين "حماس" و"فتح" بعد أن وصل المشروع الوطني ككل، إلى حالة حرجة تجعل الحركتين الكبيرتين تقفان أمام مسؤولية تاريخية.
ومن الناحية السياسية:هذا هو حال غزة بعد ما يزيد عن استفراد "حماس" بها، لمدة خمس سنوات: تلتفُّ حول "فتح" بهذه الجموع التي لا تخطئها عينُ المراقب، في رأيي أنها إذا صلحت دلالة سلبية، على نجاح متواضع لـ"حماس" ومشروعها، فإنها لا تبعث بدلائل مؤكدة على إيمان هذه الجماهير بنهج عباس التفاوضي، إلا أن يكون الالتفاف، على رمزية حركة فتح، بما تمثله من أسبقية نضالية تاريخية، وبما تنطوي عليه من خيارات نضالية يراها كثير من الفتحاويين وأنصارهم أوسعَ من خيار السلطة المحكومة بعلاقة مُحجِّمة مع الولايات المتحدة، وبالتالي يرون في "فتح" الحاضنة الباقية للنضال المفتوح والمتعدد الأشكال، وإن كان هذا الكلام لا يعززه واقع تنظيمي، تستقل فيه "فتح" عن السلطة المرتهنة باتفاقات سياسية ليس من السهل الانعتاق منها.ولا يعززه، كذلك، استقلال مالي يمكِّن "فتح" من إعادة تنظيم نفسها، وتعبئة عناصرها. وقبل هذا وذاك، لا تتبلور لديها رؤيةٌ موحدة لكيفية التعامل مع التحديات الحالية، من تفاقم الاستيطان، وممارسات الاحتلال، في ظل يمين إسرائيلي يزداد تشددا . بين غزة والقاهرة:أما الرابط بينهما فهو في هذه الظاهرة "الإسلامية" بين "حماس" وحركتها الأم "الإخوان المسلمون" التي تواجه تحديا لا يقل خطورة عن التحدي الذي واجهته "حماس" صحيح أن أهل القطاع لم يثوروا عليها، ولكن هذا التسونامي البشري كأنه إحدى تجليات الربيع الفلسطيني، بما يمثله من حضور جماهيري مؤثر، وليس البحث، هنا، عن اتجاهاته الفكرية، إذا وجدت، لكنه إشارة غير صريحة، أو مباشرة، عن عدم رضا على حكومة حماس.فبعد أن جُرِّبت "حماس" عمليا، ووُضِعَت في أتون التحديات اليومية المعيشية للناس، لم تخرج من هذا الاختبار بنجاح، وإن ظل الشعور بالمظلومية، بالحصار، وأعلى تجلياته بالعدوان العسكري البالغ البطش، وإن ظل هذا الشعور يُحصِّن "حماس" بل يوفر لها تعاطفا، ولو سطحيا، أو مؤقتا، من غير المؤمنين بنهجها، وفكرها السياسي والاجتماعي.فهذا التآكل الذي قد يكون تعرضت له "حماس"، وهو الناجم عن الاحتكاك (غير المقتدر) بالمشكلات والتحديات اليومية، تتعرض له جماعةُ الإخوان، في مصر، منذ صعدت إلى السلطة، مع افتقادها للعنصر النضالي الذي توفرت عليه "حماس"، بل إن محمد مرسي، وحكومته، على صعيد العلاقة بإسرائيل، والولايات المتحدة لا تقل (مرونة وبراغماتية) عن نظام مبارك.وإذا كانت فرصة أنصار النظام السابق في العودة إلى حكم مصر ضئيلة، أو معدومة، ولا سيما بالشكل الصريح، وإذا كان ائتلاف المعارضة يفتقر إلى القدرة على التوحد، أو الإمساك بخيط التمايز والقيادة؛ فإنَّ هذا لا يعني تَعَطُّلَ العوامل الأعمق في الشعب المصري الذي ينتج الأحزاب والقيادات.o_osaamah@hotmail.com