مشاريع النهضة الفاشلة وسبل الاستيقاظ من جديد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
سيظل السؤال القديم الجديد لماذا تأخرنا نحن، الأمة العربية الإسلامية، و تقدم غيرنا الغرب؟ قائما يستمد شرعيته من حجم التخلف الحضاري الذي ركنت إليه البلدان العربية تحديدا منذ قرون. شرعية السؤال القديم الجديد تتجذر أكثر فأكثر كلما برزت تجربة هنا وهناك تحاول الاقتحام وبلوغ ما تصبو إليه شعوبها من تقدم ورفاهية، تتخذ من مقومات "الفكرة العليا" الكامنة في إرثها الحضاري سبيلا للاستيقاظ من كابوس الفشل،وجعلها - أي الفكرة العليا- رافعة لبناء نهضة حقيقية.
ضمن سلسلة الإصدارات التي تشرف عليها مؤسسة "مركز دراسات الوحدة العربية"، وبتاريخ غشت من 2011في طبعة ثانية منقحة صدرت خلاصة أبحاث قيمة حول مسألة المشروع النهضوي العربي وأسباب فشل تجاربه السابقة التي شهدت محاولات إستلادته في بعض الدول العربية كنواة للتصنيع والتحديث وذلك منذ القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين الماضيين..ووقوفا عند تعثر تلك التجارب التي خاضتها مصر محمد علي باشا وتونس محمد الباي ومغرب الحسن الأول، حاول المركز القيام بنداء للمستقبل من خلال استرجاع هاته التجارب ودراستها على محك تحليل علمي حديث يتجاوز عثرات النظر السابقة،بغية صياغة مفهوم أكثر شمولية لمسألة النهضة..
تتضمن الدراسة/ الكتيب ثمانية أبواب تتوزع حسب الأهمية على الشكل التالي:.(سنحاول إفراد مقالات مستقبلية نرصد أفكارا وأطروحات ترتبط بكل باب من هذه الأبواب لما تشكله من أرضية خصبة لمساءلة عوامل سبل الاستيقاظ وبناء الأمة):
1/في ضرورة النهضة
2/التجدد الحضاري
3/الوحدة
4الديمقراطية
5/التنمية المستقلة
6العدالة الاجتماعية
7الاستقلال الوطني والقومي
8/آليات تحقيق المشروع
قبل أن نشرع في صياغة المقالات المتعلقة بمحاور هذه الدراسة تجدر الإشارة إلى أن ثمة أخطاء رئيسة حالت دون فهم عوامل فشل مشاريع النهضة بالعالم العربي،والتي شرعت في تنزيلها بعض من دوله منذ القرن التاسع عشر(علما أنه كان يسبق في مسعاه تجربة اليابان وكورياج والبرازيل وتركيا ).من بين هذه الأخطاء الرئيسة الإغراق في أحادية الرؤية في أساسيات المسألة. ففي الوقت الذي كان من المفترض معالجة عوامل النهضة من منظور شمولي يعكس رؤية العالِم الشرعي ورجل السياسة والاقتصادي التكنوقراطي وفعاليات المجتمع المدني من مختلف التيارات الفكرية والمذهبية،بلا إقصاء لأي كان،و النابعة من عمق المجتمع والمتصلة به،وفي حدود استحضار مستمر لمكون "الخارج"،بما له من قدرات فنية تقنية تحتاجها هذه البلدان العربية الإسلامية الطامحة في صناعة النهضة. بخلاف ذلك كله نظرت المذاهب الفكرية المختلفة المشارب إلى مسألة النهضة كما أسلفنا من زاوية أحادية الرؤية.فجاءت نظرة كل فريق وكأنها في جزر متناثرة متباعدة غير قابلة للتواصل أو التقارب.وكأنها في معزل عما يجري به نهر الحياة ويتدفق بمنتجه المختلط. فكانت الأجوبة على اختلافها لا تعرف التلاقح،على عادة الأفكار البناءة، ولا تتمازج فيما بينها كما يرجى منها. بل جاءت في صيغة إنفصام نكد لم تكن لترتكز عليه طلائع شعوب المنطقة الراغبة في قلب صفحة التخلف الحضاري بمظاهره البشعة، من ظلم وقهر واستبداد وتخلف علمي وثقافي وانسداد وعي حضاري،والشروع في كتابة أخرى أكثر إشراقا وأصدق أملا.
ما حدث من تأمل تجزيئي مفرط في النظرة الأحادية نستنتجه من خلال ما ذهب إليه كل فريق،في اعتبار ما جعله عاملا محددا ووحيدا للنهضة من عدمها، واعتبار تحققه كفيل بنهوض الأمة من سباتها. وهكذا ذهب الفريق"الليبرالي" خلال الفترة الممتدة بين الحربين من القرن الماضي إلى الاعتقاد جازما أن سبب التخلف العربي يرجع بالأساس إلى غياب نظام ديمقراطي، كذاك الذي ساد أمما متقدمة بالمنطقة الأوروبية،والتي بواسطة هذا النظام السياسي الديمقراطي والاقتصادي القوي أمكنها قهر العرب والمسلمين في عقر ديارهم منذ عام 1830م. وفي مقارنته-أي الليبرالي-لأحوال السياسة بين ما هو قائم في البلدان العربية، الغارقة في التقليد والاستبداد، وغياب كلي لمظاهر الإدارة الحديثة،وبين وما هو سائد في الأمم الأوربية من عصرنة وقوة عسكرية وتقنية فإنه كان يأمل في محاكاتها وطالب بالتالي استيراد نموذجها استيرادا كليا، دون تمحيص أو انتقاء، وطرح ما لا يتأقلم مع البيئة العربية الإسلامية ويعاكس بالتالي عملية الانطلاقة القوية للاستنهاض.الليبرالي،في مقارنته مع العالم المتقدم كان ينطلق من عوامل موضوعية فرضتها الأوضاع القائمة آنذاك.فالإمبراطورية البريطانية كانت شمسها لا تغيب كما هو معروف في حينها،وسلطتها القهرية شملت البلاد العربية وكذا الإسلامية في جزئها الشرقي الأوسطي و كذا الأقصى الآسيوي.كما كان الشأن أيضا بالنسبة لفرنسا حين احتلت بالحديد والنار أجزاء غربية منه ونعني بلدان الشمال الإفريقي وجنوب الصحراء الكبرى ودول الساحل الغربي على الخصوص. هذا الفريق الليبرالي المتأثر بمنجزات هذه الدول الاستعمارية رأى من بين أسباب قوتهم التي تفوقت على ضعفنا تمكن بالأساس في طبيعة النظام السياسي المتبع لديهم وهو النظام النيابي الديمقراطي، الضامن لتداول السلطة بين عموم فئات الناس على أساس الاقتراع وحرية اختيار الأفضل في سلطات التسيير الدنيوي القائم على مبدإ فصل السلطات وتقليص ومراقبة سلطة الحاكم.فجاءت مطالبته إذن بضرورة تحقيق هذا النظام وما يرتكز عليه من قوانين ودساتير يحتكم إليها لتدبير الاختلاف وإدارته بطريقة حضارية سلمية.ولتتحقق النهضة بالتالي بسلاسة ويسر حسب رأيه..تلك أمة خلت، لها كسبت ولا نسأل عما ولا كيف كانوا يفكرون.
أما التيار اليساري العربي المتنامي صيته في تلك المرحلة، مرحلة أربعينيات القرن الماضي،والمتأثر بنموذج الدولة السوفيتية آنذاك فقد اتخذ من الاشتراكية ركيزة لقيام العدل وبناء السلم الاجتماعي المصادرين من قبل الرأسمالية الجشعة و المحتكرة لأدوات ووسائل الإنتاج التي تضفي في النهاية،وبشكل آلي، إلى تحطم الأمن الاجتماعي وسيادة القهر مادام النظام الرأسمالي يولي أهميته القصوى للفرد على حساب الجماعة. لذلك ارتأى هذا التيار حينها إلى أن تِؤمم المؤسسات الاقتصادية والمالية الإستراتيجية من طرف الدولة ( من هنا جاءت فكرة البنك الوطني، وتأميم قناة السويس، وإقامة شركات صناعية هامة كسونطراك الجزائرية على غرار الشركات الرأسمالية الكبيرة لكن تحت مراقبة الدولة الصارمة ) سيرا على نهج النظام السوفييتي والصيني. بل وسيعمل هذا التيار اليساري حين بلغ إلى السلطة بطريقة أو أخرى في مصر على عهد جمال عبد الناصر والجزائر على هواري بومدين و ليبيا في عهد معمر القدافي على مصادر ة الأراضي الفلاحية وإعادة توزيعها من جديد على صغار الفلاحين، أو جعل البعض منها ضيعات بيد الدولة على كما كان الشأن بسوفخوزات وكولخوزات الدولة السوفييتية( الجزائر نموذجا).
والحقيقة أن فكرة مصادرة أملاك الطبقة البرجوازية والأرستقراطية الإقطاعية كانت مبنية على مبدإ صراع الطبقات، الذي هو صراع قديم قائم بسبب اختلاف المصالح المادية والاقتصادية،و المشارب الثقافية ينتهي بانتصار أحدهما على الآخر في حتمية تاريخية لا مجال للشك في صحتها. من هنا كانت فكرة تأميم ثروات البلاد الإستراتيجية:أبناك ومعامل ومؤسسات صناعية ومالية من قبل الدولة وتركيزها جميعا:من أدوات إنتاج وكذا طرقه المختلفة في يدها بلا شريك ولا منافس،سيرا على نهج ستالين السوفياتي وماو تسي تونغ الصيني،في انتظار اكتمال وعي البروليتاريية الذي ستفضي في النهاية إلى انتصار المشاعة البدايئة، كما تبشر به الماركسية، و القضاء على البرجوازية وثقافتها، وإحلال بدلها ثقافة البروليتارية التي هي الأصل ثقافة الشعب في نبضها الصافي..
أما التيار القومي من جهة فقد بنى فكرته الرئيسة على مسألة ضرورة الاستقلال الوطني و انهاء حالة التبعية السياسية والاقتصادية للغرب. فالدول العربية التي كانت حديثة عهد بالاستقلال إلا أنها ظلت في كثير من توجهاتها السياسية والاقتصادية خاضعة لتوجهات عواصم الغرب المسيطر.،والاستقلال الوطني وحده كفيل أن يحيي النفوس ويبعث على بناء التنمية المستقلة التي تنشئها على مبادي وطنية خالصة يساهم فيها الرأسمال الوطني اعتقادا منه، بأن من مقومات النهضة استقلال الإرادة واستكمال تحرير الأرض من الهيمنة الأجنبية وبناء القدرات الاستتراتيجية الذاتية.
في حين رأى التيار الإسلامي المشبع بالإرث الحضاري أن لا إصلاح لهذه الأمة في هذا الزمن المتأخر إلا بما صلح بها أولها،أي بالرجوع إلى منابع الدين الإسلامي الحنيف واستحضار طاقاته الكامنة و المتجددة التي كانت سببا في صناعة حضارة الإسلام الزاهرة في عصر توهجها وانطلاقتها القوية خلال العصور الوسطى.ولذلك كان التشديد على مسألة الهوية والجماعة والثقافة أمرا طبيعيا في منحى التيار الإسلامي، لكن من غير انغلاق على مستجدات الحضارة الغربية الحالية،رائدة التقدم الإنساني بلا جدال. وكلما هو مطلوب،حسب رواد هذا التيار هو انفتاح بوعي واستيعاب واقتباس من دون خوف أو استلاب. وذلك لن يتأتى إلا بفهم عميق للتاريخ والحاضر من أجل نداء رشيد للمستقبل الذي نحلم به ونسعى إلى تحقيقه على أرض الواقع،بدء من بناء وحدة عربية متينة تحظى فيه الدولة القطرية بمكانتها التي تتعارض مع هذه الوحدة العربية،والتي تستلهم قوتها المادية من خيراتها الطبيعية المكتنزة في جوفها خاصة خيرات البترول والغاز الهامتين اللتين ستكونان الركيزة الأساسية في إحداث تنمية مستقلة مستدامة شاملة تنهض بالديمقراطية الحقة وتحمي حقوق الفرد والجماعة. وتلك هي محاور المقالات القادمة بإذن الله.