أصداء

مزرعة الحيوانات

-
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

لم تكن رواية " مزرعة الحيوانات " (Animal Farm)للكاتب البريطاني " جورج أرويل" (1903- George Orwell1950) مجرد عمل أدبي أملته الاهتمامات والهموم الأدبية والفنية الذاتية فحسب , بل كانت أيضا محاكاة لواقع سياسي محبك و مملوء بالتناقضات والصراعات الأيديولوجية في مرحلة جد حساسة من تاريخ روسيا والعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. فلق قدم جورج أرويل رؤية سياسية لما حدث إبان الثورة الروسية والألمانية في قالب فني بسيط يمتزج فيه الواقع بالخيال والرمز والتشبيه والمجاز. فانزاح الأدب إذن عن دوره التقليدي كفن خيالي تجريدي لا يحاكي الواقع ولا يسقط في متاهاته التبسيطية , إلى فن استقرائي يحاور العقل الفني ويقدم له نسخة أدبية لتحولات الوعي الانساني المتشابك سياسيا ومعرفيا واجتماعيا. تنتمي رواية " مزرعة الحيوانات " لجنس الأدب الرمزي الذي برز وانتشر بشكل واسع في القرن السابع عشر للميلاد وشكل ثورة أدبية بالنظر إلى الدور التقريبي نحو العقل الشعبي الذي لعبه وصار بالتالي بديلا لصالونات التحليل السياسي لنخبة النبلاء والسياسيين والمفكرين, وبالنظر أيضا للظرفية السياسية التي كتبت فيها والتي نالت على إثرها لقب أعظم الأعمال الأدبية.

كتب أورويل هذه القصة المثيرة للجدل آنذاك والتي ماتزال ممنوعة في العديد من الدول الاشتراكية كالصين وكوريا الشمالية سنة 1945 قبيل انتهاء الحرب العالمية بقليل وقد بيّن هدفه من وراء هذا العمل قائلا: "ما من شيء ساهم في إفساد المعنى الأصلي لمذهب الاشتراكية أكثر من الاعتقاد بأن روسيا بلد اشتراكي، وأن كل فعل يصدر عن القادة السوفيات ينبغي تبريره بل محاكاته، لهذا السبب أصبحت مقتنعاً في السنوات العشر الماضية بأن تدمير الأسطورة السوفياتية من خلال كتابة قصة يسهل على الجميع فهمها كما يسهل ترجمتها إلى لغات عدة". كان السبب إذن وجيها , فالصورة التي قدمها السوفيات عن الاشتراكية كأيديولوجية علمية وسياسية كانت مشوهة ومشوبة بالعديد من الأخطاء القاتلة وبالتالي ساهمت في فشلها أمام صعود الرأسمالية التي استغلت هذا الفشل من أجل الظهور بصورة الأيديولوجية البديلة. لم تكن مهمة تصريف هذا الموقف الأيديولوجي في قالب أدبي بالأمر السهل وخصوصا بالطريقة القصصية المثيرة للجدل التي كتب بها جورج أرويل. لقد جاء هذا العمل في ظرفية حساسة تمثلت في انتهاء الحرب العالمية الثانية المدمرة والتي كانت روسيا ضالعة فيها بشكل كبير وجوهري وبروز بوادر نظام عالمي جديد هُلكت فيه أنظمة في طور النشوء كالنظام الاشتراكي الذي سيفقد شعبيته ماقبل الحرب لصالح الولايات المتحدة الأمريكية التي ظهرت كقوة رأسمالية جديدة استفادت بشكل كبير من الانهيار السوفياتي المريع.

السيرة الذاتية لجورج أرويل مليئة بالانعطافات الأيديولوجية والاجتماعية والتي لعبت دور المؤثر القوي في توجهاته وأسلوبه الأدبي وهذا واضح في كل أعماله كالذي بين أيدينا. فلقد ولد أورويل في الهند سنة 1903 م حيث كان والده يعمل هناك، وأورويل ليس إلا اسمه الأدبي أما اسمه الحقيقي فهو ايريك آرثر بلير(Eric Arthur Blair).عاد إلى إنجلترا وهو في الرابعة من عمره، و تلقى تعليمه هناك حتى تعين في شرطة الإمبراطورية الهندية في بورما، حيث عمل هناك لخمسة أعوام. عاد بعد ذلك إلى انجلترا وفي هذه المرحلة سيعرف أرويل تحولا ايديولوجيا مصيريا في حياته بعدما رفض وضيفته الجديدة مع الحكومة البريطانية مما جعله ينفصل عن الطبقة الوسطى التي ينتمي إليها والتي سيخدم من خلالها الإمبريالية على حد اعتقاده. هذا الاختيار الصعب بقدر ما شكل له نوع من الفراغ الوظيفي بقدر ما ساهم في تشكل وعيه السياسي الجديد وسيجعله يعيش متشرداً ما بين لندن وباريس، وهي التجربة التي سجلها في كتابه متشرداً ما بين باريس ولندن Down and Out in Paris and London 1933. هذه التجربة و هذا الاقتراب من الطبقات الدنيا في المجتمع البريطاني، جعلته يعي الظلم والقهر والحيف الواقع عليها، وهو ما جعله يتبنى الاشتراكية ويقوم بنفسه بزيارة عمال المناجم في ويغان، حيث يعيش معهم ويسجل تجربتهم في كتاب الطريق إلى رصيف ويغان The Road to Wigan Pier 1937 وعندما قامت الحرب الأهلية الاسبانية انتقل إلى هناك وشارك في الحرب وسجل تجربته في كتابه الحنين إلى كاتالونيا Homage to Catalonia (1938).

تدور قصة " مزرعة الحيوانات" حول مزرعة تثور الحيوانات فيها على صاحبها السكير (السيد جونز) الذي يمتل هنا القيصر المخلوع " نيكولا الثاني" الذي كان يستغلها لمصالحه من دون أن يعطيها حتى كفايتها من الطعام. هذه الثورة تأتي لتحقق نبوءة حكيم الحيوانات وهو خنزير اسمه (ميجر)، والذي تنبأ بالثورة ومات قبل أن يشهدها - شخصيته هي مزيج من ماركس ولينين -، وهي الشخصية التي قدمها أورويل بصورة الثوري المبدئي الذي ناضل من أجل مصلحة جميع الحيوانات. يقود الثورة بعد هذا خنزيران أحدهما يدعى سنوبول - شخصيته مزيج من لينين وتروتسكي - والآخر نابليون - ستالين -، تخلصا من الخنزير الأول بنفيه وتشويه صورته عن طريق خنزير إعلامي الذي استخدم مؤهلاته الدعائية وتمكن من تمويه الصورة الحقيقية لميجر واتهامه بالخائن. يتم بعد ذلك وضع سبعة قوانين لمذهب الحيوانية الذي ستسير الحياة في (مزرعة الحيوانات) على أساسه تحت مبدأ أن كل الحيوانات متساوية ثم تبدأ الحيوانات في العمل الشاق، وخاصة بناء طاحونة من أجل توفير الطاقة الكهربائية للمزرعة. تبدأ الخنازير التي تولت القيادة في تمييز نفسها عن الحيوانات الأخرى، وكسر بعض القوانين السبعة، بل إعادة كتابتها لتتناسب مع الوضع الجديد، يطرد الخنزير نابليون صديقه سنوبول (الوفي لأهداف ثورة الحيوانات ) ويسيطر على المزرعة بقوة، محيطاً نفسه بخنازير محدودة، وبكلاب شرسة لا تدين بالولاء إلا له. مع الوقت تصبح حياة الحيوانات أسوأ مما كانت في ظل صاحبها الإنسان السابق، ولكن لا أحد يتذكر، والدعاية الدائمة التي يقدمها الحكام الجدد تمجد الإنجازات التي قاموا بها وويل لمن يشكك في هذا. في النهاية تكسر الخنازير آخر القوانين السبعة، وهو قانون غريب كانت الحيوانات أقرّته، يفرق بين الحيوانات والإنسان وهو باعتبار أن من يمشي على قدمين عدو ومن يمشي على أربع صديق وتؤسس بذلك لمذهب جديد وترفع شعارا جديد : كل الحيوانات متساوية لكن بعضها فقط أكثر مساواة من الأخرى. تعلمت الخنازير المشي على قدمين، لتميز نفسها عن بقية الحيوانات، وهكذا تمحى القوانين السبعة التي ولدت مع الثورة، وتختم الرواية على مشهد الخنازير وهي تتبادل المصالح مع أصحاب المزارع المجاورة من البشر، بحيث لم تعد الحيوانات تفرق ما بين البشر والخنازير، وبحيث لم تعد المزرعة للحيوانات، وإنما تحول اسمها إلى (ضيعة الخنازير).

من بين التيمات الرئيسية لهذه الرواية القصيرة هي موضوعة السلطة المطلقة , فالسلطة قد تَفسد، ولكن السلطة المطلقة تفسد على الإطلاق لأن الأيديولوجيا مع كثير من الشوفينية تحول السلطة إلى أداة لفرض الأمر الواقع وبالتالي التحول إلى سلطة استبدادية تقهر الإنسان وتحد من أماله وطموحاته. "مزرعة الحيوانات" هي حكاية بسيطة تتحدث عن قيم رمزية كبيرة كالحرية والمساواة, لقد ناضلت جموع الحيوانات في المزرعة ضد البؤس وقهر الإنسان لها الذي استمر في الاستيلاء على خيرات المزرعة ومنتجاتها على حساب كدح واستماتت الحيوانات في العمل الشاق. كانت الثورة إذن حلمهم وملاذهم الأخير ضد هذا الواقع البئيس وكانت الخنازير تُجيّش الحيوانات وتخطب فيها من أجل خلق دعم شعبي للشعارات الواقعية التي حملتها والتي نالت رضى الجميع بسبب قوة الطرح وضعف قوة الخصم الذي جسده السكير جونز. لكن انتقال السلطة إلى يد الخنازير بددت أمال الحيوانات بل تحولت إلى أداة استبدادية أكثر فتكا وطغيانا من الأولى فكيف حدث ذلك؟

تعتبر الثورة أحد أهم التيمات الرئيسية الأخرى التي تناولها أورويل في هذه القصة موضحا كيف تنهزم الشعارات البراقة أمام مكر الثوار أنفسهم وقَولبتهم لعقول العامة وأحاسيسهم عن طريق ما يسمى بالثورة المضادة, وكما أوضح أورويل نفسه: "هذا هو تاريخ الثورة التي استغلت بشكل خاطئ " ودلالات ذلك تكمن في الأدبيات التمويهية التي مارستها الخنازير من أجل إحكام قبضة السلطة على جميع نواحي الحياة , من كلاب شرسة تفرض كلام الخنازير بالقوة وإعلام يموه الحقيقة ويصوغ أخرى جديدة على مقاس الثوار الجدد ثم استغلال للدين ممثلا في الغراب الذي رضخ للأمر الواقع واستسلم لقوة الخنازير. وبالتالي خرقت هذه الأخيرة دستور الثورة الأولى لصالح دستور الخنازير الجديد الذي جعلهم يترفعون عن طبيعتهم الحيوانية لصالح طبائع البشر لكي يثبتوا أحقيتهم بالسلطة الدائمة.

يمكن أن ينظر إلى الرواية بوصفها التحليل التاريخي لأسباب فشل الشيوعية على يد الشيوعيين أنفسهم , ويمكن أن ينظر إليها كوسيلة لإبراء الذمة من الصورة التي قدمها الشيوعيون الروس والألمان وفي كلتا الحالتين فإن جورج أورويل قدم عملا أدبيا رفيعا وتجسيدا لعالم الأفكار ولواقع الثورات السياسية. هي أيضا دراسة لواقع الأنظمة الشمولية وكيفية انتشارها وآلياتها الرهيبة في قمع الشعوب واختراق حدودها الذاتية لصالح النظام الذي يمارس النهب المنظم والتهديد المنظم والسرقة المنظمة.

القصة إذن بسيطة ورمزية وفي بساطتها تكمن قوة الخطاب الروائي في الأحداث والشخوص والأماكن عبر أسلوب الحكي التسلسلي في قوالب من التشبيه والخيال والرمز والتمثيل والإيحاء والسخرية. هي أيضا عرض ونقد للأفكار جسدتها جل مكونات الحبكة القصصية من أماكن وأسماء وأشخاص وأدوات وشعارات وحوارات جعلت هذا العمل يسمو إلى مرتبة الأدب العالمي بكل الثقل والشروط والأهداف التي تتطلبها عملية الرقي هذه. فالأدب العالمي فكر إنساني يناقش العقل الجمعي عبر آليات المشترك الإنساني من قيم رفيعة ومبادئ سامية وشعور بالاختلاف والمساواة ولذلك فإن الأدب هنا يسمو بالإنسان مثله مثل الموسيقى والرسم إلى عوالم أكثر حرية بغض النظر عن الحدود الثقافية والاجتماعية والسياسية. بذلك فإن مزرعة الحيوانات مازالت حية تقرأ وتناقش وتترجم إلى جميع اللغات ومازالت تستشف منها الدروس والعبر لأنها كما قلنا جسدت هموم الإنسان في العيش الكريم والحرية وهي المعارك التي ماتزال ترافق الإنسان المعاصر وبلا شك ستكون معركته الأبدية والمصيرية.

Mus.aitkharouach@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف