هل بدأت أميركا تتخلف عن الركب الحضاري؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تلكم هي الفكرة التي افتتحت بها صحيفة النيويرك تايمز عددها ليوم 22 أكتوبر الحالي، إذ نشرت تحذيرات العديد من الباحثين الذين دقوا ناقوس الخطر بخصوص التراجع الاقتصادي الأمريكي لصالح قوى عظمى جديدة، وذكرت أن على أمريكا العمل على تنمية مقومات الاقتصاد الجديد الذي أصبح يرتكز أكثر من أي وقت مضى على المهارات العالية من التعليم والعلوم والرياضيات. هذه المخاوف تقوت بعد نشر تقرير منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي - وهو ائتلاف الدول المتقدمة- لهذه السنة الذي وضع أمريكا في مستوى متدني في ثلاثة مجالات حاسمة : التعليم - القدرة على فهم و الرد على المواد المكتوبة ؛ الحساب - القدرة على استخدام المفاهيم العددية والرياضية ؛ وحل المشكلات - القدرة على تفسير وتحليل المعلومات باستخدام أجهزة الكمبيوتر.
ركزت البحوث على الأشخاص في سن 16-65 في 24 بلدا، حيث سجل الأميركيون نتائج ضعيفة أقرب إلى الفقر المعرفي في جميع المجالات الثلاثة. ففي مجال التعليم، على سبيل المثال، فقط نحو 12 في المئة من البالغين في الولايات المتحدة سجلوا أعلى المستويات، وهي نسبة أقل مما كانت عليه في فنلندا و اليابان ( حوالي 22 في المئة ). وبالإضافة إلى ذلك، سجل واحد في ستة أمريكيين مستوى ضعيف جدا في مجال التعليم مقارنة مع 1 في 20 من البالغين في اليابان.ووصف التقرير أيضا بأن المهارات الحسابية للأمريكيين " سيئة للغاية "،و تفوقت فقط على بلدين وهما : ايطاليا واسبانيا. وسجل ما يقرب من واحد من كل ثلاثة أمريكيين مستوى متدني في الحساب. وفيما يشبه صفعة قوية للنظام التعليمي الأمريكي، فقد ذكر التقرير أن مؤشرات الضعف التعليمي أصبحت في مستويات حرجة وخير مثال على ذلك ضعف نسبة النجاح والتخرج مقارنة ببلدان متقدمة أخرى، حيث سعت تلك البلدان، وأبرزها فنلندا، إلى الحصول على مستويات عالية من التعليم، وتحسين تدريب المعلمين، وأخذ هذه المقارنات الدولية على محمل الجد، واستخدام بيانات منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي لتحديد أهداف السياسات و قياس وتيرة التقدم التعليمية.
يأتي هذ التقرير في وقت نشرت فيه وكالة " تايمز" للتعليم العالي أيضا تقرير التصنيف العالمي للجامعات العالمية لسنتي 2012-2013 برعاية منظمة " تومسون رويرتز"، وهو التقرير الذي يعتمد على مؤشرات التفوق الجامعي في تخصصات التعليم والبحث والتبادل المعرفي حيث مازالت الجامعات الأمريكية تحتفظ بالصدارة إلى جانب الجامعات البريطانية في التصنيف العالمي لأفضل جامعات العالم تميزا. ربما هذا الأمر يدعو للتناقض، فإذا كان التقرير الأول يرسم صورة قاتمة على الوضع التعليمي الأمريكي بالمعايير التي ارتكز عليها، نجد اليوم الجامعات الأمريكية - في التقرير الثاني- مازالت تتصدر الريادة العلمية العالمية. إن الإشكال - بنظر الباحثين والمفكرين - مرتبط ليس فقط بمعايير التقويم العلمي والمعرفي للمؤسسات التعليمية الرسمية ومدى جدوائية نتائجها وعلميتها، وإنما الأمر يرجع إلى تأثير المعارف العلمية والتقنية والإنسانية على خلق رفاهية المواطنين في مجتمع تسود فيه القيم الإنسانية المتحضرة.
بعد فوز ثلاثة أمريكيين بجائزة نوبل للاقتصاد لسنة 2013 يتقدمهم الاقتصادي المرموق " روبرت شيللر" - وهو بالمناسبة من أبرز المتنبئين بالأزمة المالية العالمية الأخيرة في دراسته للأسواق المالية - صرح هذا الأخير أن : علم الاقتصاد لديه مجموعة من التأثيرات لتحسين رفاهية الإنسان وأن الموارد المالية تبني الحضارة الحديثة. ومن المعلوم أن جائزة نوبل لم تدرج علم الاقتصاد إلى قائمة العلوم والمعارف إلا سنة 1969 بعد أن كانت الجائزة مقتصرة على الفيزياء والطب والكيمياء والآداب والسلام. وهذا الأمر يرجع أساسا إلى بداية ظهور الاقتصاد كعلم مستقل بذاته منهجيا وعلميا وإلى تطور الحضارة الإنسانية الحديثة التي تعتمد بشكل محوري على الاقتصاد سواء المؤسساتي أو السياسي أو المعرفي. ما يعني أن الانهيار الحضاري أصبح مرتبطا بانهيار النظام الاقتصادي وهذا على الأقل ما يجعل من العلوم الأخرى مجرد تحسينات معرفية لا يشكل فقدانها أو عدم تطويرها مهددا للوجود الحضاري العالمي.
إن مؤشر الديمقراطية لسنة 2013 الذي تصدره خلية الخبرة الاقتصادية العالمية والذي يصنف دول العالم الأكثر ديمقراطية - حيث أمريكا تحتفظ بالرتبة 21 بعد كوستا ريكا -، يجعلنا نقارب موضوع النكوس الحضاري مقاربة مغايرة. فالمعارف والعلوم بقدر تطورها ونموها لا تصبح فعالة ومنتجة من دون تطويعها الاجتماعي والسياسي لتصبح مرادفة لتنمية الفرد وتحقيق حريته ورفاهيته. واليوم جل الدول المتقدمة لديها قدر من هذه الشروط وهي متفاوتة لكن توفر قدرا كبيرا من الحقوق والحريات للمواطنين والمساواة فيما بينهم وهي الشروط الضرورية لاستمرار الحضارات وتطورها، أما بناء القوة الاقتصادية المادية على حساب حرية الأفراد وحقوقهم الطبيعية ومساواتهم وتمتعهم بالسلم الاجتماعي فهي ضرب من الجنون والعبودية والحضارات تنهار في أوج عظمتها المادية.