محمد الحداد تأويليات على درب التنوير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يحفر بجدية المجتهد الدؤوب، بحثا عن خيوط المعاني في ظل ضبابية الرؤية وانسداد الأفق، التي لم تنل من همته ولم تخب عزيمته، ولم يعتريه الكلل ولا الملل ولو للحظة. فهو الساعي في حفرياته التأويلية نحو ترسيخ تنزلات النص في اقتران روحاني ينبئ عن إخلاص قل أن يتوافر في هذا الزمان.
هذا ما جعل مشروعه الفكري محاصرا بين كماشتين التطرف: الأصولية أو الحداثية، وهو ما عبر عنه بالقول: "لم تسلم كتابي من سوء الفهم. الحداثيون جدا اعتبروا المشروع شكلا من أشكال التوفيقية، والمتدينون جدا رأوا فيه دعوة إلى قياس الإسلام على المسيحية. لم يفهموا أني لا أقصد مقارنة مضامين فكرية أو وقائع أو أحداث، بل قصدت البحث عن بنيات عميقة لظاهرة بشرية كونية".
ويضيف فصلا للمقال لما قد يكون بينه وبين هؤلاء أو أولئك من اتصال، مشروعي موقف أو بالأحرى توجه معرفي يرمي إلى مخالفة العلمانيين التقليديين الذين يدافعون عن حداثة نخبوية، ويخلطون بين التحديث والتغريب، ومخالفة للأصولية الدينية التي تسعى إلى تأسيس استبداد جديد بمقولات مختلفة.
يعمل محمد الحداد في مشروع النقدي التأويلي لخطاب الإصلاح الديني على ترصد الأسئلة من أجل الوقوف على أطراف المعنى، دون أن يدعي احتكاره أو حتى تملكه، مقدما قراءة متبصرة بعقل الباحث المجتهد بعيدا عن بهلونيات الإيديولوجيا وشطحات التأملات وهذيان الإطلاقيات.
يشتغل هذا الأكاديمي التونسي بصمت بعيدا عن ضوضاء الإعلام على آليات كشف الخطاب التي تمكنه من تحرير المعرفة الدينية، وتأسيس ما أطلق عليه اسم "الإسلاميات التأملية"، وذلك من خلال توظيف ما تتيحه آليات التأويل من تجدد وتعدد في التحليل. ما مكنه من تقديم قراءة جديدة للتاريخ العربي/الاسلامي في مؤلفاته المتعددة، تحفر في أصل المقولات وتفككها لتعيد قراءتها على ضوء الوقائع وفي السياقات، ليكون المنجز فضح بالجملة لما يسكن ذاكرتنا الجماعية التي تقدس تاريخها. هذا الأخير الذي عوض أن يكون تأويله محفزا على الاندماج في الكوني الراهن وحافزا للتطلع للمستقبل، يصير مطبتا وعائقا دون ذلك.
تتوزع مؤلفاته بين ثنائية التنوير والإصلاح التي شكلت وجهين لمشروعه الانكتابي، فنجد في الأول أي الإصلاح عناوين مثل: "ما الإصلاح الديني؟"،"حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العربي"، "الإسلام: نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح"، "الأديان والإصلاحات الدينية"، "هل من مستقبل للإصلاح الديني في الإسلام؟"، "الأفغاني دراسة ووثائق". بينما نجد في الوجه الثاني المتعلق بالتنوير مؤلفات من قبيل: "قواعد التنوير"، "مواقف من أجل التنوير"، "ديانة الضمير الفردي"، "التنوير والثورة" الذي صدر قبل شهر عن دار التنوير.
ينظر المخالفون إلى كل هذه الأعمال بشك وريبة فالتنوير طي الحديث فيها ضرب من الهذيان من وجهة نظرهم، إلى ذلك يتسامى هو عن الرد معتبرا أن التحدي أمام العالم العربي/الاسلامي يكمن في معضلة صياغة القضايا بشكل جديد، متسائلا إلى أي حد يمكن للمثقف العربي أن يندرج في فعالية التفكير الجاد والعميق، وهو المحمل بوزر التناقضات التي يفرزها الواقع؟
ومن تلك القضايا التي أعادها إلى واجهة البحث والمدارسة أعمال "المدرسة الإصلاحية" أو ما يطلق عليه بالعصر الليبرالي العربي الذي بدأ في القرن التاسع عشر وانتهى في حدود الثلاثينيات من القرن العشرين؛ وهو يرادف ما دعي بعصر النهضة العربية الذي حمل بذور الكثير من الأفكار الجيدة على حد تعبيره، والتي لو تطورت لبلغت مواقف أكثر مطابقة للمتطلبات الاجتماعية الجديدة، وأشد مواكبة للحداثة وأعمق ثراء في التعامل مع التراث.
فالخطاب الإصلاحي كان مؤهلا لقيادة التنوير العربي لو استمر بنفس الوثيرة، إذ تحت ضغط الأحداث كان من الممكن أن يتطور أكثر كما تطور نظيره في الفكر الكاثوليكي لو تواصل تمثيل الخطاب الإصلاحي للحساسية الدينية في المجتمعات العربية.
رغم ذلك يظل إيمان هذا الرجل بالتنوير راسخا، ولا أدل على ذلك عنونة مؤلفه الجديد باسم "التنوير والثورة: دمقرطة الحداثة أم أخونة المجتمع". إيمان يستمد قوته من حفرياتها التي ترفض السرديات الجاهزة والمقولات المعلبة في مجال التاريخ الثقافي لإصلاح العربي الإسلامي.