فضاء الرأي

حندس ومصمص والفن الجليل

-
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
اذا كانت أهم دوافع النشر السليم هو ان يرى الكاتب اسمه مطبوعاً، فإن هناك اسباباً مهنية وسياسية واجتماعية تحول دون ذلك في بعض الاحيان، من هنا تصبح الاستعارة او التخفي خلفها طريقاً الى النشر، وقد استحدث محمد التابعي في الصحافة المصرية اسلوباً طريفاً يجعل الصحافي يكتب الجريدة او المجلة من الغلاف الى الصفحة الاخيرة من دون ان ينتقص ذلك من شأنه لأنه لن ينشر اسمه الا مرة واحدة، اما باقي المقالات والموضوعات فهي ممهورة بألقاب وأوصاف مستعارة.كما ابتدع فكرة ان ينشر الكاتب في اكثر من مجلة وجريدة في وقت واحد، على ما بينهما من تعارض وصراع، من دون ان يلاحق من الناحية القانونية.والحكاية انه عند افتتاح البرلمان المصري العام 1924، اعلنت سكرتارية مجلس النواب عن حاجتها إلى مترجم من اللغة العربية الى اللغة الانجليزية بمرتب 12 جنيهاً في الشهر وحددت موعداً للامتحان،، وتقدم التابعي ومع آخرين من حملة الدرجات العلمية من جامعتي "اكسفورد" و"كامبردج" في انجلترا واذا بالتابعي يصبح اول الناجحين وعين على الفور في الوظيفة المطلوبة. لكنه لم يكتف بها، وانما اراد ان يصبح ناقداً مسرحياً لجريدة "الاهرام"، وكتب مقالاً وذهب به الى داود بركات رئيس التحرير آنذاك. وفوجىء في صباح اليوم التالي بمقاله ينشر في الصفحة الاولى، وكانت تلك أول مرة في تاريخ الصحافة المصرية ينشر فيها مقال نقد مسرحي في الصفحة الاولى. ولم يجرؤ التابعي ان يوقع المقال باسمه الصريح خشية ان يطرد من وظيفته في مجلس النواب، إذ لا يليق بالبرلمان الوقور ان يكون احد موظفيه ناقداً مسرحياً، لهذا وقع المقال باسم "حندس"، وهو الاسم الذي كان يناديه به اصدقاؤه وزملاؤه وعرف به حتى وفاته العام 1976.وعلى منوال التابعي كان مصطفى امين يكتب تحت اسم "مصمص" واحسان عبدالقدوس "سان" وعلي امين "ابن البلد" اما لقب "سندباد" فقد استخدمه كل من مصطفى امين في "اخبار اليوم" ومجلة "آخر ساعة" والدكتور حسين فوزي في كتبه ومقالاته في جريدة "الأهرام".يجمع علماء الاجتماع والقانون على ان ظاهرة استعارة الاسماء والالقاب والاوصاف في الكتابة الصحافية ليست لها علاقة بالرقابة الرسمية التي فرضت على الصحافة في فترات معينة، اذ ان الرقابة لم تكن ساذجة لتراقب الاسم وانما مضمون ما يكتب، وهم يرون أن رقابة الرأي العام أقوى من أية رقابة أخرى بالنسبة للكاتب وهي التي يعمل لها الف حساب وحساب. كما ان العرف الصحافي جرى على ان ينشر الكاتب اسمه مرة واحدة وليس اكثر من مرة.فـ "أنيس منصور" كان يوقع اسمه على مقالاته السياسية، ويوقع باسم "سيد حنفي" حين يكتب في النقد الفني والادبي في مجلة "آخرساعة"، ولطفي الخولي كتب أحياناً باسم "عبده مسعود" في فترة من حياته، وموسى صبري كان يوقع اسم "رمسيس" على سيناريو الافلام التي كتبها، فالاحتماء بعباءة الاسم المستعار كان مخرجاً للنشر والكتابة في اكثر من مجال ومقام.وهذا يختلف عن الالقاب والاوصاف التي اطلقها الكتاب على انفسهم حتى يعرفهم بها القراء، فكان الدكتور لويس عوض او "المعلم العاشر" يريد ان يعرف بهذا اللقب، وقد اطلق في كتابه "دليل الرجل الذكي" مجموعة من الأوصاف والألقاب على اغلب المثقفين المصريين، اغضبتهم جميعاً.والكاتب الساخر محمود السعدني اطلق على نفسه وصف "الولد الشقي"، وابراهيم عبدالقادر المازني "ابراهيم الكاتب" والصحافي عبدالحميد عبدالغني "عبدالحميد الكاتب" وذلك في ترجمته رواية "الجذور" حين رأس تحرير "اخباراليوم".وهناك ألقاب واوصاف اطلقها الادباء والنقاد بعضهم على بعض وأصبحت كالعملة المتداولة فـ فكري اباظة "الضاحك الباكي"، واحمد لطفي السيد "استاذ الجيل" وأحمد شوقي "امير الشعراء" وأحمد رامي "شاعر الشباب".تبقي ظاهرة الأسماء المستعارة .. التي انتقلت من الكتاب في الصحافة الورقية الي القراء في الصحافة الالكترونية وفي أوج ثورة الاتصالات .. معضلة تحتاج الي تفسير معقول. ففي عام ٢٠١٢ كتبت مقالا في عيد إيلاف الحادي عشر بعنوان الرهان علي المستقبل .. جاء فيه : أنجزت إيلاف - في فترة وجيزة - شيئاً طالما أعلنت عنه الفلسفة الاشتراكية والتطبيقات السياسية لها (ولم تفعل إلا القليل لتحقيقه)، إذ أتاحت "أول يومية الكترونية في العالم العربي" لكل من يمتلك أجهزة الكمبيوتر أن يدخل (عصر الاتصالات) دون قيود أو شروط، وأن يتفاعل مع ما يقرأ ويشاهد ويسمع لا أن يظل قابعا في خانة المتلقي السلبي كما هو الحال في (عصر التليفزيون) والصحافة الورقية المطبوعة.وتلك "نقلة نوعية" جديدة في مسار الفلسفة (الاشتراكية) من خلال التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة، حيث أصبحت الصحافة الالكترونية المظهر الأعظم للمساواة بين البشر، ليس فقط الأغنياء والفقراء.. الرجال والنساء.. وإنما لأنها أنهت عصرا كاملا من المعرفة الرأسية، عصر من (يملون علينا ما ينبغي أن نعتقده) دون أن نملك مناقشة هؤلاء الخبراء من الكتاب (وحملة الدال) : ما هي الأسباب التي لابد وأن تدفعنا إلي هذا الاعتقاد أو ذاك؟.. ناهيك عن ان الصحافة المطبوعة جعلت القراء - في الغالب - غير مؤهلين لممارسة هذا الفن الجليل المعروف ب" النقد " الذي ظل قاصرا علي النخبة والصفوة.السؤال : لماذا يهدر بعض المعلقين من القراء الذين يستخدمون الأسماء المستعارة في الصحافة الإلكترونية هذه الفرصة الذهبية وهذا الفن الجليل فيما لا يجدي؟ وكم ثورة معرفية وتكنولوجية نحتاج في عالمنا العربي حتي نؤمن بالاختلاف وآداب الحوار ونستمتع بنسمات الحرية دون رقابة أو قهر استعذبناه طويلا.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف