فضاء الرأي

صنمية الأفكار: على هامش خلع رأس المعري

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

اصطدم رأس تمثال المعري على أرض المعرة محدثاً صدمةً جديدةً في بلاد تكاثرت فيها الهموم والآلام، ومسبباً انقساماً وأخذاً ورداً بين صفوف السوريين على ما هم عليه من واقع صعب، فاختلفت الآراء والتحليلات والتشخيص فيمن قام بكسره، ومن هي الجهة المعنية بذلك، وما الدوافع وراءها، وتعددت الاتهامات، وقابلها تبرئة طرف أمام طرف، وإلى ما سوى ذلك مما هو معتاد ومتوقع في مثل هذه الظروف القاسية، إلى أن قال أحدهم: إن المعري لا يختزل في تمثال مادي أو مجسم صخري، فهو باقٍ في فكره وفلسفته، وفي شعره وحكمته، وفي لزومياته وغفرانه، في إلحاده وإيمانه، وليس بالحجارة والتماثيل والنحت والتصوير. ولقد أصاب في هذا فالأيام تُخَلِّد الأفكار، ولكن القول فتح الآفاق إلى موضوع متصل، ألا وهو اهتمام جميع الأمم والحضارات بتخليد عظمائها وشخصياتها التاريخية المعتبرة على أنها عنصر مهم جداً في صناعة الهوية الحضارية والثقافية للأمم، وتعميق شعور أبنائها بالانتماء إليها وإلى تاريخها.
وتمايز الأمم في أشكال ذلك التخليد، بين عدة دوائر، منها دائرة الاحترام البالغ الذي يعلي من شأن تلك الشخصيات مع إبقائها تحت مجهر النقد والبحث العلمي، وتقابلها دائرة القداسة التي تجعل من الشخصيات التاريخية فوق الدراسة والنقد والمحاسبة العلمية، ومنها دائرة تخليد الأفكار بجعلها ثقافة شعبوية وتعميمها بين الأجيال الناشئة، وتقابلها دائرة التخليد المادي لها بنصب التماثيل والصور في الميادين والساحات والجامعات وغيرها.
ولم يخل مجتمع من المجتمعات البشرية من حضور هذه الدوائر، ولكن بصور متفاوتة، فعلى سبيل المثال إن التصاوير والمجسَّمات قد وجدت في المجتمعات الإغريقية والرومانية والهندية والصينية، وكذلك في المجتمع العربي قبل الإسلام، ويقال إن عمرو بن لحي هو من استقدمها من الروم في الشام، فكانت النتيجة أن بُني حول الكعبة المشرفة ثلاثمئة صنماً وتمثالاً لرجال صالحين أردوا تخليد ذكراهم وتعميق الانتماء إليهم في أقدس بقعة عند العرب، ثم أثر الجهل والأيام في تحول هذا الاحترام إلى دائرة التقديس، ومن ثم العبادة والإشراك. وكان أثر الإسلام واضحاً في تحويل المجتمع العربي والثقافة العربية المسلمة عن التقديس المادي إلى دائرة الاحترام الفكري والمعنوي والعلمي، وبذلك حفظ الحضارة العربية الإسلامية من هذه المطبّات، وأبقى التعامل مع الأفكار والرؤى والمواقف، على قاعدة الاحترام: "كلٌ يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر محمد عليه الصلاة والسلام".
ولكن يبدو أن المجتمعات تميل عموماً إلى رفع عظمائها إلى ما فوق المستوى البشري الطبيعي، فكان أن تحوَّل هذا الجو المشحون بالحرية الفكرية والتثاقف والتحاور والاحترام إلى نوع من تقديس القائل وتقديس المقولة، والتسليم المطلق بصحتها، لا لصحتها الموضوعية، وإنما لذاتيَّة من أطلقها، وترتيبه في العصور التاريخية، وبذلك دخلت الحضارة العربية الإسلامية في طور تقديس الأفكار، فكان من آثار هذه النقلة أن عاشت أجيال متتابعة على فُتات موائد من سبقهم، وعلى هامش أفكارهم وتصوُّراتهم للكون والحياة، وغاب الاجتهاد والتجديد والإبداع. ومن يفتح كتاب رضا كحالة "معجم المؤلفين" لعلَّه يفاجأ بأن بعض الكتب في العصور الإسلامية الأولى، كانت مداراً لعشرات بل مئات الشروح والاختصارات والحواشي، بما أكسب متونها القداسة التي نتحدث عنها، وبما أثقلها وأخرجها عن سياقها، بل وأخرجها عن غايات ومراد مؤلفيها، وإن نظرة سريعة في رفوف معارض الكتب العربية اليوم، تظهر أن كتب الأوائل هي المتداولة والمطلوبة وهي الأكثر مبيعاً والأكثر طباعة مما سواها من إنتاج علماء ومفكري عصرنا، وهذا يعني بوضوح أننا وإن تخلصنا من عبء القداسة المادية للأشخاص، ولكننا وقعنا أسرى قداسة أفكارهم وآرائهم وآثارهم، وهو خلل لعلَّه يزيد سوءاً عن خلل الأول.
أما في الحالة الغربية فإنهم سلكوا في تمجيد عظماءهم وشخصياتهم التاريخية أسلوباً آخر، واختاروا دائرة التقديس المادِّي الذي يتمثل بالفنون والنحت والتماثيل، وجعلوه فناً قائماً برأسه من المجسمات الصخرية والشمعية، والرسومات على اللوحات والجدران والأسقفة، مما أبقى تلك القامات حاضرةً في عيون ناشئتهم، ورسم لهم القدوات وربطها في مخيلاتهم وتصوراتهم، بما دعم ذلك الشعور بالانتماء الوطني والحضاري. أمَّا من الناحية الفكرية والمعنوية، فبقيت في دائرة الاحترام الخاضعة للبحث والنقد بل والنقض العلمي، دون أن يغُضَّ ذلك من مكانة أحد، وبما حفظ مبدأ تراكمية العلوم وهرميتها، وترك باب البحث والعلم مفتوحاً متاحاً للجميع، ولم يجعلوا من أفكار سلفهم وفلسفاتهم ثقافةً شعبيةً منتشرة بين العامة، بل احتفظوا بها في متاحف التاريخ وفي مراكز الأبحاث المختصة فقط. وهذا ما جعل الحالة العامة والثقافة الرائجة هي ثقافة العصر والمعاصرين، فإنك لن تجد في الغرب مجموعات من الشباب تمضي الأوقات الطويلة في الاجتماع لقراءة كتب تاريخية، قد كُتبت بلغة وبأسلوب لا يمت إلى واقعهم، وتعالج مشكلات لا تتصل بمشكلاتهم، ولا أثر لها في إلا استقدام نزاعات وعصبيات وانقسامات قد دفنت أسبابها، وتناثر غبار معاركها، فما الفائدة من تجميعه واستحضاره، إلا إحياء تلك الجروح!
غاية ما يقال بعد أن كُسر تمثال المعرِّي وحصل ما حصل: إنَّ ما تحتاجه بلادنا العربية الناهضة هو احترام أفكار من سبقهم، وإنزالها منزلتها اللائقة بتجنُّب تقديسها وعزو العصمة لها، وأمَّا التقديس المادي فليس من سماتنا ولا يؤثر في حضارتنا، ولعل الحادثة تكون صحوة فكرٍ تحطم أوثاناً قائمةً في الفكر والوجدان أعمق بكثير من تلك التصاوير المجسمة، ومن الإنصاف القول إن الغرب تفوَّقوا في هذا بأن أخضعوا تاريخهم ورجالاتهم جميعاً للنقد والدرس العلمي، وتخلصوا من عبء القداسة المعنوية لأفكار أسلافهم، رغم انتشار تماثيلهم وصورهم عندهم، وأما الدائرة المثالية فهي التي ابتدأنا بها القول، وهي دائرة الاحترام والاستفادة التي تحمي حرية الفكر والتفكر، وتحفظ قدر ومنزلة أسلافنا دون تقديس مُخل أو تصغير مُسف.
حلب
Twitter: @anassarmini

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
مقال مفيد
أحمد السائح -

الربط بين تعزيز الشخصيات التاريخية في التصور الاجتماعي، مع الشعور بالوطنية أمر تهتم به جميع الدول، وفي دول كأمريكا لا تمتلك مخزونا تاريخيا كبيرا، يقومون باختلاق شخصيات، وإشهارها على هذا الاساس، فقط لكي ترسم الحلم الامريكي

رأس المعري وغرب كوردستان
بارتيزان -

الذي قطع رأس المَعرّي لا يمكن أن يكون ديموقراطيًّا يؤمن بتعدد الآراء. سنراهم قريبا يقطعون رأس العربي والكوردي. رأس الكوردي سيقطعه وهو يصلي على سيدنا محمد ويصلي عليه.

للأسف
syrian -

كل الصحف والمواقع تتحدث عن فصل رأس تمثال المعري وانا ايضا اقول لم يقم بهذا الا معتوه ومجنون ..لكن الغريب نفس الصحف والمواقع لم تتحدث رأس الطفل محمد المفصول عن جسده ولم تتحدث رأس الطفلة المفصول...كأن قتل البشر لديهم اصبح طبيعي....أقول للمتحمسين لرأس الاسمنت ان اشعار وافكار ومجلدات المعري لن تنتهي بفصل قطعة الاسمنت هذه

أنصاف آلهة
رعد الحلواني -

كنا نظن ان الامريكيين والغربيين يمجدون لنكولن ونيوتن وانشتاين وغيرهم من مشاهير العلم والسياسة، بالتماثيل الشمعية والمرمرية، ولكن بعد ان زرت واطلعت على واقعهم... الحقيقة انهم تجاوزوا التمجيد هذا ألى حد اعتبارهم انصاف الهة.

الخطورة
خوليو -

سهل جداً صنع تمثال آخر وخاصة بوجود نحاتون وفنانون ، الخطورة هي في الفلسفة والنظرية التي دعت قاطع الرأس يقدم على فعله : وهو لأن المعري كان زنديقاً كما يقول ، والزندقة في مفهوم ابن البوادي تعني الكفر والكفر والشرك من الكبائر ، وهنا تكمن دائرة الخطر ، لأن هناك الكثير من الأحياء وفي سوريا الحضارة ، تنطبق عليهم مواصفات الزندقة والشرك حسب مفرزات خلايا العقل عند أبناء الصحراء ، ونقصد صحراء الفكر ، أي الذي يخاف من الحداثة والتفكير الحر ، في سوريا ما بعد الأسد وإن تركنا هذا النوع من الفكر يسود ، فقد تمتد يده لقطع رؤوس الأحياء ، لأن هذا العقل المبرمج الذي فصل رأس الحجر عن الجسد لايتوانى مدفوعاً بفكر القحط والجفاف عن فصل رؤوس خلاقة قابلة لللإبداع ، من حسن حظ الثورة السورية أن هناك أناس يدافعون عن الفكر وبمقدورهم إن وقفوا أمام تمثال المعري ان يقرأوا تراث المعري ويعرفون قيمته بدل أن يروا فيه مجرد صنم ، وهذا الموقف هو أكبر حماية للثقافة والفن الذي يرافق هذه الثورة المدنية الجميلة ، ما هو الفرق بين هذا الهمجي الذي فصل رأس التمثال عن زميله الهمجي الذي كسر عظام يد علي فرزات ؟ الإثنان مصيبة سوريا في وقتنا الحالي ، غير أن الشعب الطيب المثقف يعرف كيف سيتعامل معهما .

الفيلسوف الشاعر
باسم العبيدي -

في مطلع القصيده الرائعه اشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري والتي كتبها بحق الفيلسوف والشاعر والأنسان ((أبو العلاء المعري)) والتي أنقل منها هذين البيتينقف بالمعرة وأمسح خدها التربا....وأستوح من طوق الدنيا بما وهباوأستوح من طبب الدنيا بحكمته... ومن على جرحها من روحه سكباأقول أن الصراع بين الفكر الحي المتحضر وبين الجهل المتخلف والمتحجر هو صراع قائم ولن ينتهي الا بتضييق الخناق على الجهله من خلال نشر الوعي والحوار الهادف وقبول الآخر والأستماع اليه والبناء على أفكاره التي تفيد المجتمع ، أما أذا تركت الأمور لصعود المتخلفين وتملكهم رقاب الناس والمسؤوليه فهم الذين سيحولون الحياة الى جحيم وكما فعلوا ويفعلون في أكثر من موقع بقتل الناس لأنهم يختلفون عنهم بوجهة النظر ،نعم أن قطع رأس تمثال أبو العلاء المعري قد يحسبونه أنتصارآ فهكذا هي كل أنتصاراتهم مزيفه ومادروا أن فلسفة الرجل وشعره ومؤلفاته محفوظه في عقول وقلوب الناس جيل بعد جيل فتعسآ لأفكار هؤلاء الهمج فاقدي المنطق والدين والأخلاق وسيبقى أبو العلاء ومزآ كبيرآ رغم فعل الأشرار

توضيح الجيش الحر
رياض النور -

وضح العقيد هيثم العبيسي قائد المجلس العسكري في معرة النعمان، يعلن في بيان مصوّر أن من دمر رأس تمثال أبي العلاء المعري، قذيفة من القذائف التي سقطت عشوائياً جراء قصف النظام. نقله الاعلامي محمد منصور في صفحته