العولمة وصراع الحضارات

الدكتور ابراهيم فضل الله في"التحدّي الحضاري الغربي بين المثاقفة والتفاعل"

العلوم العربيّة لم تتجازو كثيراً علوم الدين والأحكام الشرعيّة واللغة والشعر والأنساب، حتى كان الإحتكاك الثقافي باليونان والفرس والهند فازدهرت علوم الفلسفة والمنطق والرياضيّات والطبّ والفلك إلخ، أي إن الإحتكاك بالآخَر والتفاعل معه سِمة في النهوض والإرتقاء يؤكّده أيضاً المجتمع الأوروبّي ذاته الذي كان غارقاً في ظلام صقوك الغفران ومحاكم التفتيش، حتى إذا احتكّ بالعرب نهض من سباته وظلّ يرتقي حتى استمكن، لكن كلّ ذلك لم يمض من دون سفك دماء وطمس هويّات وانتصار أمم وانهزام أمم لا تكفّ عن البحث عن سبيل للنهوض يعيد إليها اعتبارها ومكانتها في صنع الحضارة الإنسانيّة، وينتج عن هذا البحث غالباً مقاومة ضدّ المنتصِر أو ضدّ الحضارة المهيمنة. ولكنّ كتاب "التحدّي الحضاري الغربي بين المثاقفة والتفاعل" للدكتور ابراهيم فضل الله صادر عن الدار العصاميّة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، هو كتاب أدق وأشمل عندما يُقارب إشكاليّة العلاقة بين الشرق العربي المسلم تحديداً والغرب المسيحي في طوره الصليبي مرّة وطوره التكنولوجي والمعلوماتي أو موجته الحضاريّة الثالثة بعد الزراعة والصناعة، بتعبير المؤلّف، مرّة ثانية.

وللمضي بعيداً في شعاب الصورة يستعرض الدكتور فضل الله جملة من الوقائع "للشرق" الذي عرّفه الفراعنه بمشرق الشمس والأنوار والحياة و"للغرب" الذي عرّفه الفراعنه ذاتهم بالغروب والموت، حتى إنّهم جعلوا مقابرهم في الغرب من نواحي بلادهم. ومع نهوض الشرق العربي المسلم يبدأ التحرّك غرباً شاملاً شبه الجزيرة الإيبيريّة (إسبانيا والبرتغال) ثمّ منها شمالاً إلى فرنسا الجنوبيّة حتى بواتييه في أواسطها وإلى إيطاليا وفرض حصار على مدينة روما. وتحوّلت صقلية دولة إسلاميّة مثل الأندلس. وسادت حضارة العرب المسلمين الذين التفتوا كثيراً إلى الفكر الإغريقي الذي نما على الحضارات التي سبقت في وادي النيل وبلاد ما بين النهرين وبلاد فارس وبلاد الشام، وفي مثلّث هذا الفكر "سقراط" الذي لم يكتب إنّما لقّن فلسفته شفهيّاً لمتنوّرين وهي إلقاء الأسئلة فجرّمته أثينا بالهرطقة ومات بالسمّ. والتالي في المثلّث تلميذ سقراط أي "أفلاطون" صاحب نظريّة المثُل ومثالها الأسمى فكرة الخير، والثالث تلميذ أفلاطون وهو "أرسطو" منشئ علم المنطق وأحد أكبر مفكّري البشريّة مثلما التفتوا إلى فكر الهند وفارس. وسطعت على أيديهم أنوار جديدة وأوصلوا الفلسفة اليونانيّة تحديداً إلى النقطة الحرجة التي لولاها لكان على العالم المعاصر أن يعود قروناً إلى الوراء. وقدّمت الحضارة الإسلاميّة بما هي "قيم واعتقادات وأعراف وفنون وآداب وأخلاق وعلوم ومعارف وخبرات وأنماط سلوك وطرائق عيش" أعلاماً حفروا عميقاً في العقل البشري. وكان الفيلسوف يعقوب بن إسحق الكندي الذي له في الرياضيّات والمنطق والعلوم الطبيعيّة والفلك والموسيقى والفكر وتمّت ترجمته إلى اللاتينيّة، وأبو بكر محمّد الرازي أعظم الأطبّاء في القرون الوسطى قاطبة صاحب كتاب "الجدري والحصبة" أفضل كتب الطبّ في العالم القديم، وظلّ حتى القرن السابع عشر المرجع في علوم الطبّ، ولقّبوه باسم "جالينوس العرب" وكان أبو علي إبن سينا الفيلسوف والطبيب صاحب الكتاب الجليل "القانون في الطبّ" دليل طلاّب العلوم الطبيّة شرقاً وغرباً وأطلقوا عليه إسم "الشيخ الرئيس" والخوارزمي واضع أقدم كتاب في الحساب وترك أثراً في الرياضيّات لم يبلغه أحد في العصور الوسطى، وظلّت أوروبا تدرس كتبه إلى القرن السادس عشر، وكان جابر بن حيّان أوّل كيميائي في العالم قال بأهميّة البحث التجريبي وقد قرأت أوروبّا عليه إلى القرن الثامن عشر وأطلقوا عليه إسم "أبو الكيمياء" وكان إبن الشاطر الفلكي صاحب "الأسطرلاب" والذي ابتنى نظاماً فلكيّاً على أساس من كرويّة الأرض وعنه نقل وعلى هديه اشتغل "كوبرنيكوس" الشهير ذاته، وكان إبن رشد القرطبي الأندلسي الذي اعتبر "إن معرفة العقل هي المعرفة الإنسانيّة التي تسمو إلى منزلة الوصول وإدراك الحقائق والماهيّات" وحاول التوفيق بين الفلسفة والشريعة "مقدّماً منهجاً عقليّاً للتعرّف إلى الخالق" والإيمان بالخالق الواحد، وأطلق عليه الغربيّون لقب "الشارح" وعلى هديه سار "توما الأكويني" محاولاً التوفيق بين الفلسفة واللاهوت، وكان الفارابي وشروحاته لأرسطو، وابن خلدون صاحب "المقدّمة" الكتاب الأوّل من نوعه في الشرق وفي الغرب حيث يقرأ التاريخ "على أساس منهج فلسفي شمولي ويبحث في قوانين التاريخ والعمران" فكان مؤسّس علم الإجتماع بحقّ، وكان إبن ماجد في علوم البحار، والقائمة تطول.

وفيما أوروبّا كانت ترسل أبناءها لتحصيل العلوم في جامعات قرطبة والأندلس وتتلمّس طريقها على أنوار الإسلام كانت تستعدّ في آن لاستهداف الإستعمار الإسلامي الذي "أحدث استنفاراً في الذات القوميّة والدينيّة الأوروبيّة، ما سمح للكنيسة بتوحيد الأوروبيين تحت رايتها وحشدهم في جيوش عسكريّة". وكانت الحروب التي عرفوها باسم "حروب الإسترداد" في المراحل الأولى، ثمّ "الحروب الصليبيّة" في المراحل التالية، والأخيرة كانت على جبهتين: أولاهما في المغرب العربي وثانيتهما في المشرق العربي. ونشط الراهب "بطرس الناسك" والبابا "أوربانوس الثاني" حتى دعيا إلى "تخليص الأماكن النصرانيّة المقدّسة في فلسطين من أيدي المسلمين". وذاته "فريدريك الثاني" النورماندي "الذي أحبّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة وتقلّد بها واستقدم إلى بلاطه أصحاب الخبرة من المسلمين والعرب وادّعى خصومُه الأوروبيّون إنّه أسلم" ذاته الذي حكم صقلية ملكاً صار إمبراطوراً في ألمانيا وأيطاليا واحتلّ قبرص ثمّ مملكة القدس.

وقامت المستعمرات والممالك في قلب الشرق على مدى قرنين لينهزم الصليبي في عكّا ثمّ تسقط ممالكه تباعاً وتنطوي صفحته في الشرق الإسلامي العربي سنة 1291 ولكن أيضاً لتسقط غرناطة عام 1492، وبسقوطها يخرج العرب من كامل الأندلس بعد ثمانية قرون من التواجد. وفي القرن السابع عشر اكتملت مسيرة أوروبّا النهضويّة: "ابتدأت الصناعة تأخذ مجرى معاكساً، وأصبحت الأفكار العلميّة والإبتكارات تتّجه من الغرب إلى الشرق". وكان "ريني ديكارت" الذي دعا للثقة بالعقل، وكان "فرنسيس بيكون" الذي صار رائد الفلسفة التجريبيّة التي اقترن بها العلم الحديث بعد رفع وصاية الكنيسة عن العقل، وكان "إسحق نيوتن" مكتشف الجاذبيّة وفتوحاته في الفيزياء محدثاً انقلاباً في العلم الطبيعي نتج عنه "الحتميّة الطبيعيّة أو الحتميّة الفيزيائيّة التي تعني عموميّة القوانين الطبيعيّة، فلا مصادفة، وكلّ حدث في هذا الكون مشروط بما سبقه" أو صحبه، ثمّ ظهرت الحتميّة التاريخيّة، لينبلج عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وكان "آدم سميث" في الإقتصاد السياسي، واللائحة تطول.

وفي القرن التاسع عشر ظهرت الدولة القوميّة حيث لا ولاء كاملاً إلاّ للدولة، والمواطن لا يعيش في ازدواجيّة الدين والدولة، فالدولة هي المطلق الوحيد، والشعور القومي يخضع لرقابة العقل. ولم يتوقّف الشرق والغرب عن التفاعل خلال هذه القرون الطويلة من طريق الحرب أو من طريق السلم، ولكن استمرّ الغرب في عصور أنواره كما في عصور ظلامه وانحطاطه يستهدف الإسلام، وقد أظهر "الإستشراق" الذي هو "دراسة أدب الشرق ولغاته وتراثه وفنونه وثقافته وبلدانه وطبيعة أرضه وما تحتويه من كنوز ومعادن والأوضاع الإجتماعيّة فيه والذي سار والغزو الإستعماري للشرق في طريق واحد" أي "المستعمِر يغزو البلاد والمستشرق يغزو الفكر" أظهر إن الإسلام قوّة خبيثة شرّيرة وإن محمّداً صنم أو إله قبيلة أو من الشياطين، وإنّ المسلمين يعبدون أصناماً وآلهة منها محمّداً، وإنّ "الشيطان ليس له بذاته قوّة كافية، فاصطنع القرآن لمنع انتشار الإنجيل" وإن محمّداً وابن عمّه علي أساس البلاء في العالم، ويصف "دانتي" في كتابه "الكوميديا الإلهيّة" عذابهما في الآخرة، وبعضهم شبّه محمّداً بالمسيح الدجّال، ووصفه "فولتير" بالمستبدّ والمنافق والمتعطّش للدماء.

ويؤكّد الدكتور ابراهيم فضل الله في "التحدّي الحضاري الغربي بين المثاقفة والتفاعل" الذي يقع في 224 صفحة من القطع الوسط إنّ الشرق العربي المسلم لم يقارب إشكاليّة علاقته بالغرب على رغم حملاته الجهاديّة التي لها "ضوابط وشروط" إلاّ على أساس أن الإسلام "رسالة سلام إلى العالم لا يتم تبليغها بالإكراه" ولا تكرِّس الصراع كقانون تاريخي كما يقدّمه "صموئيل هنتغتون" و"فرنسيس فوكوياما" وراعيهما البنتاغون. ويقول هنتنغتون تحديداً إن "المشكلة ليست في الغرب مع الأصوليّة الإسلاميّة، بل هي مع الإسلام كحضارة مختلفة وشعوبها مقتنعة بتفوّقها وواعية بدونيّة موقعها" فيما فضل الله يستشهد بالقرآن: "أدع إلى سبيل ربّك بالحكمة" و"جادلهم بالتي هي أحسن" و"جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا". واستقرّ الإنكليز خلال القرن التاسع عشر في عدن بعد محاولات أوروبيّة سابقة متكرّرة، ثمّ في عُمان ومصر، وسيطر الفرنسيّون على الجزائر، ومنها زحفاً إلى شمال إفريقيا، واصطنع التنافس الأوروبي الذي ضمّته "أجنحة المكر الثلاث: التبشير، الإستشراق والإستعمار" من أجل ربط البلاد المستعمَرة به إقتصاديّاً وثقافيّاً معاهدة أطلق عليها إسم "الإتّحاد الودّي" شملت بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولاندا والبرتغال وإيطاليا وإسبانيا، والهدف أيضاً تنسيق التوسّع الإستعماري، وصار موطئ قدم لإيطاليا في ليبيا، وآخر لإسبانيا في المغرب العربي، وتمّ وضع تقرير "كامبل نرمن" على إسم رئيس وزراء بريطانيا سنة 1905 الذي يؤكّد إن الخطر المقبل لن يأتي من الهند وشرق آسيا لأنّ هذه المناطق "تعاني من مشاكل دينيّة وعرقيّة ولغويّة وطائفيّة" ولن يأتي من إفريقيا السوداء في الأطلسي والهادي فهي "معزولة عن العالم" إنّما الخطر سيكون "من حوض البحر الأبيض المتوسّط وتحديداً من المنطقة العربيّة، الجسر الذي يصل الشرق والغرب والممرّ الطبيعي بين آسيا وإفريقيا ومهد الأديان السماويّة والحضارات وفيها الطرق التي تصل الدول الأوروبيّة المتّحدة في جبهة الدول المستعمِرة بالهند، والأخطر إن المنطقة شاسعة يعيش فيها شعب تتوافر له وحدة تاريخيّة ودينيّة ولغويّة ومقوّمات المجتمع والترابط والإتّحاد إضافة إلى نزعات تحرّريّة ويمتلك ثروات طبيعيّة وأسباب القوّة والتحرير والنهوض".

ويلاحظ التقرير وجوب تجزئة المنطقة وإبقائها متناحرة ومنع اتّحادها وفصل الجزء الإفريقي منها عن الجزء الآسيوي وإقامة "حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البرّي الذي يربط آسيا بإفريقيا" أي في فلسطين حيث قامت إسرائيل، وقال الصهيوني ثيودور هرتزل: "من أجل أوروبّا سوف نبني حاجزاً في مواجهة آسيا، وسنكون حرّاس المقدّمة للحضارة ضدّ البربريّة". وفي خضمّ العدوان الغربي على العالم الإسلامي نشأت في المنطقة حركات مقاومة، منها الحركة السنّوسيّة التي أسّسها محمّد علي السنّوسي وناضلت ضدّ الطليان على الجبهة الليبيّة، وكذلك المهديّة التي أسّسها محمّد بن أحمد وناضلت بعنف ضدّ المستعمر الإنكليزي، ومنها حركة عبد القادر الجزائري وحركة جمال الدين الأفغاني وغيرها، ثمّ حركات الأحزاب العلمانيّة بكافّة تفرّعاتها "ناصريّة، بعثيّة، قوميّة، إشتراكيّة، ماركسيّة" التي رأت إن الإسلام السياسي قد يشقّ الوحدة الوطنيّة أو القوميّة، حيث تتنوّع الأديان، ورأت خطر الصهيونيّة.

وبعد الحرب العالميّة الثانية انقلب حال العالم الإسلامي رأساً على عقب، وربضت على صدور العرب قواعد عسكريّة تحمي نهب الثروات القوميّة. ومع انهيار الإتّحاد السوفياتي ومنظومته الإشتراكيّة، ثمّ غزو العراق، تهيّأ للغرب مع فوكوياما و"نهاية التاريخ" إن جدل الأفكار قد انتهى، وتهيّأ للولايات المتّحدة الأميركيّة سيادة ثقافة رأسماليتها الليبراليّة الديمقراطيّة. وانتشرت العولمة انتشار النار بالهشيم، وعمّ استنساخ نمط الحياة في أميركا طيلة عقد التسعينات من القرن الفائت، من دون دراية عميقة لما يحصل من مسخ لهويّة المستنسِخ، وإن العولمة بالمعنى الأممي والتشارك والتآخي لا وجود لها، بل هي "عولمة الهيمنة السياسيّة والإقتصاديّة والعسكريّة والثقافيّة". واجترحت هذه العولمة مصطلح "الإرهاب" كتهمة جاهزة لكلّ من لا يتّفق مع السياسة الأميركيّة التي هدفها "أمركة العالم لا أنسنته" وأمركة العالم لا تكون إلاّ بقتل ثقافة الآخر من كلّ سبيل ما دامت الثقافة في جوهرها فعل مقاومة، وبالتالي إخضاعه لمشيئتها واستغلاله والتلاعب بمصيره، أمّا أنسنة العالم فهي المنشود.

والهدف الأسمى في كتاب "التحدّي الحضاري الغربي بين المثاقفة والتفاعل" الذي صاغه المؤلّف الدكتور ابراهيم فضل الله بأسلوب له وجاهة ويخوض في معنى الثقافة والحضارة والتلاقح بين الشرق والغرب ويحشد له مراجع كثيرة فتعرية "إخضاع كلّ شيء للسوق والصراع مع الهويّات المختلفة باعتبارها عقبة بوجه القرية الكونيّة وتأسيس لمجتمعات منفصلة عن تاريخها واستبضاع الإنسان الرقم أو السلعة" والتأكيد على الدعوة إلى "حوار الحضارات" تعميماً للسلم الذي تفيد منه البشريّة جمعاء انطلاقاً من تفاعل الرؤى الحضاريّة والإتّفاق على وضع قيمة عليا ممثّلة بالإنسان الآمن السعيد.

Shawki1@optusnet.com.au