الحداثة الفنية عند تيودور أدورنو
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في النظرية الجمالية لأدورنو مفهوم خاص للحداثة في الفن لا يخرج عن سياق اطروحته في تصنيع الثقافة التي طرحها في "جدلية التنوير"، منطلقا من ان العمل الفني والتجربة الجمالية في عصر الحداثة والمجتمع الصناعي المتقدم تعيش في وضع متأزم، لخضوعها الى تقنيات غير مرئية يحددها ويسيرها المجتمع الرأسمالي. وإذا كانت هذه الازمة لا تمثل "نهاية الفن"، فان الفن فقد وظيفته الاجتماعية وأصبح موضوعا هامشيا وزائدا عن اللزوم في تحرير الحاجات الجمالية. فالرياضة والاعلام والتلفزيون والموضة وغيرها من وسائل الدعاية تقدم للأفراد بدائل جديدة وذلك بسبب التغيرات التكنولوجية التي حدثت في القرن العشرين، التي " ثوَرت " الامكانيات التقنية وقادت الى توسيع وامتداد كبير للفنون، ولكن في ذات الوقت، أدت الى تجزئة الفنون وانتشار الفنون الترفيهية بدلا من التمتع بالفن الرفيع والتبصر العميق فيه. فبواسطة التقنيات الجديدة للثقافة الجماهيرية أصبح الفن البرجوازي عتيقا ولم تعد له تلك "الهالة" الفنية التي دعا اليها فالتر بنيامين في كتابه "العمل الفني في زمن اعادة انتاجه"، وهذا في الحقيقة مؤشر على انحطاط الذوق الجمالي الذي كان يقوم على النظرة الطبيعية والمباشرة وكذلك على الرصيد الاجتماعي لأي عمل فني. وبدلا من ذلك ظهر الفن المجزء الى الوجود والموجه الى الجماهير، كما في الفلم والتصوير، الذي يطلق العنان للفئات غير الواعية، ويجعل من عناصر الواقع الجديدة في متناول الجميع تقريبا، ومن منظور زمني ولكن مشوه. ومن هنا يبدو لنا بان أدورنو لا يهتم بالفن الجماهيري بقدر ما يهتم بصحة واستقلالية العمل الفني وتحرره من تصنيع الثقافة وتسطيحها.
يرى ادورنو بان الفن يتضمن خصائص معرفية، فهو مطبوع بأفكار التحرر التي تظهر بوضوح في الاعمال الفنية الراقية، وما يقرر ذلك هو الوسيلة التي تربط بين الشكل والمضمون، الذي يرتبط دوما بخصوصية اجتماعية تطبع العمل الفني الراقي وكذلك مضمونه، اللذان يحتاجان الى وسيط، وهو الحماية النظرية، التي تدعم وظيفته النقدية.
وللفن وظيفة نقدية وثورية، لأنه يخلق عالما جماليا جديدا معادلا لانغلاق الواقع ومواجهته، وفي ذات الوقت لتغييره. ففي المجتمع الصناعي المتقدم تصبح الحياة اليومية أداة سلب للوعي وقمعه، ولذلك فالعمل الفني يخلق "فضاء" لإعادة انتاج الوعي الاجتماعي وتثويره ومنحه طاقة رفض جديدة يتجاوز بها ما يفرضه المجتمع الاستهلاكي من سلع مغرية، وبذلك يستعيد العقل قابليته على الحلم والتحليق في فضاءات غير محدودة، وهو فضاء التخيل الذي يقود الى إدراك الهوية المستلبة للواقع، وتشكيل موقف فكري سالب جديد. وبهذا فان العمل الفني يشكل في الحقيقة الوسيلة الاخيرة الممكنة لحماية الوعي ومقاومة الاستلاب واعادة اكتشاف قوة المقاومة الفنية، كما تظهر في الفنون الرفيعة وفي الموسيقى على وجه الخصوص، التي تمنح للفنون الحس المعاصر والحديث برفضها الواقع من اجل اعادة انتاجه وتغييره وخلق " الفن الاصيل" الذي يحمل امكانية هدم ما هو قائم، والذي يمثل جميع انواع الخلق الفني وليس التشكيلي وحده ، الذي يتشبه بكل ما هو راهن وساخن ومغترب ويتطلب الجدة والتفرد والدينامية والتنافر، لان الطابع المميز للتجربة الفنية هو المغايرة لما يجري في الواقع.
تطورت النظرية الجمالية لادورنو من خلال نقده لطبيعة الحياة الاجتماعية اليومية في المجتمع الصناعي المتقدم وثقافته المصنعة، مركزا على المجتمع الاستهلاكي الذي يمارس قدرة على تحويل الثقافة الحقيقية الى ثقافة جماهيرية استهلاكية، بسبب التسلط والقمع، الذي لم يعد يمارس عن طريق المؤسسات العسكرية والامنية فحسب، وانما عن طريق السيطرة على وسائل الدعاية والاعلام وتسخير الثقافة والفنون لمصلحتها والالتفاف حولها وتزييفها. وقد أصدر أدورنو عام 1971 أحد اهم كتبه الموسوم "النظرية الجمالية " الذي شرح فيه مفهوم الفن وليس تاريخ الفن، وناقش فيه العلاقة بين الفن والمجتمع ومفاهيم الجمال والجميل القبيح، والفن والتكنولوجيا، والجمال والطبيعة وكذلك الفن والميتافيزيقيا والعلاقة بين الذات والموضوع وغيرها.
وإذا اعتبر أدورنو العمل الفني انعكاسا ماديا للواقع الاجتماعي السائد، فانه لا يعبر عن طبقة ما، لأنه تعبير عن الكون الانساني. وإذا كانت ملكة الفن هي التخيل، فعلى المرء ان لا يطالب بالتعبير عن طبقة معينة، والا تخلى الفن عن التخيل الذي هو في ماهيته غير واقعي، في حين ان الطبقة هي مبدأ فعال في الواقع. وبحسب أدورنو، فان ملكة التخيل في الفن تربط بين الحساسية وعالم العقل، وعندما يتخلى الفن عن التخيل فانه يتخلى ايضا عن الجمالي، الذي يفصح عن نفسه في الاستقلال الذاتي للفن ويسقط في الاخير في أسر الواقع، الذي يسعى الفن الى فهمه وتجاوزه، وبالعكس فان التخلي عن الجمالي يعني التنازل عن المسؤولية في خلق الواقع الآخر من داخل الواقع القائم. وان التخيل عند أدورنو هو عملية عقلية لها قواعدها وقيمها ووظيفتها الادراكية، التي تقود الى عالم الفن الذي يخفى وراءه الصورة الجمالية والانسجام الحسي والعقلي الذي يكتبه الواقع المعيش. ومن هنا تظهر مسؤولية الفنان في محاربة التشيؤ والتسلط والقمع.
وينطبق رأي أدورنو على الموسيقى أيضا، التي يفترض بها ان تظل وفية على اعطاء مصداقية لقول الحقيقة، لأنها آخر التعبيرات البريئة عن الحقيقة في الفن. ولكن الموسيقى الحديثة وكذلك الفنون التشكيلية والادب، تقف اليوم على حافة ما يمكن تسميته فنا، لأنها تجعل من الصدفة او الحادثة أحد العناصر الاساسية فيها، وهو نزوع نحو وظيفة جديدة في المجتمع الاستهلاكي الحديث بعد ان فقدت مواقعها القديمة لصالح سلطة وسائل الدعاية والاعلان.
يقول أدورنو ان "امتلاخ الفن من قبل الفن نفسه" لا يعني اخراس الفنون، وانما يصبح الفن، بواسطة الثقافة المصنعة، فن غير مرهف، لأنها تتحول اليوم الى بضائع، كاسيتات(CD) لبيتهوفن وشونبيرغ، واعمال لغوية وكتب يمكن شرائها على شكل كتاب للجيب. وفي نفس الطريقة الميكانيكية تقدم فنون الكلام الاخرى.
الشيء الحاسم بالنسبة لأدورنو ليس بيع الفنون والاتجار بها، وانما الطريقة التي تتغير بها الثقافة والفنون لتصبح بضاعة مصنعة، وكذلك الكيفية التي تتحول بها الى بضاعة شعبية رائجة.
وياتي أدورنو بأمثلة عديدة منها موسيقى الجاز في امريكا كنموذج آخر للثقافة الشعبية المؤد جلة. فالموسيقى، بحسب أدورنو، كالنظرية، يجب ان ترتفع على الوعي السائد للجماهير، لان البحث عن العواطف الحقيقية والعميقة لا يمكن التحقق منها في المجتمع المعاصر بسهولة، وربما يكون ريتشارد شتراوس آخر موسيقي برجوازي له اهمية، ولكن في ذات الوقت يجب القول، بانه لا توجد في موسيقاه، كما اشار الى ذلك آرنست بلوخ، أي سلبية، وأنها خالية من أي بعد جمالي.
ان الثقافة المصنعة، بحسب أدورنو لا تشبع بكل بساطة حاجات المستهلكين، وانما تدفعهم الى الاندماج في النسق الاجتماعي العام، الذي يرتبط بالثقافة السائدة، والتي تتجدد باستمرار وتندمج بالنسق العام بحيث لا تترك لعفوية الجماهير أي أثر يذكر، وتجعلهم يتحركون في فضاء لا يستطيعون فيه تحقيق استقلاليتهم. كما ان الثقافة الجماهيرية التي تطورت بصورة عفوية من قبل الجماهير هي مشكلة بذاتها، لان الجماهير في الواقع لا تتكون من افراد مستقلين، وانما من ذوات مدفوعين بتبعيتهم الاقتصادية وبشروط العمل السائدة في المجتمعات الصناعية الليبرالية الى الركض وراء التيار الجارف، مثلما يحدث مع موسيقى التسلية المخادعة.
ان نقد ادورنو للثقافة الجماهيرية لا ينطلق من " ديمقراطيتها" وانما من ادلجتها، فهي توجه وتدار ليس بصورة عفوية، بل لكونها ثقافة مشيئة. وعلى سبيل المثال، فالتراجيديا لا تعبر في الحقيقة عن احتجاج، بقدر ما تعبر عن عزاء وسلوى، وان الرسالة التي تهدف الى توجيهها هي قبل كل شيء رسالة استسلام وليس اتخاذ موقف رفض وتحدي. وهي بهذا تبعد الافراد عن الواقع، تماما مثل اساليب السيطرة التي كانت تمارسها الموسيقى الكلاسيكية الطبقية.