العولمة الثقافية.. حقيقة أم افتراض؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
هل العولمة الثقافية حقيقة واقعية أم افتراض نظري؟ما التحولات الحافة بالمشاهد الثقافية الكبرى، منذ إعلان "نهاية التاريخ "؟هل تؤكد الوقائع الثقافية الجارية، حقيقة تلك العولمة أم تؤكد العكس، أي تعذر إمكان عولمة الثقافة الحديثة وإدخال معاييرها المعرفية والأخلاقية إلى صلب الثقافات الطرفية، و"عودة" فئات واسعة من السكان ومن المثقفين أنفسهم إلى القيم التداولية والهويات القدامية؟
وثمة سؤال لا يمكن استبعاده في هذا السياق هو سؤال الكوننة الثقافية في زمان يتعولم ماليا واقتصاديا، ويتبعثر، ثقافيا وسياسيا؟ ما عوائق تلك الكوننة إن كانت شروط إمكانها قائمة مبدئيا؟ألا تسهم التفكيكيات الغربية،في الحيلولة دون تفعيل تلك الكوننة، هنا والآن؟
العولمة الثقافية،فرضية نظرية، موضوعة لتعيين واقعة تقاسم الكثيرين لبعض القيم والمعايير الثقافية واشتراكهم في التمتع وتداول بعض الفرجات والعروض الفنية والمنجزات الأدبية أو النقدية.فكما تعولمت الأسواق المالية،فإن الأسواق و"الأذواق " الثقافية ملزمة بالتعولم والتكوكب،حفظا لسيولة الروح العولمي،وتحقيقا لترابط وثيق،بين واجهات النظيمة العولمية.
ويفترض،في هذا السياق، لا أن يساعد الحامل التقني على بث القيم العولمية فقط،بل أن يحمل نفسا منعشا، للثقافات الطرفية، وأن يسهم في تقوية سيرورة الاغناء والاغتناء، الإمداد والاستمداد القائمة تعيينا أو افتراضا بينها،والانخراط،عمليا، في سيرورة "العولمة الثقافية ". يقتضي الحامل الجديد، بناء على هذا الافتراض، التجدد النظري،وتعميم قيم جمالية ومعايير تعبيرية، مناسبة للإنسان العولمي.
والحقيقة أن هذا الافتراض،يتعالى على صعوبة الإقرار بالعولمة الثقافية راهنا.فقد تمت عولمة التقانة، لا الثقافة الحديثة.والحامل التقاني الجديد،لم يحمل جديدا ابستيميا أو ايطيقيا أو اسطيطيقيا، لتعلقه الواضح، بمنظومة الأفكار البرجماتية،المفتقرة، أساسا،إلى معياريات ابستيمية متعضية.فثقافة الحامل،العولمية،مضادة أصلا،لكوننة الثقافة الحديثة، وللإنسان المتنور ذي الانهمامات البحثية الموسوعية أو الاهتمامات الجمالية المدشنة لجماليات جديدة في مستوى الكينونة العالية.
وكلما تعمقت سيرورة التعميم التقاني،إلا واستحالت العولمة الثقافية،وأظهرت الثقافات الخاصة،معاييرها وأنساقها الرمزية، وطالبت،بحقها في المنظورية، وفي الاستمتاع بالمستتبعات العملية والمالية، للتسويق الثقافي،على الرقعة العالمية.لا يمكن للثقافات الغربية،أن تعولم نموذجها، مادامت قد أعملت معاول التفكيك في "ميتافيزيقاها "وعقلها الأداتي وإنسانها ذي البعد الواحد،وألغت الارتقاء المعرفي بالتسوية بين تقانة العصور البدائية وتقانة العصر الصناعي وتقانة العصر ما بعد الصناعي،وألغت التشابك الثقافي والمثاقفة الحية والفاعلة بإقرار "التعدديةالثقافية" القائمة على المساكنة المجالية لا على المجاذبة الفكرية.
وعلاوة على ما سبق،فإن الثقافات الطرفية، تبتعد، قليلا أو كثيرا، عن المعايير الإبستيمية والإسطيطيقية الحديثة والحداثية،و تتمسك بمصادرها التاريخية، لإعادة استثمارها وتحيينها، وتطبيقها في سياقات معقدة واعتبارها،أحيانا، البديل التاريخي أو الحضاري أو الأخلاقي لحداثة مفتقرة إلى الضمانات الأنطولوجية.
إن مسارات التشخصن أصعب وأعقد، ونتائجها الثقافية، لا تستوعبها، بأي معنى من المعاني، عولمة ناهضة،أصلا،على سيولة البضائع والأموال لا على سيولة الأفكار التأسيسية الرفيعة. يناقض التذرر العولمي،إذن،كثافة الإبستيمية الأنوارية،وزخم الفكرة التاريخانية،وتطلعات إنسية متعلمنة ومستأنسة بتاريخ تصاعدي ومعرفية تراكمية.
لقد اقتربت بعض التوجهات الثقافية "الليبرالية" الطرفية،قبل سيادة خطاب الخصوصية والاستثناء الثقافي، من المثال الأوروبي، وأقرت،بكثير أو قليل من الحصافة، بالكوننة الثقافية وبإمكان استعارة و تعميم القيم والمعايير الحديثة.
(فإذا كنا نريد هذا الاستقلال العقلي والنفسي الذي لا يكون إلا بالاستقلال العلمي والأدبي والفني فنحن نريد وسائله بالطبع.ووسائله أن نتعلم كما يتعلم الأوربي، لنشعر كما يشعر الأوربي، ولنحكم كما يحكم الأوربي ثم لنعمل كما يعمل الأوربي ونصرف الحياة كما يصرفها.)
(طه حسين-مستقبل الثقافة في مصر -دار المعارف للطباعة والنشر -سوسة -تونس -الطبعة الأولى 2001-ص.48).
هل يمكن الدفاع،في المشهد المصري، راهنا، عن دعوى التحديث الفكري،كما يرسم طه حسين خطوطها العريضة في نصه الإشكالي "مستقبل الثقافة في مصر "؟ألا يتحل نقد الليبرالية الطاهوية، حيزا رئيسا،في الخطاب النقيض طيلة أزيد من نصف قرن؟ ألا يقر النص الطاهوي،بالكوننة الثقافية، أي بالقاعدة المعيارية، للنظيمة الحداثية؟هل يكفي رفض التبعية الثقافية والتغريب،لطمس،إقرار الخطاب الطاهوي، رغم كل ذبذباته وتوتراته وتناقضاته،بمنطق العصور الحديثة (تناول علي أومليل توترات مشروع طه في"الإصلاحية العربية والدولة الوطنية ")؟ ألا يقتضي تسليم الحداثة بتاريخية العرفان،تدشين تاريخية جديدة مرفقة بتأنسن جديد؟
والحقيقة أن الرائج،الآن، هو التأكيد على تاريخية الحداثة،وإعلان العرفان بديلا مطلقا للعقلانية المجردة،ورفع التخليق إلى مرتبة المعيار الأسمى في تقويم المنجزات التاريخية.كما رفعت الأخلاق العرفانية ذات الاستيحاءات الغزالية حصرا، إلى منزلة، المقوم المعياري، الضامن للمعرفة الأخلاقية السديدة، و للسعادة القلبية الكبرى؟
(أن أساليب التفكير العقلي المجردة التي نأخذ بها اليوم هي أساليب موروثة عن ثقافة مخصوصة وتاريخ مخصوص، ولم يكن من الضروري في شيء أن تكون لنا هذه الثقافة، ولا أن يكون لنا هذا التاريخ، بل كان من الجائز كل الجواز أن تأتينا الظروف المكانية والصروف الزمانية بغير هذه الثقافة وهذا التاريخ، أو توجهنا إلى اصطناع أصناف ثقافية وتاريخية مخالفة لما وثناه.)
(-طه عبد الرحمن-العمل الديني وتجديد العقل -المركز الثقافي العربي -الدار البيضاء -بيروت-الطبعة الثانية -1997-ص.49).
تواجه كونية الخطاب الليبرالي،خصوصية الخطاب الينبوعي،المقر باحتمالية النظيمة الحداثية من جهة، وضرورة النظيمة القدامية من جهة ثانية.تضفي الينبوعيات الطابع الاحتمالي والجوازي على الحداثة الغربية فيما تلف ثقافتها المخصوصة،بدثار "الحتمية" الميتا-تاريخية وتخص العقلانية المؤيدة بالامتياز والاكتمال.فبدلا،من تعميق حفر قنوات محلية للمعايير الثقافية العالمية،والتأكيد على خصوصية الأزمنة الحداثية، فكريا وجماليا وأخلاقيا،فإن الخطاب الخصوصي الممانع، يلح،على إقليمية وتاريخية ومحلية "الحدث الحداثي"والصيرورة الحداثية "، ويمتنع عن التسطير على فرادة" التاريخ الحديث".
ويحتل نقد النظر المجرد في استعمالاته المركزية (العقل الديني وتجديد العقل ) أو الطرفي ( نقد الجابري في "تجديد المنهج في تقويم التراث" )،والحداثة(في "سؤال الحداثة "...الخ)،ركنا هاما،في التبصير الفلسفي "للمقرب ".ورغم كل الفتوحات الحداثية،فإن الناظر المؤيد،سيفرغ وسعه في إبراز راهنية ونجاعة الفتوحات العرفانية، الغزالية لا الأكبرية أو الحلاجية. وهكذا، انتقل المشهد المغربي،من التحديث والشخصانية والغذية والتاريخانية والنقد المزدوج،إلى تأييد العرفانيات حصرا،استنادا إلى عتاد منهجي ومفهومي مستل،من المنجز الثقافي الغربي بالذات.
لا يقلق التأكيد على السيرورة العولمية، الثقافات التقليدية،لأنها تعتبر التجدد التقاني، أفضل وسيلة، لإعادة بث المطموس وكوننة النظيمة القدامية،في كليتها المعيارية أحيانا،وإبرازها في واجهة المشهد الكوكبي.
ليس الاحتفاء بالأنساق الثقافية الألفية الآن، خصيصة متوسطية فقط،بل هي من السمات البارزة لثقافات الشرق الأقصى كذلك.لم يصاحب الارتقاء الاقتصادي الصيني، أي إبدال ثقافي قابل للكوننة.بل إننا نقف على عودة امتثالية،لبنية الميثات القديمة.وهكذا، يتعايش، الصعود الاقتصادي والمالي الصيني،مع ترميق ثقافي،بعيد، إلى حد كبير، عن الانهمامات الكونية،لصين اشتراكية،حلمت ذات يوم،بصياغة إبدال ثقافي،أرقى وقابل للكوننة.
لماذا يجد بعض الشرقيين،سهولة في التماهي مع طائفة فالون غونغ أو الفالون دافا والاستعادات الميثية لا العالمة للكونفوشيوسية والبوذية والطاوية،وصعوبة كبرى في سبر عوالم لو تسه أو تزوسو أو تشوانغ تسه أو فان تجن أو فويي؟ ألا تحبذ العولمة،الأزمنة المتقطعة و المتلاحقة، على زمان السيرورة اللولبية المعقدة،والإنسان التقاني العالق في أولى درجات الإدراك على الإنسان المتنور الحالم بعالم هانئ وعدالة شاملة؟ هل توازي ميثات الطوائف، عمق الفلسفة الطاوية أو الكونفوشيوسية الجديدة مثلا؟
يقول تزوسو :
(الإنسان وحده هو الحقيقة كليا في عالمه البشري، الذي يقدر على صنع النسيج العظيم للحياة المتمدنة، الذي يقدر على إرساء الأسس العظيمة للمجتمع المتمدن، والذي يستطيع فهم سيرورات تغذية السماء والأرض.هل يمكن لأي متغيرية أن تحل فيه؟ ما ارسخ قلبيته الإنسانية ! كم هو عسير سبر أفعاله ! وكم هي غامرة مروءته الفائقة ! من هو الذي يستطيع أن يتصور هذه ما لم تكن له فطنة حادة وحكمة شبيهة بالحكماء، ما لم يصل صعدا إلى القوة الروحية للسماء؟ )
(-هادي العلوي -المستطرف الصيني -"من تراث الصين"- دار المدى -دمشق -تاريخ الطبع 1994-ص.183)
فبد الفاصل الماركسي -الماوي،هاهي الصين العولمية،تتماهى،جزئيا، مع موروثها الألفي،وتعيد ترهين الرمزيات والتمثلات والميثات،المستقلة،عن مؤديات النصوص الكونفوشيوسية والطاوية والبوذية وعن ابستيمية العقل التاريخي.والحقيقة أن المعيارية العولمية،تحبذ، بصفة معلنة أو مضمرة،تلك الاستعادات،مادامت تربط الفرد،بعالم التمثلات وتفصله عن التشخصن و التفريد المصحوبين بالنقدية.وهكذا يعيش "الكائن المعولم"،مشتتا بين امتثالية الاستعادة الرمزية للميثات المحلية،وهلامية العالم الافتراضي.ليس غريبا، أن تتعايش، التقانة الراقية، بالثقافة التداولية القدامية الناقدة للمنجز الحداثي، في الأمريكيتين وفي الشرق الأقصى على سبيل المثال.
وقصارى القول أن العولمة الثقافية،افتراض نظري،لا تدعمه المعطيات الواقعية،ولا تحولات الثقافات الطرفية في النصف الثاني من القرن العشرين. فلئن اقتربت هذه الأخيرة،في مفاصل من تاريخها الحديث،من المثال التاريخي أو التاريخاني،وسعت إلى مراجعة موروثها التاريخي مراجعة نقدية مسلحة بالعتاد النقدي الحداثي،فإن أغلبية تلك الثقافات،فضلت الانكفاء عن هذا المسلك،والاستمساك بنظمها التقليدية، بعد ترهينها وتأويلها أو تكييفها مع خصائص الحامل التقني أو منتظرات المتلقي أو معايير الذاكرة الجماعية.من المحقق أن المشهد الراهن،جماع، تقنية عالية معولمة، تحقيقا، ومعارف تقانية أداتية وإجرائية برسم الاجرأة والاستعمال النفعي، وميثيات محلية مقتبسة من سجلات تاريخية معروفة أو من أمشاج مركبة مستلة من سجلات وأضابير مختلفة، لفهم العالم وتعيين مواقع الذات في أرخبيل التفاعلات بين الجماعات،وتحديد طرق تحصيل سكينة الوجدان.
لا يجب الخلط، بين عولمة الحامل التقني، وعولمة ثقافية مستعصية،في زمان التشكك في سيرورة الحداثية داخل مدارات الميتروبول، وعلى جنبات الأطراف على السواء !.
اكادير -المغرب