أردوغان أمام لحظة "ديغولية"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تذكر السيرة الذاتية لرئيس الحكومة التركية طيب رجب أردوغان أنه عاش الكثير من المواقف الحرجة و اللحظات العصيبة قبل أن يعتلي سدة الحكم في بلاده سنة 2002، و أن التاريخ التركي المعاصر سيسجله كثاني أبرز زعيم سياسي أنجبته البلاد بعد مؤسس جمهوريتها مصطفى كمال أتاتورك، إلا أن اللحظة الراهنة التي يعيشها الرجل هي الأصعب و الأكثر إيلاما و مشقة على نفسه و مستقبله السياسي.و ينعت الرجل العنيد في أمثلة العديد من الشعوب ب"الرأس التركي"، و مما سيجعل القرار أكثر صعوبة أمام رئيس الوزراء التركي أنه في طبعه الشخصي عنيد أيضا، فإذا ما أضيف إلى طبعه طبع شعبه فسيكون عناده مضاعفا، و هو ما لن يساعده ربما على مجاراة زعيم فرنسي كبير هو الجنرال ديغول، الذي وقف وقفة مشابهة ذات يوم من سنة 1968، فقرر دون مواربة ترك السلطة و العودة إلى خلوته الاختيارية في قرية وادعة على شاطئ الأطلسي.
كان بمقدور الجنرال ديغول حينها أن يقول كلمات مشابهة، في ظاهرها حق و في باطنها مكابرة، كأن يردد مثلا بأنه جاء إلى الايليزي عبر صناديق الاقتراع و أنه لن يذهب حتى تقول ذات الصناديق كلمتها، و كان بمقدوره أن يذكر سامعيه أيضا بأفضاله الكبيرة الكثيرة على فرنسا، التي أنقذها على الأقل مرتين، مرة خلال الحرب العالمية عندما قاد جيشها الحر ضد النازية، و مرة عندما انهارت الجمهورية الفرنسية سنة 1958 فقبل الإشراف على إعادة بناء الدولة بإعلانه الجمهورية الخامسة و قبوله باستقلال الجزائر سنة 1962.لكن ديغول لم يفعل أيا من ذلك، و لم ينعت الطلاب الثائرين آنذاك بكمشة "خونة و لصوص و متآمرين"، و لم يتحدى المتظاهرين بقوله أنه سينزل من مؤيديه أضعافا لمواجهتهم، و لم يصرح بأن أطرافا داخلية و خارجية تتآمر ضده بمعية معارضيه الاشتراكيين في زمن كان فيه للاتحاد السوفيتي صولات و جولات في دول أوربا الغربية، و كان كل ما فعله أن قرر بهدوء المغادرة، و قال أن غضب جزء من شباب شعبه عليه مهما كان عدد أعضاء هذا الجزء كاف للرحيل.لقد حقق أردوغان الكثير من الإنجازات العظيمة لشعبه طيلة السنوات العشر السابقة، فقد قاد اقتصاد بلاده إلى ما يشبه المعجزة و دفع قروضها بالكامل إلى صندوق النقد الدولي، و أنهى هيمنة الطغمة العسكرية على حياتها السياسية، و جعل دور تركيا الاستراتيجي حاسما في محيطها الإقليمي و الدولي، حتى أضحت نموذجا للدولة المسلمة في مجال التنمية الشاملة و التوفيق بين الديمقراطية و الإسلام و العلمانية، و ما ينكر ذلك إلا جاحد أو عدو.غير أن أردوغان قرر بوعي منه أو بوقوعه تحت تأثير بريق السلطان، أن يعرض كل تلك الإنجازات للخطر و أن يدفع اليائسين من تغييره سلميا إلى الاحتجاج شبه العنيف في شوارع كبريات المدن التركية، فقد أضحى شعور شرائح واسعة في النخب و الشعب على السواء، أن الرجل في طريقه للتحول إلى "طاغية"، و قد يكون طاغية نظيف اليد "خادما لشعبه" كما وصف نفسه، لكنه يظل طاغية يرى دائما أنه محق و أن على الجميع إطاعته لأنه يعرف مصلحتهم أكثر منهم.و يمكن أن يشيّد الطغيان بقوانين ديمقراطية، إذ لم يفعل حزب العدالة و التنمية منذ فاز بأول انتخابات إلا تمرير ما يريد من القوانين و التعديلات الدستورية غير عابئ بأي معارضة، و على هذا النحو فإن تركيا اتجهت طيلة العشرة أعوام الفائتة إلى تشييد ما بالمقدور تسميته ب"الديكتاتورية البرلمانية" أو "ديكتاتورية الأغلبية"، حيث يكتفي الحزب الحاكم بتحصيل ما بين ال40 و 50 بالمائة من الأصوات الناخبة، ليحصد ثلثي مقاعد البرلمان و يمنح نفسه كل الحقوق التي يجري آليا حجبها على قوى المعارضة.و قد زاد ضيق أردوغان بالمعارضة و بالصحافة كثيرا خلال السنوات الأخيرة، فعمد إلى طرق ملتوية و أقلها "غير أخلاقية" لتصفية العديد من الخصوم السياسيين، فضلا عن سجنه أكبر عدد من الصحفيين دوليا بحجة توتيرهم للجو العام، و إعلانه شبه الفج من خلال الكثير من القوانين على مضيه قدما في نقض عرى المجتمع الكمالي عروة عروة، و التحضير بجدية لنمط مجتمعي جديد لا يبتعد بدوره عن مشروع "العثمانية الجديدة" الذي أعلن عنه وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو في كتابه "العمق الاستراتيجي".و أخيرا لا بد من القول بأن الرخاء الاقتصادي الذي عم تركيا خلال العقد الأخير، لم تجنى ثماره بشكل عادل، و هو ما أثر على قدرة أبناء الطبقات الفقيرة و المتوسطة الشرائية و وسّع الفجوة بين الفقراء و الأغنياء، فقد وصل أردوغان إلى السلطة بسبب الدعم الكبير الذي وجده من أبناء الطبقة الاقتصادية الصاعدة في الأناضول أو طبقة محدثي النعمة و كان من الضروري رد الجميل و لو على حساب الطبقات الأكثر حاجة و عوزا و الأولى بالاهتمام و الرعاية.ليس كافيا أن يكون أردوغان "خادما لشعبه" طيبا و مخلصا للبقاء في السلطة بقاء السلاطين، و سيكون أردوغان إن أصر على المضي في طريق التحدي أن يضع في حسبانه النهاية المأساوية لجل سلاطين بني عثمان، و من بينهم الأحب إلى قلب الرجل السلطان سليم الأول فاتح مصر..