انتفاضة ميدان التقسيم والربيع التركي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بداية لا بد للمرء ان يسجل لرجب طيب أردوغان سلسلة انجازات، تمثلت في إنهاء هيمنة العسكر على الحياة السياسية وتحقيق ما يشبه نهضة اقتصادية كبيرة ومحاولة حل القضية الكردية سلميا، ولكن هذه النجاحات وغيرها لا تعني ان تركيا أضحت دولة ديمقراطية مستقرة، ولعل سبب ذلك هو نهج اردوغان نفسه وكيفية إدارته للسلطة والتحولات التي يريد أردوغان فرضها على الدولة والمجتمع التركيين، فضلا عن طموحاته الجامحة، سواء في الداخل أو الخارج.
لقد قلت في أكثر من مناسبة إن تركيا ليست بمنأى عن التغيرات الجارية في المنطقة، والسبب في ذلك يعود إلى أمرين.
الأول: ان بنية الدولة التركية على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وعلاقة المؤسسة الحاكمة بالسلطة والشعب لا تختلف كثيرا عن بنية الدول في العالم الثالث.
والثاني : ان حكومة حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان تحولت إلى حكومة حزب الواحد والحكم الشمولي بعد سيطرتها على الرئاسات الثلاثة ( الحكومة - البرلمان - الجمهورية ).
وانطلاقا من ما سبق، لا ينبغي النظر إلى ما جرى ويجري في ميدان التقسيم باسطنبول وغيرها من ساحات المدن التركية على انه مجرد احتجاجات لناشطين دفاعا عن البيئة في وجه مشاريع تجارية يتمسك أردوغان، بقدر ما هي تعبير عن احتقان شعبي ورفض لسياسة اردوغان، ولعل نوعية المشاركين في الاحتجاجات، وكذلك سرعة انتشار هذه التظاهرات في العديد من المدن والمناطق التركية، تؤكدان مدى السخط الشعبي. وهنا ينبغي التوقف عند ثلاثة أمور.
الأول : حجم المشكلات الداخلية المزمنة في تركيا ، كالقضية الكردية والأرمنية والمشكلة العلوية وتهميش أردوغان للمعارضة السياسية بشقيها العلماني والقومي .
والثاني : سلسلة الاجراءات والخطوات الإيديولوجية التي يحاول أردوغان فرضها على المجتمع التركي وسلوكة وثقافته وقيمه وتفاصيل حياته اليومية والتي تجسد في النهاية حريته الشخصية.
الثالث: طريقة تعامل أردوغان مع ثورات (الربيع العربي)، فهذه السياسة ورطت تركيا في وحول الأزمة السورية، بعد ان أوحى أردوغان ان النظام السوري سيسقط سريعا ولكن ها هو صمد لأكثر من سنتين وأربعة أشهر وباتت التداعيات تتنقل إلى الداخل التركي، فالأزمة أحدثت انقساما سياسيا واجتماعيا في تركيا، حيث بدأت الأصوات تعلو من الداخل التركي وتحذر من خطر انتقال المجموعات الإسلامية المتشددة إلى الداخل التركي خاصة وان تركيا تشكل رمزا غربيا.
في الواقع، ما يجري في ميدان التقسيم في اسطنبول بمثابة اختبار حقيقي لحكم اردوغان وسياسته، واللافت فيما جرى ان أسلوب اردوغان في التعاطي مع انتفاضة ميدان التقسيم لم يختلف عن أسلوب الحكام العرب، إذ لم يتوانى عن وصف المحتجين باللصوص والزعران ... كما تصرف بطريقة متعجرفة مع مطالب المحتجين، وهو ما أدى عمليا إلى زيادة وتيرة المشاركين في التظاهرات ودخول المعارضة السياسية على خط الاحتجاجات، وذلك خلافا لأسلوب كل من الرئيس عبدالله غل وبولنت ارينج نائب أردوغان .
دون شك ، ان ما يجري في تركيا هذه الأيام ليس وليد لحظة، أو ان سببه قطع بعض عشرات الأشجار في ميدان التقسيم، وانما نتيجة جملة من الأسباب والتراكمات التي هيأت للبركان الشعبي الذي تفجر. ولعل من أهم هذه الأسباب :
1- ان حزب العدالة والتنمية الذي جاء إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع ، تحول خلال عقد من الزمن ومن خلال خطواته التكتيكية، وفرض ايديولوجتيه على القضاء والجامعات والتعليم .... وتوقف عملية الإصلاح إلى شكل من اشكال الاحزاب الشمولية الحاكمة، وقد أدى كل ذلك إلى تقويض الحريات العامة والشخصية، خاصة بعد كتم صوت الإعلام واعتقال عشرات الصحفيين ومئات الناشطين والحقوقيين، وهو ما أدى إلى استياء شعبي عام الذي بدأ يحس بالاختناق حتى تفجر غضبه في ميدان التقسيم .
2- ان حزب العدالة والتنمية الذي وصل بفضل اللعبة الديمقراطية إلى السلطة، استغل هذه الديمقراطية في انتاج نظام شمولي، دفع بمجمل القوى الديمقراطية واليسارية والعلمانية والنسائية والمجتمع المدني إلى التوحد والتحرك معا ضد سلطوية هذه الحكم، ولعل هذا ما يفسر وجود كم كبير من الفنانين والممثلين والرياضين والكتاب ... في ساحة ميدان التقسيم وسط تنظيم رائع نجح في تسجيل أول انتصار ميداني عندما أجبر قوات الشرطة على الانسحاب من الميدان ، كما نجح سياسيا عندما أجبر نائب رئيس الوزراء على الاجتماع بهم وطرح مطالبهم بكل شفافية .
دون شك، مجمل هذه الأسباب والعوامل والمقدمات هي التي تقف وراء انطلاق شرارة انتفاضة ميدان التقسيم في اسطنبول، وهي انتفاضة اسقطت الخوف من نفوس الأتراك وان تركيا ليست بمنأى عن موجة التغير التي تشهدها المنطقة.
وبانتظار إلى ما ستؤول إليه الأمور، فان الانظار تتجه في المرحلة المقبلة إلى مواقف كل من الجيش وحزب العدالة والتنمية نفسه والأكراد بعد ان أعطى عبدالله أوجلان كلمة السر في تأييد انتفاضة ميدان التقسيم.