نحن ونيلسون مانديلا...
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أدخل الزعيم الأفريقي الجنوبي مانديلا من جديد في المستشفى بعد خروجه من سرير المرض مؤخرا.
من يشاهد أبناء جنوب أفريقيا، يلاحظ مدى تعلقهم بهذا الزعيم الفريد، الذي قاد الشعب بحكمة ومثابرة وروح التفاني للتحرر من نظام الفصل العنصري ولبناء دولة الحرية والمساواة والعدالة والتقدم والازدهار.
لم يثقف مانديلا شعبه، الذي عاني الظلم القاسي طويلا، بروح الانتقام من الحكام العنصريين، ولا دعا للاجتثاث، وإنما، بالعكس، دعا للتسامح والاستفادة من جميع الخبرات والكفاءات الحريصة على قيام الديمقراطية والعدالة. وقد توجه خلال الشهور الأولى للانتفاضات العربية إلى جماهيرها وزعاماتها لكي يتجنبوا هوس الثأر وغرائز العنف، ولكن نداءاته ذهبت أدراج الرياح، سواء في مصر أو تونس أو ليبيا، باسم قوانين العزل السياسي، في موجة تصفية حسابات سياسية وتأجيج للمشاعر الغوغائية في الشارع. وفي ليبيا شمل العزل السياسي حتى الدكتور محمود جبريل العلماني، الذي ترأس أول مكتب تنفيذي بعد الثورة على القذافي.
في مقال سابق انتقدنا مسؤولين عراقيين شبهوا تجربة الحكم العراقي بتجربة جنوب أفريقيا، متعمدين القفز على الحقائق التاريخية الدامغة. وفي الوقت الذي نكتب فيه هذه الكلمات تجري في بغداد حملات تطهير مذهبي تنفذها مليشيات عصائب "الحق" وغيرها من الخاضعة للمالكي. ولمن يشبهون مانديلا بزعماء السلطة العراقية، ويعزفون مع انصارهم على نغمة " مظلومية الشيعة"، ولحد الزعم بأن الشيعة العراقيين كانوا محرومين من " كل حقوقهم" حتى تبدلت الأمور بإزاحة النظام الصدامي، يجب الرد بأنه لم يكن في العراق الحديث نظام للفصل المذهبي بتاتا. ففي العهد الملكي كانت هناك درجة من التمييز الطائفي غير المعلن تشمل مناصب بعينها كرئاسة أركان الجيش وإدارة الأمن العامة. كما انحصرت غالبية مناصب رئاسة مجالس الوزراء بساسة من السنة، مع أن ذلك شرع بالتغير تدريجا بعيد الحرب الثانية بإسناد تشكيل أربع حكومات إلى ساسة من الشيعة. وما عدا ذلك، كان الساسة الشيعة يشغلون مناصب وزارية ومناصب هامة غيرها. وكانت وزارة التربية تكاد تكون حصرا في أيدي وزراء من الشيعة. وكان التزاوج بين أفراد من الطائفتين ظاهرة ملموسة. فأين هذا من الفصل العنصري الذي كان سائدا في جنوب أفريقيا، ولدرجة العزل التام للسود عن البيض، في الحياة العامة والحياة الخاصة؟! وحتى زمن صدام، كانت مناصب هامة في حزب البعث والسلطة لأشخاص من الشيعة. وقد يقال إن دورهم كان ثانويا، ولكن دور غيرهم من السنة أيضا لم يكن أفضل لان السلطة الحقيقية كانت في أيدي صدام والعائلة. ولم يظهر شعار" لا شيعة بعد اليوم" إلا بعد انتفاضة مارس1991، أي بعد أكثر من عشرين سنة من حكم البعث، وبالمقابل، ارتفعت خلال الانتفاضة شعارات طائفية " شيعية" بتشجيع إيراني مباشر، مثل " ما كو ولي إلا علي، نريد حاكم جعفري".
إن من المحزن أن لا تنتج المجتمعات العربية والإسلامية، [وإلا نادرا جدا] قادة يتصفون بالحكمة السياسية والتبصر والولاء للشعب من أمثال مانديلا وهافيل التشيكي وإيش فاليزا البولوني وأمثالهم، ممن ظهروا في أوروبا الشرقية، وقادوا بلدانهم سلميا، وبأقل الخسائر للتخلص من الأنظمة الشمولية المغلقة وبناء الديمقراطية. إن من ظهروا عندنا، وحكموا خلال العقود الأخيرة، هم من أمثال خميني وخامنئي وحافظ وبشار الأسد وصدام والقذافي وعلي عبد الله وأمثالهم من محتكري الحكم وأعداء الديمقراطية، وكذلك من يحكمون العراق اليوم باسم المظلومية وبهوس الاحتكار والاجتثاث. وما دام الدين والمذهب يسخران للسياسة والسياسيين وللمنافع ولتصفية الحسابات، وما دام الشارع مشحونا بالنزعات الفئوية الضيقة وبالفتاوى المتخلفة والملغومة، فلا أمل قريبا لظهور قيادات قادرة على إنقاذ شعوب المنطقة من الأوضاع الخطرة والمتردية التي تمر بها والمفتوحة على مخاطر أكبر مع الاحتمالات السوداء للحالة السورية، ومع التمدد الإيراني، والانتشار الإخواني - السلفي، والاختراق القاعدي، وفي أوضاع دولية متشابكة ومتداخلة، تزيد من أخطارها الزعامة الفاشلة لأوباما، الذي يا ما صفق له العرب وتحمسوا نكاية بسلفه ولكونه نصف مسلم، فإذا بمعظمهم ينتقدونه اليوم بكل قوة.
إننا نشارك شعب جنوب أفريقيا قلقه على حياة مانديلا والدعاء له بالخروج سالما من أزمته الصحية الجديدة، مثلما ندعو لعودة رئيس جمهوريتنا، مام جلال، سالما لأحضان محبيه.