سوريا.. سرّة العالم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يعود سبب رئيسي من أسباب صمود نظام بشّار الأسد إلى طبيعة سوريا نفسها، التي إن بحثنا لها عن توصيف دقيق في التاريخ و الجغرافيا و السياسة الدولية، فلن يكون سوى أنها "سرّة" العالم، التي تتقاطع فيها كل الطرق و المصالح و تنتهي إليها جميع المدارس و المذاهب و الطوائف و الأديان، و بفتحها تنكشف جميع الأمعاء و ما تحتوي بطن البشرية على مر العصور من أهواء و أدواء و أفكار ورؤى.
و إذا ما صلح القول إن سوريا هي "سرة" العالم، فمن باب أحرى القول إنها "سرّة" العالم العربي و الإسلامي، فعاصمتها فضلا عن كونها العاصمة الأكثر عراقة عالميا، فهي أول عاصمة لدولة قومية عربية، و من "السّلمية" تلك المدينة "الحمصية" أقام الفاطميون أوّل دولة شيعية، و على أرضها خلق "شيخ الجبل" أول فرقة مارست الإرهاب و الاغتيال السياسي و أدخلت الرعب في قلوب الأعداء، و في إقليمها يوجد أثر لكافة عقائد و ملل و نحل العرب و المسلمين، غير أنه يوجد في سوريا ما لا يوجد في بقية الدول.
و إذا ما تأمل المرء في محيط سوريا الإقليمي، فإنه سيجد أن كل دولة لها معها حدود لها امتداد فيها، فلبنان على سبيل المثال يبدو في تركيبته الطائفية و الإثنية " بمثابة "سوريا مصغّرة"، فما هو موجود في لبنان موجود في سوريا مصغّرا أو مكبّرا، من مسلمين و مسيحيين، و عرب و أكراد و أرمن و سريان و روم، و دروز و علويين و شيعة و سنّة و سلفيين و أحباش. و ما يسري على القياس اللبناني، يسري بدرجة أو بأخرى على الأردن و فلسطين و العراق و تركيا، فسوريا تأخذ بكل قميص من قمصان هؤلاء بطرف، و تملك أن تشدّ كل طرف في كل لحظة و حين، متى ما تبيّن أن هناك مصلحة في ذلك أو ضرورة.
و بناء على هذه المعطيات، فإن لسوريا أوراقا تلعبها لدى كافة دول الجوار، إذ بمقدورها تحريك الأوضاع في لبنان و فلسطين و الأردن و العراق و تركيا، و حتى في دول أبعد في محيطها القريب و البعيد على السواء، و لا شك أن لسوريا صلة ما بما يجدّ في "تقسيم" اسطنبول و أنقرة و مدن تركية أخرى، كما يدرك اللبنانيون أن أرضهم مهددّة بفيض حمم البركان السوري، و كذا الحال في سائر بلدان الجوار الإقليمي.
أما النقطة الثانية، التي ربّما لم يأخذها في الحسبان أولئك اللاعبون الذين دعّموا الحراك الديمقراطي في سوريا قبل أن يحوّلوه بفعل تسليح الثوّار إلى حرب أهلية و فتنة إرهابية، فهي ورقة المقاومة ضد المشروع الصهيوني في المنطقة، فالصراع العربي الإسرائيلي لم يكن يوما وهما، و هو بنظر كثير من العرب و المسلمين سيبقى صراع وجود لا حدود، و أيا تكن الملاحظات التي يمكن إسداؤها، و هي ملاحظات ذات صدقية عالية، حول طبيعة النظام السوري المخابراتية الاستبدادية، فإن هذا النظام قد ارتبط منذ عقود و على نحو بنيوي مع حركات المقاومة الفلسطينية و اللبنانية و مع دول المقاومة أيضا، و اكتسب لدى قطاع عريض من الشارع العربي صورة حسنة محمودة تؤهله إلى أن يكون فاعلا باستمرار في التأثير على هذا الشارع و كسب تعاطفه.
و قد تمكن النظام السوري خلال الأشهر القليلة الماضية، من قلب الطاولة في مجال تعاطف الرأي العام العربي، فمن وضع كان الحراك الديمقراطي السوري ينظر إليه في طول العالم العربي و عرضه في البدايات على أنه "ثورة" و حلقة جديدة من حلقات مسلسل الربيع العربي، أصبح هذا الحراك اليوم في نظر جزء لا يستهان به من "الجماهير العربية"، بما في ذلك الجماهير التونسية و المصرية و اليمنية و الليبية، مجرّد مؤامرة على "المقاومة" و حلقة من حلقات التآمر "الصهيوني الأمريكي" على المنطقة، و هو أمر يمكن أيضا قياسه بشعبية بعض القنوات المؤيدة للثورة السورية ك"الجزيرة" القطرية، و قنوات أخرى صاعدة ك"الميادين" اللبنانية.
و أما الورقة الثالثة الناجمة عن هذه الطبيعة الخاصة جدّا لسوريا، فهي الورقة الدولية، حيث أتقن النظام السوري توظيف المخاوف "الروسية" و "الصينية" و "الإيرانية" على مصالحها في المنطقة و العالم، لصبها في ترسانة مواجهة مشروع إسقاط النظام، و تحويل الحرب من مجرّد "فتنة داخلية" يتصارع فيها الإخوة الأعداء إلى "حرب عالمية" حقيقية وصلت معها الأمور إلى حد قول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن روسيا ستساند سوريا حتى لو وصلت الحرب إلى شوارع موسكو.
بقيت الإشارة إلى أن على أولئك المصرّين على المضي بالحرب السورية إلى آخرها، أن يعلموا تماما أن عملية إزاحة الأسد عن السلطة تكاد تكون اليوم مستحيلة، لسبب بسيط هو أن نظام حكم الرئيس بشّار ليس نظام حكم يقف على رجل كما كان الحال في تونس أو مصر أو ليبيا أو اليمن، إذا ما رحل انهار برحيله النظام، و لكنه نظام طائفة و عائلة ممتدّة، الرجل فيها ليس سوى ممثّل لها في النهاية و سقوطه لا يعنيه شخصيّا بقدر ما يعني ملايين الرجال و النساء ممّن ترى فيه حالها و مستقبلها، فضلا عن وجود ذلك السيناريو القابل للتطبيق دوما، و الذي إذا ما استحال معه حكم الأسد لسوريا كلها، فسيكون متاحا له حتما حكم جزء منها، يصغر أو يكبر بحسب موازين القوى.
و لننتظر إذا ما فكّت السرّة السورية ماذا يمكن أن يتدفّق من أحشائها، و ما إذا كانت المنطقة الشرق أوسطية بأسرها مقدمة على حراك كبير و تغيّر نوعي من قبيل ذلك الذي أتت به اتفاقية "سايكس بيكو" مثلا؟