فضاء الرأي

عولمة التجسس واقتصاد المستقبل 1

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان

لفت نظري كتاب جديد في طوكيو صدر من مجموعة بنجون للنشر، وبعنوان، من يملك المستقبل. وقد أحببت أن أشارك القارئ العزيز ما ورد في مقدمته من أفكار وتصورات، والتي قد يصعب استيعابها اليوم، لكون بعض أفكارها قد تبدو غريبة في الحاضر، ولكنها ستصبح حقائق مستقبلية. ومن الغرابة أن مؤلف الكتاب، جارون لنير، متخصص في تكنولوجية الاتصالات، وأحد مخترعي السلكون فالي، في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، وقد استفاد كثيرا ماديا من التطورات التكنولوجية الحديثة، كما أنه يجمع بين مواهب كثيرة من الفيزياء والرياضيات إلى الكتابة والموسيقى.
يعالج هذا الكتاب تحديات تكنولوجية الاتصالات والتواصل الاجتماعي للجنس البشري في الألفية الثالثة. فمع تطور هذه التكنولوجية ارتفعت نسب البطالة في دول الغرب، وقد يتساءل البعض ما السبب؟ وهل للتطورات التكنولوجية دور في ذلك؟ ولماذا تسجل شركات تكنولوجية شبكات التواصل الاجتماعي ارباح هائلة؟ وما سبب تركز الثراء في يد قلة في عالم العولمة الجديد، بينما انكمشت الطبقة الوسطى في الغرب؟ وما التوقعات المستقبلية لهذه التطورات؟ فهل ستستمر نسب البطالة في الارتفاع، لتضر بالأمن والاستقرار المجتمعي، فتخلق الفوضى والثورات الانفعالية؟ وهل هناك طريقة لتغير هذا الحلم المربع لتلعب تكنولوجية المستقبل دورها في تنمية اقتصاد تكنولوجي جديد، يوفر الازدهار والسعادة لشعوب عالم العولمة في الألفية الثالثة؟
لتتوضح التحديات التي يناقشها هذا الكتاب تصور عزيزي القارئ بأنك "تتزلج" على شبكة الانترنت، ودخلت على أحد شبكات التواصل الاجتماعي، وتحاورت مع صديقك عن مولودك القادم، ثم ناقشت معه ما سمي ب"الربيع التركي"، وذكر صديقك بأن هناك كتاب جديد عن هذا الموضوع ويمكنك شراء النسخة الالكترونية منه على الانترنت. وفعلا قررت أن تشتري الكتاب، ووجدت بأن سعر نسخة الكتاب المطبوعة على الورق، هو تقريبا نفس سعر النسخة الالكترونية التي ستنسخها من الانترنت، وبدأت تسأل نفسك: كيف يمكن أن يكون سعر الكتاب المطبوع على الورق، هو نفس سعر النسخة الالكترونية من الكتاب؟ وقد يجول في ذهنك سؤال اخر: كيف توفر شبكة التواصل الاجتماعي خدماتها مجانا، وتحقق ربحية كبيرة؟ هل تعود هذه الربحية لشركات الدعاية أم هناك سر اخر؟ وبعد أسبوع من هذه المناقشة على شبكة التواصل الاجتماعي مع صديقك، وصلتك رسالة من شركة لحاجيات الطفل الوليد، واستغربت كيف عرفت الشركة بأنك تنتظر طفلا؟
لنحاول عزيزي القارئ أن نجاوب على سؤالين نتيجة للمساءلة السابقة: ما علاقة الانترنت بزيادة البطالة؟ وكيف تسجل شركات شبكات التواصل الاجتماعي ربحيتها؟ تصور بأنك قد اشتريت النسخة المطبوعة من الكتاب، وبعدها سألك صديق: لماذا اشتريت النسخة المطبوعة على الورق بدل النسخة الالكترونية؟ وبدأت تفكر في الجواب، فوجدت بأن النسخة المطبوعة تحتاج لساعي بريد يوصله لبيتك، فقد أضفت عملا جديدا لساعي البريد، فمنعت التخلص منه بل زدت الحاجة لزيادة موظفي البريد، حيث هناك الحاجة ايضا لشراء طابع، والطابع يحتاج لشركة للطباعة لتنتجه، كما أن الطابع يحتاج لبائع يريد أن يبيعك الطابع. أو قد يكون الكتاب قد أرسل لك من خلال شركات البريد السريع، فأيضا لعبت دورا في زيادة عملهم ووظائفهم. وطبعا الكتاب المطبوع يحتاج لمكتبة تطبعه، وسيكون بالمكتبة عدد من العامليين فزدت بذلك الحاجة للموظفيين. كما أن المطبعة تحتاج للورق، فعليها شراء الورق من شركات صناعة الورق، فأضفت زيادة اخرى في الحاجة للعاملين، كما أن الورق يحتاج لأشجار، والأشجار تحتاج لشركات تزرعها، وهي ايضا توظف عمال للزراعة.
فباختصار شديد، فقد لعبت دورك في توفير عدة وظائف وتقليل نسب البطالة بشراء كتاب مطبوع، ولكن هل سيتحقق ذلك لو أنك اشتريت نسخة كتاب الكترونية؟ وقد تتصور بأن توزيع النسخة الالكترونية أيضا تحتاج لقوى عاملة، ولكن يبقى السؤال: كم عدد القوى العاملة التي ستحتاجها لتوزيع النسخة الالكترونية من الكتاب؟ وسنراجع هذا السؤال حينما نقارن بين شركة كوداك للتصوير الفوتوغرافي وشركة انستجرام الالكترونية.
ولننتقل عزيزي القارئ لنقطة أخري في حوارنا، تلاحظ بأنك حينما تكتب رسالة على شبكة الانترنت، وترسلها لشركة معينة، وتصل الرسالة للشركة المعنية، وتقوم سكرتيرة الشركة بطباعتها لتقدمها لمسئول الشركة. فتحتاج الطابعة ورق وحبر، كما تقوم الطابعة الطباعة على سطح الورق ببعد واحد. فلنتصور عزيزي القارئ بأن كانت هذه الطابعة "طابعة بثلاثية الأبعاد". تصور مثلا أنك أردت أن ترسل كرة بلاستيكية للشركة، وهناك طابعة بثلاثة أبعاد، فتقوم انت الكترونيا بتصميم ورسم الكرة بثلاثة ابعاد، وترسلها بالبريد الالكتروني للشركة، لتقوم سكرتيرة الشركة بطبع الكرة على مطبعة بثلاثة ابعاد، لتنتج كرة بلاستكية كاملة وتقدمها لمسئول الشركة.
وتعني "طباعة الثلاثة أبعاد" بأن تقوم الة الطباعة بطباعة عدة طبقات كروية متتالية من البلاستيك، ليتكون من هذه الطباعة مجسم بثلاثة أبعاد، بدل أن تتم الطباعة ببعد واحد من الحبر على طبقة ورق مسطحة واحدة. وهنا قد تستخدم بدل الحبر مواد صناعية مختلفة، وبعدة طبقات من الطباعة، ليتم صناعة مجسم كامل بطباعة الثلاثة أبعاد، وقد يكون هذا المجسم كرة، أو مفتاح، أو تلفون نقال. وفعلا تطورت صناعة الطباعة بالإبعاد الثلاث، وقد تكون الصين رائدة لهذه الصناعة المستقبلية. فلن تحتاج الصين مستقبلا ان تصنع الاشياء في الصين وترسلها، بل عليها ان تصنع المطابع ذي الثلاثة أبعاد وتبيعها على مختلف الدول، ويقوم خبراء الصناعة الصينيين بتصميم البضاعة الكترونيا، ثم يرسل هذا التصميم للبضاعة بالانترنت لشركات الطباعة ذات الثلاثة الابعاد، لتقوم هذه المطابع بإنتاج أي بضاعة صناعية تحتاجها أية دولة من المكيف والثلاجة، وحتى الكمبيوتر والسيارة، وربما الطائرة.
كما ستساعد صناعة الطباعة الثلاثة الابعاد على تطور صناعة النانوتكنولوجي، وهي صناعة التكنولوجية الميكروسكوبية الصغيرة جدا، وبذلك يمكن صناعة جهاز تنفس بحجم كرة دم الحمراء، وصناعة قلب صناعي وجهاز تنقية الكلية بحجم تلفون نقال صغير. فتصور عزيزي القارئ عدد الوظائف التي سيفقدها العالم حينما تتطور الطباعة ذو الابعاد الثلاث، لتتوقف الكثير من مصانع اليوم عن التصنيع، لتستبدل بمطابع ثلاثية الابعاد، والتي ستحتاج لعدد قليل جدا من العمالة لمراقبة سير العمل.
ولنرجع عزيزي القارئ لسؤالك الثاني كيف تحقق شركات التواصل الاجتماعي ارباح خيالية، نعم قد تربح من شركات الدعاية، ولكن في الحقيقة هناك سر اخر. فشركات التواصل الاجتماعي "تتجسس" عليك وتجمع المعلومات عنك من خلال تواصلاتك الاجتماعية، بدون معرفتك، لتبيع هذه المعلومات للشركات التجارية أو المؤسسات التجسسية، او توفر لشركات الكمبيوتر الكبيرة نمط سلوك وانطباعاتك لتستفيد منه في تطوير نمط تفكير الإنسان الالي ليقارب ذكاء الانسان. فمراقبة نمط سلوك الملايين من البشر على شبكات التواصل الاجتماعي، تنقل انماط السلوك المختلفة، لاجهزة كومبيوترات ضخمة لتطور نمط السلوك البشري وتفكيره في الانسان الالي.
وليسمح لي عزيزي القارئ الان بالبدء بمقدمة، كتاب جارون لينير، من يملك المستقبل، فقد وجدت أهمية هذه المقدمة لنتفهم الكتاب الذي نحن بصدد مناقشته. يبدأ جارون لينر مقدمة كتابه بالقول: "الغريب في هذا الكتاب هو أنك كقارئ وأنا كمؤلف، هو أننا ابطال الرواية المباشرين، وحوادث قراءته تجعلك بطل الرواية التي أسردها. فربما تكون قد اشتريت أو سرقت هذا الكتاب كنسخة مطبوعة، أو دفعت ثمن قراءته ككتاب الكتروني، أو قمت بقرصنة نسخة منه من الانترنت، ومهما تكن الحقيقة، فأنت تعيش بدقة البيئة التي يصورها هذا الكتاب. ولو دفعت ثمن هذا الكتاب فشكرا لك! فهذا الكتاب عصارة جهود الحياة التي أعيشها، وأرجو أن تكون قراءته مفيدة لك. وأمل هذا الكتاب أن يأتي اليوم الذي تكون فيه طرق كثيرة للتنمية الثراء كنتيجة جانبية للعيش حياة مبدعة ذكية لخدمة المواطن ومجتمعه."
ويستمر الكاتب في حواره مع القارئ فيقول: "فلو دفعت ثمن الكتاب لكي تقرأة، فهذه صفقة أحادية الجانب، حيث نقلت النقود لملكية شخص اخر. بينما لو حصلت عليه بالمجان، فلم تتم أي صفقة، ولم تتم متاجرة تضاف لقيمة الكتاب، وقد لا يعني ذلك بأنه لم يتم شيء. بل قد سجلت ضربة إيجابية أن تحدثت عن الكتاب على شبكات التواصل الاجتماعي، وقد نستفيد كلانا، ولكنها فائدة غير جديرة بالثقة، وقد تكون فاسدة وبائدة. فجعجعة الانتباه على شبكات التواصل الاجتماعي قد تتحول إلى ثروة كبيرة للقليل من الناس، فهناك قلة تستفيد دائما، وهم حافظو الحسابات الجديدة، شركات خدمات الكومبيوتر العملاقة، التي قد تشكل شخصيتك، وقد تتجسس عليك، لتتوقع تحركاتك المستقبلية، فتبيع نمط نشاطاتك الحياتية لشركات عديدة، لتحقق أكبر فرص ثراء سجل في التاريخ البشري، فتجمع جبال من النقود."
ويشرح الكاتب هدفه من تأليف الكتاب بقوله:"يعزز هذا الكتاب بديل ثالث،هو أن شبكة التواصل الاجتماعي يجب أن توفر صفقة متبادلة، بحيث أنك كمستخدم تستفيد عمليا، بزيادة ثراءك، كما أستفيد أنا كمقدم لهذه الخدمة التكنولوجية، لتزيد القيمة الاضافية لمستخدميها بدل أن تقلله. فحينما نجعل حياتنا أكثر كفاءة باستخدام تكنولوجية التواصل الاجتماعي سيؤدي ذلك لتنمية، لا لانكماش اقتصادي." ويعرض الكاتب مثلا للتحديات التي نواجهها في عالم تكنولوجية الاتصالات الجديد بعرض افلاس شركة "كوداك" للتصوير. فقد كانت هذه الشركة من أكبر شركات التصوير الفتوغرافي، وفي قمة شهرتها وظفت 140 ألف شخص، كما قدرت قيمتها بحوالي 28 مليارا من الدولارات، وهي التي اخترعت أول كاميرا الكترونية. وقد أفلست هذه الشركة اليوم، ليصبح الوجه الجديد شركة "انستاجرام"، التي بيعت في عام 2012 لشركة الفيسبوك بقيمة مليار دولار، بينما كان عدد موظفيها 13 موظفا. ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف