جماعات الاستفزاز والتنفير

بعد عدة أيام على حدوث إعصار تسونامي في شرق أسيا, وقبل نهاية عام 2004, ذهبت في مهمة صحفية إلى إقليم آتشيه الذي سكنت بؤرة الزلزال في مياهه, ففقدت عاصمة الإقليم 240 ألف إنسان من سكانها الأربعمائة ألف, خلال دقائق.المشهد الذي رأيته كان أبشع أي وصف, حطام لا تلوح له نهاية, أرض فضاء ممسوحة من البيوت والأشجار, تتراكم فوقها أخشاب داكنة وأحجار مفتتة, مقابر جماعية في كل مكان, وبحيرات مائية سوداء, خيام واطئة وضيقة, قماشها مهترئ, انحشر في داخلها بشر كثر ممن نجوا من الموت أما بالصدفة, أو ببراعتهم في تسلق أشجار جوز الهند النحيفة.هناك شاهدت بشرا ممصوصي الأجساد, وجوههم مصفرة, وعيونهم زائغة, يسكن الفزع في كيانهم, وقد بدوا وقتها أقرب شبها بالموت, بينما كانت ارتدادات الزلزال تطلق مزيدا من الرعب من وقت وآخر. رأيتهم وقت الصلوات يفترشون بقع الأرض الرخوة, ويؤدون الفرائض, يتوجهون بالدعاء إلى الله, في بساطة شديدة وبعيدا عن أي إدعاء, وحين تحدثت معهم, سمعتهم يرددون بين الجملة والجملة عبارات " الحمد لله" , وشكرا لله, واللهم ارحم موتانا.لماذا أتذكر هذا الآن؟ في الوقت الذي يزداد الحديث فيه عن تزايد أعداد من يتخلون ديانتهم في مصر خلال السنتين الأخيرتين, ربما لأن منطقة آتشيه الاندونيسية كانت هي أول بقعة وصل إليها الاسلام في جنوب شرق أسيا, حين جاء إليها تجار من العرب الحضارمة, تعاملوا مع أهلها بصدق وود وأخلاق سمحة, ومن آتشيه انطلقوا إلى بقية المناطق الأندونيسية, ثم من بعدها ذهبوا الى أماكن أخري في ماليزيا وجنوب الفلبين وغيرها, وخلال فترة وجيزة اعتنقت أعداد كبيرة من السكان الدين الاسلامي.الاسلام الذي انتشر في دول جنوب شرق أسيا ذات الغالبية الاسلامية كأندونيسيا وماليزيا, وفي جنوب القارة الافريقية بدولها الاسلامية العديدة, دون أن يرفع في أي مكان بهما سلاح, يثير الدهشة الآن, بينما نتابع ما يتردد عن خروج أعداد من الشباب من الملة, في هذا الوقت الذي يتزامن مع صعود تيارات اسلامية الى سدة السلطة في عدد من دول الشرق الاوسط, خصوصا تلك التي يطلق عليه دول الربيع العربي.هنا على وجه التحديد, تبدو قمة المأساة, الاسلاميون الذين ظلوا يوجهون سهام النقد للأنظمة السابقة متهمين إياها بعدم" تطبيق شرع الله", هم الذين يندفع في عهدهم البعض إلى الابتعاد عن الدين, وبدلا من أن يقدموا القدوة للشباب في بلداننا, وللآخرين في بقاع أخرى لا تعرف شعوبها عن الاسلام إلا ما ساهمت بعض الأقلام هناك في تقديمه بطرق قد غير محايدة في الغالب.لكن, إذا جاء هذا التشويه من الآخر, فالسؤال هنا هو, ما الذي فعله هؤلاء الذي إمتطوا السلطة في بلادنا عبر صهوة الدين؟ ماذا قدمت تلك الجماعات لايصال تعاليم الدين السمحة إلى من ظنوا الخير فيهم في بلادنا, وإلى من يتابعون تلك التجربة الجديدة من البلاد البعيدة؟ غير الوعيد والتهديد واستخدام أكثر مفردات اللغة غلظة؟ما هو الفارق بين عزف البعض في الغرب على " فزاعة " الإرهاب الاسلامي, وما يصدر عن تلك الجماعات التي لا تكف عن تقديم نفسها على أنها الأكثر تدينا, وانها جاءت لتعليم " المسلمين" الاسلام, وهداية الآخرين إلى الطريق القويم؟ألا تريد تلك الجماعات, أن تصدق أن ما فعلته حتى الآن سواء في الداخل أو الخارج, قد يسر الأمر تماما على كل من يتربصون بالاسلام؟ وإنها قدمت لهم خدمة كبرى حين انزلقت في لعبة الاستدراج, فانكشفت للناس ضحالة أفكارها وضيق أفق العديد من أتباعها, الذين تحولوا من دعاة مفترضين إلى استفزازين ومنفرين؟هذه هي النتيجة التي وصلت إليها الأمور في النهاية؟ فبعد سلسلة من الأخطاء القاتلة, وبعد ضخ الوعود السخية, جاء الحصاد خائبا وهزيلا, واندفعت الأكاذيب مع كل تصريح ممن كان البسطاء يتوسمون الصدق فيهم. وهكذا انكشفت كل الخبايا: استفزاز لكل القطاعات, وشهية شرهة للتمكن من كل مفاصل الدولة, وارتباك يؤدي إلى ارتكاب أخطاء فادحة, عند التعامل مع الملفات خصوصا تلك التي طال انتظار الناس لحسمها.ومن وقت الى آخر, لم يعد الناس يرون من رموز تلك الجماعات, غير ألفاظ خادشة, وسباب لا يليق, وسيوف مرفوعة, كأنها تخوض إحدى الغزوات, وفجر في الخصومة, وإبعاد للآخرين ونظرة متعالية تختلط فيها العجرفة بالعدوانية, فما الذي قدمته تلك الجماعات من سلوك يمكن أن يكون مختلفا عما عانى الناس في السابق منه؟ تصور المتفاءلون أن الخير سوف يتحقق على أيادي تلك الجماعات, عصر البعض الليمون, ودعا إلى إعطاء هؤلاء فرصة, ثم اكتشفوا أن ما تورطوا فيه, لم يكن سوى وجه آخر للعملة, نفس العملة التي أذاقتهم الويل, قمعا وذلا وفقدانا لأي أمل, رأوا ذات الوقائع, وعايشوا نفس التفاصيل, دون أن يكون هناك أي تغيير, سوى في ملامح الوجوه فقط, نفس الوعود ونفس النكوص, ونفس خيبة الأمل, ولا جديد في الأفق, يتوازى مع بهاء الموجة الأولى من ثورة يناير.أبعد ذلك, هناك من يسأل: لماذا جذبت معاملة المسلمين الحسنة, أعداد كبيرة من سكان جنوب شرق أسيا وجنوب القارة الافريقية لاعتناق الاسلام, بينما يدفع سلوك الجماعات السياسية المتمسحة بالدين الآن, البعض إلى ترك الملة؟؟