أصداء

"كردستان سوريا": هل خسر بارزاني الرهان؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

على الرغم من مشاركة الكرد السوريين البالغ تعدادهم أكثر من 3 ملايين نسمة (يشكلون أكثر من 13% من مجموع سكان سوريا) في الثورة السورية منذ الأول من حراكها السلمي، بإعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من الجغرافيا والتاريخ السوريين، فضلاً عن كونهم جزءاً من ثقافة واجتماع موزاييكها الإثني والعرقي واللغوي والديني، إلا أنّ "الشك والشك المضاد" كان ولايزال، هو سيد الموقف في العلاقة بينهم وبين شركائهم في المعارضة العربية، بكلّ تياراتها القومية والدينية والعلمانية والليبرالية. وهو الأمر الذي أدى بالنتيجة، إلى "هروب" المعارضة الكردية في سوريا إلى "ثورتها" الخاصة بها، ومجالسها الخاصة، وإئتلافاتها الخاصة، واستراتيجياتها الخاصة، فضلاً عن هروبها إلى جيشها الخاص، للدفاع، تالياً، عن وجودها الخاص.

في ظلّ عدم تقديم المعارضة العربية لمشروع سوريا واضحة، من شأنه أن يطمئن الأكراد على مستقبلهم، ويضمن لهم حقوقهم "القومية والثقافية والسياسية والإقتصادية"، اختار هؤلاء لأنفسهم أن يكون لهم وجودهم السوري الخاص، في ثورةٍ لم تعد خاصة بسوريا وحدها، فضلاً عن أنها فقدت نكهتها السورية التي عُرفت بها.

ففي الوقت الذي يتمسك الأكراد ب"حقهم الكامل"، بإعتبارهم القومية الثانية في البلاد، في حكم مناطقهم حكماً ذاتياً، من خلال إقامة إقليم خاص بهم (إقليم كردستان سوريا)، ضمن إطار سوريا واحدة موحدة أرضاً وشعباً، على غرار تجربة أخوانهم في الجنوب الكردستاني، نجد المعارضات العربية، كلّها بدون استثناء، لا تقف بالضد من هذه الرؤية الكردية فحسب، بل وتحاربها أيضاً. وهو الأمر الذي دفع ببعض أقطاب المعارضة السورية، عربياً، إلى "استكرادها" لأكراد(ها)، ووصفها لمطاليبهم ب"المغرورة" و"المستحيلة التحقيق"، ليس بعد الثورة فحسب وإنما ما بعد بعدها أيضاً.

في ظل حالة الشدّ والجذب بين أهل المعارضة السورية وأكراد(ها)، وعدم قدرة الطرفين في الوصول إلى مشروع سوريا قادمة للجميع، ترضي الجميع، اختار الأكراد لأنفسهم "الطريق الثالث" في الثورة، وهو الطريق الذي فرض عليهم سياسة النأي بالنفس عن الصراع المسلح الدائر بين النظام وجيشه من جهة، وبين المعارضة و"جيوشها" من جهة أخرى.

الأكراد، الذين كانوا ولا يزالون ضحيةً للجغرافيا والتاريخ في آن، باتوا يشكلّون بحكمهم وزنهم الديموغرافي في المنطقة (أكثر من أربعين مليون نسمة موزعين بين تركيا وإيران والعراق وسوريا) رقماً صعباً في المعادلة الإقليمية.

تحوّل الأزمة السورية من أزمة في داخل سوريا إلى أزمة أقليمية في دواخل جوارها، يعني أنّها أصبحت، قليلاً أو كثيراً، "أزمة كردية" أيضاً، ليس في سوريا وحدها، وإنما في العراق وتركيا وإيران أيضاً، في كونها دولاً تتقاسم الوطن الكردي المفتت كردستان، والذي طالما حمله الأكراد على أكتافهم من جبلٍ إلى جبل، ومن ثورةٍ إلى ثورة. فما ينسحب على تركيا وإيران والعراق، ك"متدخلين" في الشأن السوري أو "متسللين" إليه، سواء مع النظام ضد المعارضة أو بالعكس، يمكن سحبه على الأكراد أيضاً، كونهم جزء لا يتجزأ من الجغرافيا السياسية في المنطقة.

فالذي يبرر "تدخلّ" تركيا أو العراق أو إيران مثلاً في أزمة الداخل السوري، بإعتبارها أزمة "داخل" كلّ منها، يمكن أن يبرر "تدخل" أكراد الجهات الأخرى أيضاً في الأزمة ذاتها وسوريا ذاتها، بإعتبارها أزمة كردستانها، وأزمة "داخل حقيقي" لعشرات ملايينها، في الجهات الكردية الأربعة.

وما يفسّر تدخل "عراق بغداد"، في هذا الشأن، عربياً، هو ذاته الذي يمكن أن يفسّر تدخل "عراق هولير" في ذات الشأن، كردياً. والذي يفسّر تغلغل أنقرة إلى عمق الأزمة السورية، بإعتباره امتداداً ل"عمقها الإستراتيجي"، هو ذاته الذي يمكن أن يفسّر تغلغل "قنديل" تحت قيادة "العمال الكردستاني" في العمق ذاته، وفي وسوريا ذاتها.

إذن، ما يبرر امتداد وجود أيّ طرف في الصراع الدموي الدائر في سوريا منذ أكثر من سنتين ونيف، هو ذاته الذي يبرر امتداد وجود الأطراف المتنازعة الأخرى فيه: كلّ حسب عمقه واستراتيجيته..كلٌّ حسب حاجته وسياسته!

الأكراد، بغض النظر عن اختلافاتهم وتوجهاتهم الفكرية والحزبية، نجحوا حتى الآن في "تحييد" مناطقهم في الحرب الأهلية الدائرة في سوريا، عبر تأكيد سيطرتهم عليها والدفاع عنها من قبل "قوات حماية الشعب YPG"، الذراع العسكرية ل"حزب الإتحاد الديمقراطي PYD" المقرّب من "العمال الكردستاني، والذي يتخذ من سياسة "الدفاع عن النفس" استراتيجيةً له في كردستانه السورية. إلا أنّ ذلك لا يعني عدم وجود خلافات في البيت الكردي، سواء لجهة الموقف من العلاقة مع سوريا، والثورة والنظام وعربهما، أو لجهة العلاقة مع كردستان بجهاتها الأربعة وأكرادها ومرجعياتها.
أيّ أن توحدّ الأكراد ك"معارضةكردية" على مستوى موقفهم من "المعارضة العربية"، لا يعني أنهم موحدون على قلب رجلٍ واحد، واستراتيجيةٍ واحدة، وكردستان واحدة.

أما السبب الأساس لهذه الخلافات، فهو الخلاف الكردي على المرجعيات. فالكرد السوريون منقسمون فيما بينهم، قبل الثورة السورية كما بعدها، وهم موزعون على مرجعيّتين كرديتّين أو كردستانيّتين: "مرجعية أوجلانية"، يتبعها "حزب الإتحاد الديمقراطي" بجميع مؤسساته وأذرعه من "مجلس غربي كردستان" إلى "قوات حماية الشعب"، و"مرجعية بارزانية"، تتبعها غالبية أحزاب "المجلس الوطني الكردي"، الذي يضم 16 حزباً كردياً.

عليه، فإنّ الخلاف على "كردستان سوريا" هو خلاف بارزاني أوجلاني، بين هولير وقنديل بالدرجة الأساس، أكثر من أن يكون خلافاً كردياً سورياً في قامشلو أو كوباني أو عفرين.

مفتاح الإتفاق أو الإختلاف، الحرب أو السلام، في كردستان السورية، هو ليس بأيدي أكرادها، وإنما هو بأيدي آباء المرجعيَتين المتضادَتين: بارزاني في كردستان الجنوب، وأوجلان في كردستان الشمال.

على الرغم من المحاولات الكثيرة التي بذلها رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، لتثبيت أقدامه على الأرض في "الإقليم الكردي السوري"، بإعتباره امتداداً ل"إقليمه"، وذلك عبر دعمه لأكراد(ه) السوريين مادياً ومعنوياً ولوجستياً، سواء في السرّ أو في العلن، إلا أنّه فشل حتى الآن على الأرض، في تحقيق أيّ تقدم حقيقي في هذا المنحى.

فبدءاً من تأسيس "المجلس الوطني الكردي"، مروراً ب"الهيئة الكردية العليا"، و"اتفاقية هولير"، والإجتماعات الماراتونية المتواصلة، وانتهاءًاً ب"الإتحاد السياسي"، كلّ هذه المحاولات العلنية وسواها السرية، التي تمّت تحت الإشراف المباشر من بارزاني، باءت حتى الآن بالفشل، دون أن يتمكن هذا الأخير من بسط ولو بعض نفوذٍ في كردستان السورية. والسبب الأساس في هذا الفشل، يعود إلى تحكّم "أكراد أوجلان" المطلق بكلّ مقاليد الأمور على الأرض، في "كردستانهم الغربية"، بدءاً من حفظ الأمن وحماية المناطق الكردية من أي اعتداء وانتهاءاً بتسيير الشئون المدنية والإحتياجات اليومية للسكان.

فعلى الرغم من دخول "أكراد بارزاني" مع "أكراد أوجلان" في هيئة مشتركة (الهيئة الكردية العليا)، كان من المفترض بها أن تكون هي الحاكم الفعلي في المناطق الكردية وإدارة شئونها، إلا أنها تحوّلت إلى هيئة للديكور فقط، فيها من القول أكثر من الفعل، ومن الخارج أكثر من الداخل، ومن الظاهر والقشرة أكثر من الباطن والمضمون.
هذه الوحدة الشكلية لأكراد المرجعيتَين تحت سقف "هيئة" واحدة، لم تنجح حتى الآن، في إزالة الجدران الآيديولوجية بين الطرفين، مما يقوّض من فرص الشراكة الحقيقية بينهما، خصوصاً وأنّ كلّ طرف لا يزال يشكّ في نوايا الطرف الآخر.

بارزاني يحاول تكرار تجربة كردستان(ه) القائمة على "مبدأ الفيفتي فيفتي" في كردستان سوريا، أي تقسيم كعكة كردستان سوريا مناصفةً بين أكراد(ه) و"أكراد أوجلان"، كما تقول بنود "اتفاقية هولير"، وهذا يستحيل تحقيقه على الأرض، لأسباب كثيرة، لعلّ أهمها وجود هوّة كبيرة بين "كردستان بارزاني" (دولة العشيرة القائدة) و"كردستان أوجلان" (دولة الحزب القائد)، هذا ناهيك عمّا بين أكراد هذا وأكراد ذاك، من تاريخٍ وتاريخٍ مضاد، وثقافة وثقافة مضادة، وآيديولوجيا وآيديولوجيا مضادة، وسلاح وسلاحٍ مضاد، وثأر وثأر مضاد.

إذن، بالتوزازي مع "أزمة الثقة" التي تسود العلاقة بين "المعارضة العربية" وأكراد(ها) في سوريا، هناك "أزمة ثقة" أخرى، ربما ليست أقلّ حدةً من الأولى، تسود العلاقة المتوترة بين أكراد المرجعيَتين، البارزانية والأوجلانية.

في ظل انعدام الثقة بين الطرفين، باتت الأمور تتجه في الآونة الأخيرة نحو المزيد من التصعيد والتصعيد المضاد، خصوصاً بعد إقدام سلطات إقليم كردستان على إغلاق معبر سيمالكا إلى أجل غير مسمى، والذي يعتبر شريان الحياة بين كردستانَي سوريا والعراق.

إغلاق المعبر، إقتصادياً، يعني فرض عقوبات على الشعب الكردي في سوريا بالدرجة الأساس، أما سياسياً، فيعني معاقبة "أكراد أوجلان"، وإرغامهم على قبول شروط بارزاني، لتنفيذ بنود "اتفاقية هولير"، كما صرح مسؤولون بارزانيون أكثر من مرّة، وتقسيم السلطة والسياسة والمال والإقتصاد، بالتالي، بين المجلسين الكرديين، مناصفةً، وهو ما يرفضه "الأوجلانيون" الذين باتوا يشكلون الرقم الأصعب في المعادلة الكردية السورية، جملةً وتفصيلاً.

المتتبع لتفاصيل هذا الصراع المحتدم بين المرجعيتَين على كردستان السورية، الذي لا يخلو من الإتهام والإتهام المضاد، لا بل وحتى التخوين والتخوين المضاد، سيجد أنه صراعٌ فيه من الحزب والآيديولوجيا أكثر من الشعب، ومن القائد أكثر من الوطن، ومن الديكتاتورية أكثر من الحرية، ومن المصالح الضيقة للطرفين أكثر من المصلحة العليا للشعب الكردي، سواء في هذا الجزء، أو في أجزاء كردستان الأخرى.

تعطيل "المجلس الوطني الكردي" وانقسام أهله على أنفسهم بين مؤيدين ل"المرجعية الأوجلانية" ومؤيدين ل"المرجعية البارزانية"، وإغلاق المعبر وما تلاه من سقوط ل"مشروع الإتحاد السياسي الكردي"، الذي كتب حزب اليكيتي الكردي كواحد من أربعة أحزابه، قبل أيام شهادة موته، واختيار هذا الأخير السليمانية بدلاً من هولير مكاناً لإقامته، كلّ هذه المؤشرات إن دلّت على شيء فإنما تدلّ على أنّ الخيارات باتت تضيق أمام بارزاني وحزبه، الذي يذهب في كردستان سوريا من فشلٍ إلى فشل، ومن "سقوط" أكرادٍ له هنا، إلى سقوط آخرين هناك.

زد على ذلك أنّ الصراع على كردستان السورية، بقدر ما هو صراعٌ بين المرجعيتين "البارزانية" و"الأوجلانية"، كأكبر مرجعيتين لإستقطاب الكرد السوريين، هو صراعٌ موازٍ أيضاً بين حزب بارزاني وأحزاب إسلامية من جهة، وبين شريكه في السلطة حزب طالباني وأحزاب معارضة وعلى رأسها "حركة التغيير / كوران" بقيادة نوشيروان مصطفى من جهة أخرى، الأمر الذي يقلّص هامش المناورة لدى بارزاني في هذا الصراع، خصوصاً في ظلّ احتدام المعارك الكلامية بين الطرفين، في الأشهر الأخيرة، على أكثر من جبهة، بدءاً من "الدستور"، وانتهاءً بملفات "الفساد السياسي والمالي" في أعلى هرم السلطة، مروراً ب"الإتفاقية الإستراتيجية"، و"توزيع الثروات"، و"العقود النفطية"، و"حصر السلطة في العائلة البارزانية".

كلّ الوقائع والأرقام على الأرض، في كردستان السورية تقول أنّ "أكراد أوجلان" هم الذين يملكون الأرض ويحكمونها ويسيّرون أمور الناس وشئونهم، اقتصادياً، وسياسياً، وعسكرياً، بدون "أكراد بارزاني"، الذين لا حول لهم ولا قوة، سوى الإنتقال من مؤتمرٍ إلى مؤتمر، ومن عاصمةٍ إلى أخرى.

"المنطق السوري" الآن، بغض النظر عن كونه خطأً أو صحيحاً، يقول "قوّتك على الأرض هي سلاحك..ومن يملك السلاح يملك الأرض".

كردياً، لا سلاح على الأرض في كردستان السورية خارج سلاح ال"YPG".
عليه، في ظلّ رفض أهل "المرجعية الأوجلانية" القاطع دخول أية قطعة سلاح إلى المناطق الواقعة تحت سيطرتهم بدون إذنهم، واستعدادهم لمحو وتصفية أية قوة عسكرية كردية أو غير كردية، ترفض العمل تحت سقف "قوات حماية الشعب"، ليس أمام "أكراد بارزاني" سوى خيارين، أحلاهما مرٌّ:
الأول: الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع "أكراد أوجلان"، عبر تشكيل قوة عسكرية كردية مضادة، ما يعني دخول الأكراد في "حرب الإخوة"، ستكون مدمّرة للجميع، علماً أنّ كلّ الأطراف الكردية، تحذّر من الإنزلاق إلى هكذا سيناريو، خصوصاً وأنّ التاريخ القريب والبعيد للكرد، لا يزال شاهداً على حروب كردية كردية كارثية غير قليلة، وقعت في مختلف مراحله.
الثاني: الدخول معهم بإعتبارهم "أمر واقع" في "شراكة منقوصة" غير متكافئة، مثلهم مثل بعض أحزاب "المجلس الوطني الكردي" وعلى رأسهم حزب "الديمقراطي التقدمي"، إلى حين استقرار الأوضاع واستتباب الأمور في سوريا، والبدء في الإنتقال إلى "سوريا جديدة"، يكون صندوق الإنتخاب هو الحكم بين جميع الأطراف.

بين هذا الخيار وذاك، ثمةّ سؤالٌ أخير يبقى:
هل خسر بارزاني الرهان على أكراد(ه)؟

hoshengbroka@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف