فضاء الرأي

"جبل الزيتون" قصة الأيام الأخيرة للعثمانيين في سوريا ولبنان

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

تأتي مصداقية مؤلف كتاب (جيل الزيتون) فالح رفقي آتاي ( 1984 ـ 1971) في وصف الأيام الأخيرة للعثمانيين في فلسطين وسوريا ولبنان، لكونه شاهدا حيا على تلك الأيام، بحكم عمله في مقر الجيش الرابع تحت إمرة جمال باشا (1872 ـ 1922) القائد العام لجبهة فلسطين،الذي يعتبر إلى جانب أنور باشا (1881 ـ 1922 طاجيكستان)، وطلعت باشا (1874 ـ 1921 برلين) من مؤسسي حزب الاتحاد والترقي، الذي أسقط السلطان عبدالحميد الثاني من كرسي الخلافة.
المؤلف فالح رفقي آتاي، كاتب وصحفي وله مقالات متعددة في السياسة والسيرة وأدب الرحلات قبل تعينيه كضابط احتياط حيث سافر على أثره إلى سوريا وفلسطين،بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى حكم عليه بالإعدام لمواقفه المؤيدة لمصطفى كمال آتاتورك عند قيادته حركة التحرير الوطنية التركية ضد الخليفة والقوات الغازية لتركيا. وكان من بين الفريق الصحفي الذي تمكن من لقاء آتاتورك عند تحرير مدينة ازمير من الاحتلال اليوناني في 9 أيلول 1922، حيث تم اختياره نائبا للبرلمان التركي.
يقول فالح رفقي في كتابه المهم عن تلك الأيام:
أنا الآن في قمة (جبل الزيتون)، أتطلع صوب( بحيرة لوط)، و( جبال الكرك). في الطرف الآخر ثمة سواحل الضفة الفربية للبحر الأحمر حيث الحجاز واليمن. أدير رأسي فتواجهني (كنيسة القيامة)، هنا فلسطين، في الأسفل لبنان وسوريا، بالقرب منهما الصحاري الممتدة حتى خليج البصرة (الخليج العربي) ثمة مدن كثيرة تخفق فوقها جميعا رايتنا.
نقيم في بيت بالقدس،مثلما أن فلورانسا ليست لنا، فان القدس بعيدة عنا مثلها، فنحن نتجول في أسواقها كالسياح تماما.
كل طائفة وجماعة تمتلك جزءا من كنيسة القيامة، حيث تقوم بالخدمة في ذلك الجزء دون بقية أجزاء الكنيسة إلا أنها لا تمتلك مفاتحيها المودعة لدى شيخ مسلم. إن كل ما نقوم به لا يتجاوز ما يقوم به هذا الشيخ.. فالتجارة والثقافة والزراعة والصناعة يعود للعرب، ونحن لا نملك هنا إلا الدرك !.. حتى البيروقراطية هنا عربية خالصة أو نصف عربية في أحسن الأحوال، ولم أصادف إلا القليل من العرب المستتركين,

راحلون إلى عدم
آل العظم لهم توجهات قومية وهم أحفاد ( حسين كميك ـ كميك (عظم) في التركية) وهو من مدينة (قونية). أصول هذه العائلة الحلبية، تركية. ولأن الامتياز هو سمة للأقليات العثمانية، فقد أصبح العنصر التركي دون امتيازات.. لهذا فان الأقليات المسلمة تنتفع من عدم انتمائها للترك.
يأتي الرد عموما للرد على السؤال الذي سمعته في سوريا وفلسطين والحجاز:
ـ هل أنت تركي؟
كان الجواب عموما:
ـ معاذ الله!.
هذه الأراضي لم تستعمر، ولم يتم توطينها بالعنصر التركي:الامبراطوية العثمانية مثل حارس حقل أو زقاق يعمل مجانا.
فأجمل بقاع القدس للألمان، ,أكبر البنايات فيها تعود ملكيتها للروس، والبقية الباقية للإنكليز والفرنسيين. كل شيء هنا للآخرين.
عندما كان الجيش يتوجه للقتال كان الدروز المعروف عنهم كثافة اللحى، واليهود ذوو الشعور المضفرة، والعرب في فلسطين وسوريا يهتفون لجنودنا " هيا.. هيا أيها الشجعان !".
لم نكن نعتمد على حس واقعي وتأريخي. كنا ننقل معنا من حلب إلى البحر الأحمر، التقنية والرساميل.. لكن الذي حصل أن نرى الإعمار والزحام جنبا إلى جنب في حلب وبيروت والقدس التي كانت تبدو بعيدة عنا رغم قولنا: إن هذه المناطق تابعة لنا.. فسوريا لنا وكأنها بيتنا، ولبنان وكأنها حديقتنا.. لكننا رغم ذلك كنا مضطرين لتعلم العربية كي يفهمنا صاحب الفندق والمطعم وموظف البريد.
القطار المنطلق من دمشق يصل (المدينة) في ثلاثة أيام بلياليها. كان من المحال علينا التخلي عن(المدينة المنورة) فمن المحال تصور الامبراطوية العثمانية دون (المدينة).
في يوم وقفنا لتحية القطعات المتوجهة إلى (عدن) مشيا على الأقدام رغم وجود القطار. ثلاثة آلالاف من الشبان الشاحبين مروا من أمامنا منهكين، حيث كان يصدق عليهم قول الشاعر حامد (عبدالحق حامد 1852 ـ 1937):
ـ إلى أين تقصدون؟
ـ إلى عدم!

وثيقة فرنسية
أما جمال باشا (المعروف عربيا بالسفاح) الذي توجه لاستعادة مصر، فقد كان يتصرف خلال إقامته في القدس ودمشق وبيروت وحلب وكأنه قائد جيش محتل. وكانت الهتافات التي انطلقت خلف جنودنا عند محاولتهم عبور (بحيرة طبرية) على ظهور القِرب: عاش.. عاش.. عاش !
كانت الامبراطوية العثمانية بمثابة عملاق أسلم ثدييه للمستغلين من أبناء الأقليات القومية،حيث أصبحوا يرضعون منها الدم بدلا من الحليب.

عندما كان الجيش الرابع في سوريا،لم يتمرد دروز حوران ضده.. لماذا؟ لأنهم كانوا يعانون من الفرقة والانقسام، فالشيوخ لم يكونوا على مودة مع إخوانهم. كان ثمة شيء واحد يوحد شيوخ حوران: الضرائب !.. وخاصة ضريبة الأغنام !.. وعندما كان محصل الضرائب يغادر منطقتهم،كانوا يعودون إلى الشقاق وخلافاتهم اليومية. طوال فترة الحرب،لم نجمع الضرائب قط، بل أغرقنا (حوران) بالذهب والنياشين.
ليس من الخطأ القول بأن مشاعر الوعي القومي العربي الممتدة من حلب إلى عدن كانت تعني في جوهرها معاداة الترك وكراهيتهم. حيث كان الجميع يتوحدون في هذه الكراهية. ماعدا هذه فهم كانوا يعودون إلى خلافاتهم التي لا تنتهي.
كان من بين العرب من يحلم بتحقيق الخلافة العربية. أما المسيحيون فرغم عدائهم للترك إلا أنهم كانوا متفقين أن أفضل إدارة لهم هي الإدارة العثمانية حيث كانوا يخشون في حالة سقوطها أن يصبحوا هدفا للعرب المسلمين، كما أن أي إدارة أجنبية من الممكن أن تبادر لحرمانهم من مكاسبهم الاقتصادية والتجارية. خاصة وأن الأتراك لم يكونوا في المستوى الذي يستطيعون فيه منافسة المحليين في الأسواق.
وثمة وثيقة فرنسية تقول: "... حتى البطريرك الماروني يعلم أنه في حالة عودة الفرنسيين،فإنهم سيحرمونه من امتيازاته غير المشروعة.. فالبطريرك يرغب في الحماية الفرنسية، ولكن تحت الإدارة العثمانية.. ".
وكان البروتستانت يؤيدون الإنكليز، والأرثوذكس الروس. أما في فلسطين، فهناك ما يمكن وصفه بحكومة صهيونية سرية، فقد كان لليهود أعلامهم،وبريدهم الخاص، يضعون طوابعهم على رسائلهم ويرسلونها مع موظفين خاصين بهم.
لم يكن يهم رؤوساء القبائل والعشائر إلا القوة والمصلحة. لم يكن من المنطقي وضع الذهب في يد كل من يفتح كفه،لكننا ارتكبنا هذا الخطأ.

العثمانيون أقل معرفة بشؤون هذه القارة
كان العثمانيون أصحاب هذه القارة أقل معرفة بشؤون سوريا وفلسطين والحجاز قياسا إلى الروس والإنكليز والإيطاليين والفرنسيين. كنا في جولاتنا بعربة مدفع في كل مكان، نرى رأس الموظف المرتشي المقطوع والموضوع في إناء. وثمة ملاحظات سجلتها في دفتري الخاص حول كيفية حل قائد الجيش الرابع لبعض المشاكل في لبنان:
" تم تجهيز لبنان برمتها بأعلام كثيرة رسم فيها القمر والنجوم خطأ وارتدت فتيات لبنان فساتين حمراء مع جوارب بيضاء، مع عروض في الفروسية، وعروض أخرى بالكوفية والعقال، ورجال يلبسون السموكن والطرابيش التقليدية. كان جمال باشا الذي أعد وليمة لجميع الموجودين يلقي كلمته:
" سادتي المحترمون.. كانت لبنان بالنسبة لنا مشكلة أليمة، فأتيت لتخفيف معاناتها. أوعدكم أن لبنان ستكون عثمانية كمدينة قونية (مدينة في وسط منطقة الأناضول). لن تبقى الامتيازات الأجنبية على هذه الأرض.. "
هنا بدأ المسلمون والمسيحيون يتلون الآيات ويدعون لجمال باشا بالدعاء..
ثمة تقرير فرنسي يقول: " اللبنانيون لن يثوروا، لقد طلبوا منا السلاح في وقت ما، لكنهم قاموا ببيعه للبدو فيما بعد ".
لقد قمنا بحل عقدة بسيطة في لبنان المحصورة بين البحر وخطوط سكك الحديد. من أجل فلسطين لجأنا إلى التهجير، وفي سوريا إلى الإرهاب. لم يضح اليهود الذين كانوا ينتظرون في سواحل يافا (وعد بلفور). تمردت الحجاز،وصمتت سوريا.

الإعدامات
في الفصول الأخيرة للتأريخ العثماني في سوريا، سيكون الحديث عن ديوان الحرب العالي، وإعدام القوميين العرب. وقد ساهم هذا القرار بإعدام 40 من القوميين في كل من دمشق وبيروت،بينهم أعيان مثل عبد الحميد الزهراوي،ونواب مثل شفيق المؤيد، وصحفيون بارزون مثل عبدالغني العريسي، وشعراء مثل رفيق رزق سلوم. أغلبهم كانوا سياسيين ورجال مصالح وقسم منهم رجال مبدأ.
عقد في باريس مؤتمرا بعد أن أيقن الجميع خلال حرب البلقان بأن الإمبراطورية العثمانية ستتجزأ لا محالة. وقد شاع هذا الإحساس بعد حماس القوميين العرب المتجمعين في جمعية (اللامركزية العالية).
وقد قرر ديوان الحرب أن الذين سبق لهم الاعتقال ظلوا على علاقة مع الجمعية حتى بعد إعلان الحرب. البحث عن العدالة والقانون مسألة تخص الحقوقيين، إذا لماذا أصرت إدارة جمال باشا ؟ لقد رافق هذا السر جمال باشا حتى قبره بعد اغتياله في (تفليس).
الشيء المحزن ان الكثيرين كانوا يحبون جمال باشا، ومن سخريات القدر أن تكون نهايته على يد الأرمن الذين كان العشرات منهم يعملون لصالح البلاشفة.
كان جمال باشا يعتقد أنه سيستطيع مواجهة التيار القومي العربي باللجوء إلى العنف تارة، وتارة أخرى بالتوجه للإصلاح والاعمار إلا أنه لم يتسامح مع الذين استفادوا من نعم الدولة العثمانية، لكنهم رغم ذلك توجهوا لضرب وحدتها.
من الخطأ الاعتقاد أن استانبول لم تكن توافق جمال باشا في سياسته هذه. فقد كان كل من أنور باشا وطلعت باشا يريان أن خيانة الوطن لا يجب أن يبقى دون عقاب. وقد عمل أنور باشا على إنقاذ عبدالحميد الزهران، ومن جانبه على إطلاق سراح شريف المؤيد. كما كانت ثمة شخصيات سياسية عملت على إنقاذ آخرين.
من القوانين التي صدرت عن الديوان الحربي، تنفيذ حكم الإعدام مباشرة إذا كان ذلك في مصلحة الوطن، وذلك في خطوط التماس الغربية في الحرب. وقد استغل جمال باشا هذا القانون لعلمه أن انتقال ملف القضية إلى ديوان الحربية ستقلب الأمور رأسا على عقب على العكس مما يريده هو. فكان أن قام بإرسال برقية عاجلة إلى استانبول لحل المشكلة التي كانت تؤرقه حول إعدام سبعة شخصيات في دمشق والبقية في بيروت.
لو لم يتم اللجوء إلى هذا الأسلوب الإرهابي هل كانت سوريا تتمرد ؟ أليس تمرد الحجاز متأت من جراء هذا الإجراء.
إن العقلية التركية الآن عقلية متقدمة، ومن الصعب الإجابة على التساؤلات بالعقلية الحالية حول ما يخص القضية العربية. ولكن الشيء الواضح أن حزب الاتحاد والترقي لم يكن يرغب في إضاعة أي منطقة من الإمبراطورية العثمانية،لكن هذا الحزب تحول شيئا فشيئا إلى عدو لدود للألبان والأرمن والروم والعرب والتيارات القومية التي كانت تتطلع إلى الاستقلال.
لم يكن أحد من الذين تم اعتقالهم يعتقد من أنه سيقتل. فقد شاهدت مقابلة جمال باشا للزهراوي، فهو بسبب عضويته في مجلس الأعيان لم يتحمل الانتظار في القاعة معتبرا ذلك مسا بكرامته كنائب. كان رجلا وقورا وعنيدا،وقد استمر بالمشي حتى جلوسه على الكرسي الذي أشار إليه جمال باشا. عندما بدأ بتلاوة وثيقة عليه حول ما يتعلق بالحسابات والإنفاق، بدأ لونه يشحب،وطلب قدحا من الماء.. ثم قال:
ـ سامحوني..
كذلك فعل شفيق المؤيد،الذي أحضر إلى المقر في القدس. لكن سؤالا ظل يلح عليّ: ترى ما اللذة التي يستشعرها جمال باشا باستدعاء أشخاص قرر مسبقا إعدامهم. وهو يشاهد انهيارهم الواحد منهم تلو الآخر ؟!.. الذين تم إعدامهم في بيروت كانوا من القوميين الشباب. وقد توجهوا إلى المشانق بشجاعة وهم يرددون الأناشيد القومية.
أما قصة الإعدامات في دمشق فثمة قصتان طعنتاني في الصميم: وهي قصة شفيق المؤيد،الذي كانت له لحية طويلة بيضاء، فبعد أن قيد ضابط دركي سوري من يديه إلى الخلف،قام بقص لحيته بمقص كان يحمله في جيبه. مثل هذا الإجراء،مسح من ذهني كل سلبيات القضية العربية إن وجدت.
أما عمر الجزائري فقد صعد المشنقة بحالة هستيرية، فكان أن خاطبه أحدهم صارخا:
ـ اسكت.. اسكت وإلا ستكون مسؤولا عن كل ما تقوله !
وقد تم إعدامه وكل ملامح الذعر على وجهه.
أما المسيحي رفيق رزق سلوم فقد كان رجل مبدأ بكل معنى الكلمة،وقد توجه نحو الموت بوجه باسم. كان آخر من يتم تنفيذ الحكم به والذين سبقوه تحولوا إلى جثث هامدة. أما هو فعند حضوره إلى مكان التنفيذ ورأى مشنقة فارغة
،قال مبتسما:
ـ أعتقد أنها لي.
ثم وجه نظراته إلى جثة عبدالحميد الزهراوي وخاطبه محييا:
ـ سلاما يا أبا الحرية !
كما قام بتشجيع القسيس المرتعب من الخوف داعيا له للاعتراف الأخير. ولم ينس أن يودع أحد أصدقائه الأتراك كان زميلا له أيام دراسة الحقوق بكلية الحقوق في استانبول. وكان من بين الذين حضروا لمشاهدة عمليات تنفيذ الإعدام.
وثمة قصة أخرى ليوسف الهاني.
كان أنيقا، ثريا، منبسط الأسارير، يقضي الصيف في أوربا،والشتاء في بيروت. بقي في بيروت عند إعلان الحرب. لم يكن يوسف رغم نزعته القومية العروبية عدوا للترك، بل أصبح كذلك لأن كراهية الترك أصبحت موضة شائعة في تلك الفترة.
ثمة وثيقة فرنسية تقول: " المسيحيون في لبنان أصدقاء فرنسا، كما ان المسلمين فيها أصدقاء للإنكليز لكراهيتهم للمسيحيين.. ومعظم العرب يحبون فرنسا إلا أنهم رغم ذلك مرتبطين بألأرثوذوكس الروس لأسباب مذهبية. لماذا؟ لمجرد الارتباط براية تحقق لهم النفوذ أكثر من الراية العثمانية ".
في يوم ما ويوسف الهاني على مائدة القمار،اقترب منه أحدهم مقدما له ورقة طالبا منه أن يضع توقيعه عليها. وبعد توقيعه على تلك الورقة،يعلم إنها وثيقة لإعلان الاستقلال عن الدولة العثمانية فيعترض قائلا:
ـ رجاءا دعوني وشأني.. أنا رجل ثري، لي زوجة جميلة وأبناء، لا أهوى إلا اللعب والمسرات. التوقيع، توقيعي الذي وضعته على الورقة التي ألقيت على المائدة مع أوراق البوكر.
وكان صديقي المرحوم نورالدين ينقل لي في كل مرة أخباره:
ـ أحضر جميع ملابسه إلى السجن. لم أره يوما يرتدي ملابس غير مكوية ,,فهو يهتم بهندامه منذ الصباح، وفي كل مرة يراني فيها كان يقول لي:
ـ هل سأبقى ليلة أخرى هنا!
أحضر جميع ملابسه إلى السجن. لم أره يوما يرتدي ملابس غير مكوية ,,فهو يهتم بهندامه منذ الصباح، وفي كل مرة يراني فيها كان يقول لي:
ـ هل سأبقى ليلة أخرى هنا!
في يوم حينما كان جمال باشا يهبط سلم منزله اعترضته إمرأة ترتدي السواد. قدم الصبي الذي كان يرافقها باقة ورد القائد وهو يقول " اعف يا سيدي القائد عن أبي "!
وقد رأيت كيف اضطرب القائد وهو يحاول أن يخفي عينيه الدامعتين، ذلك لأن هذه السيدة التي ترتدي السواد سترى عند طريق عودتها جثة زوجها الحبيب في طريق عودتها إلى دارها وهي معلقة في إحدى زوايا ساحة بيروت.

أمسية لا تنسى
أطلت شمس النهار على الجثث المعلقة في المشانق. كنا في طريق العودة من القائد إلى الفندق،كان وجهه شاحبا ومتعبا لكنه في اليوم التالي بدأ مختلفا. يقال أسبوعان يكفيان لنسيان كل شيء في باريس، أما في الشرق فالمهم عدم الموت.
في دمشق كانت الاستعدادات لإقامة أمسية على شرف جمال باشا في السينما الكبيرة. وقد أعد الخطباء كلماتهم والشعراء قصائدهم وكلها تعبر عن امتنان العرب لتحريرها من شرور أبنائها الأشرار.
عندما اقترب الموعد ناداني جمال باشا قائلا:
ـ اذهب وشاهد القاعة والجمهور المحتشد لترى هل أنها تستحق زيارتي ؟
ذهبت، ورأيت جمهورا خليطا من الذي يرتدون الزي الشعبي أو الإفرنجي. كانوا يهتفون باسم الله ورسوله والسلطان (بادشاه).
منذ خروجنا قال لي الشيخ أسعد:
ـ ربما تبدو هذه الأمور مبالغة، ولكن هذا هو التقليد المتتبع عندنا.. يحكى أنه عند تعيين موظف من الأشراف في الشام، تجمع العامة والموظفون غي محطة القطار لاستقباله. وقبل أن يتوقف القطار تماما،بدأ شاعر بإلقاء قصيدة حماسية تبدأ بـ: يا وزيري !فصاح به أحدهم محذرا:
ـ صه يا هذا وانتظر قليلا ولنعرف من (الفرمان) الذي سيتلى هل هو وزير أم بك حتى تعرف رتبته.
أما جمال باشا فهو إضافة إلى موقعه كانت تروى عنه حكايات. يقولون في سوريا عن جمال باشا إذا حك أنفه عند المقابلة فهذا يعني انه يفكر بنفسه،أما إذا داعب لحيته فهذا دليل أنه يفكر بالعفو عن المتهم، أما إذا برم شاربه فيعني أن الموت فادم لا محالة.
كان من مظاهر ضعف جمال باشا الاهتمام بالمظاهر والتهم والشائعات كنا نقطن في حي الصالحية،وقرب الظهيرة كان جمال باشا يأتي إلى مقر القيادة حيث شيوخ سوريا ورجال الدين،وكان جمال باشا يجلس وسطهم،وهو يكر حبات مسبحته مثلهم. كان نائب الخليفة،وعليه يجب أن يكون كل إجراءاته وقراراته مطابقة للشريعة والسنة النبوية،حتى الذين كان يتم نفيهم إلى (خربوط)أو إلى ولايات أخرى كانوا ينفون وفق هذه السنن والشرائع،وكانوا يجدون تفسيرا دينيا لذلك.
ثمة حكاية قديمة تروى بأن الخطيب كان يشرح بالعربية كيفية ذبح الأضحية،حيث بدأ الألباني المسلم يستمع للخطيب باكيا. سأله زميله عن سبب بكائه،قال:ألا تسمع ما يقوله الخطيب ؟.. جلس جمال باشا مع مرافقيه في العربة الأولى منطلقا صوب الجامع الأموي كما هي عادته كل جمعة.
بعد اسبوع من الإعدام رأيت امرأتين في غرفة مرافق الباشا، قال لي مبتسما:
ـ إنهن نساء الذين أعدموا،يرغبن في نفيهن إلى استانبول بدلا من مدينة بورصة!

ضريح المسيح
مثلما لا يمكن شراء تمر الحجاز، لا يمكن شراء زيتون فلسطين إلا بالمال. كانت القدس بمثابة مسرح غربي تغير دينه. في داخل الكنيسة تتقاسم طوائف ومذاهب خدمة وكنس وغسل المساحة المخصصة لها, بحيث لا يمكن أن يخطو شخص آخر غير الأعتاب المخصصة لها, وغالب ما تحدث معارك دامية بين الأطراف بسبب التجاوزات، فمن بسبب تنظيف ومسح ضريح المسيح ( ضريح المهد) أو تغيير حبل الناقوس المقطوع، وقد ظل ذلك سببا للمشاحنات والنزاعات ليكون لطرف معين شرف الإصلاح أو التجديد. وكانت كنيسة (بيت لحم) على نفس الحالة،حين سألهم وزير الدفاع أنور باشا لدى زيارته للقدس: لماذا لم يتم تغيير الزجاج المكسور ؟.
كان الجواب ان الطوائف لم تتفق على الحصص التي يجب أن يساهم فيها كل جهة. . وأن كل نقاشاتهم حول الموضوع انتهى بعراك وصدام، الأمر الذي دعا الباشا إلى محاصرة الكنيسة بمفرزة من رجال الدرك، وبذلك تمكن من إصلاح زجاج النوافذ.

أهم يوم لكنيسة القيامة
قررنا نحن الشباب أن نرى هذا اليوم الفريد. في البداية قمنا بمعية الشيخ الذي يحتفظ بالمفاتيح بزيارة كنوز الكنيسة في مخزن كبير يحتوي على النفائس من الذهب والفضة والماس، ثم قادنا إلى (ألواج) مخصصة لرجال الدولة وسياسييها. وكان ممثلو الطوائف يحتلون أماكنهم يفرق بينهم حراس مدججين بالسلاح. وكان الجميع يحملون هياكلهم وشموعهم التي كانت تباع للمؤمنين بعد إشعالها بالنار المقدسة.
في المقدمة بطريرك الروم، وخلفه بطريرك الجماعات الأخرى، وكلهم يتقلدون أثوابهم وصلبانهم،في طواف حول الضريح.
قام اثنان من الروم بتفتيش البطريرك،والتأكد أن الشمعة الأساسية مشتعلة،حيث لا يحتاج الداخل إلى أن يحمل عود كبريت حتى باب المقبرة. كان صمت الموت مخيما على الجميع, = وقد قدم تاجر يمد سلة مليئة بالشمع إلى زميله. وفجأة قطعت النواقيس رنينها بالصمت، حيث اندفع البطريرك مرتبكا وهو يحمل الشمعة المشتعلة، بعد فتح قس رداءه ليسقط فيه تاج البطريرك الثمين.

مشكلة القدس
القدس مرادفة للمسيحية، رغم ذلك لم تكن في القدس أو فلسطين مشكلة اسمها ( مشكلة مسيحية)، فقد أوجدها أرثوذوكس بطرسبرغ و بروتستانت برلين و ملحدو باريس و كاثوليك روما. المشكلة المحلية في القدس، هي مشكلة العرب واليهود. حفنة من اليهود مقابل 600 ألف عربي.
وصلت القدس عن طريق يافا عدة مرات. ملكية الأحياء والبيوت الحديثة في فلسطين تعود لليهود. فاليهود الإنكليز يرتدون بدلات السموكن، واليهوديات الألمانيات يعدن من الحقول مرددات أغان شعبية. أما المسلمون فهم في خدمة هؤلاء السادة. العامل العربي الذي يعمل بأجور يومية هو الذي يجمع العنب واليهود يتناولون نبيذه.
النساء اللاتي يكشفن عن صدورهن،ويفح منهن شذى العطور،ينتظرن نهاية الحرب. ولغرض فهم عدم جدوى الدموع، تكفي زيارة (حائط المبكى)، لتروا أن بكاء مئات السنين، لم تؤثر سنتمترا واحدا على هذا الجدار ولفهم مدى قوة المال والاستعمار الصهيوني يكفي متابعة نزوح اليهود داخل المدينة، واتجاه العرب صوب الصحراء. خطبة بلفور أشد تأثيرا عليهم من كل مزامير داوود. القمح كان يأتي من سوريا. كانت فلسطين مستهلكة، وقد أجبرت موجات القحط والجوع إلى إرسال يهود فلسطين وإسكانهم في مناطق الإنتاج. هل كان هذا هو السبب الحقيقي أم كان يتم تهجير اليهود من فلسطين ؟.. بمجرد سماع هذا المشروع توحدت الدول الغربية المتصارعة بينها ضدنا. ففي عرفهم لا يجوز تهجير اليهود الذين قاموا بإنشاء الفنادق وحقول البرتقال الواسعة وإرغامهم للهجرة إلى حماه وحمص ودفعهم للإقامة في بيوت طينية.
لكن جمال باشا لم يكن قائدا غرا، فقد كان يعرف رؤوساء الحركة الصهيونية. استدعاهم مهددا:
ـ عليكم الخيار بين آمرين.. إما التهجير مثل الأرمن حيث ستتركون حقولكم ومزارعكم وتتجهون لإنتاج القمح !.. أو أحولكم إلى حراس تحرسون بيوتكم ومزارعكم.. وسوف أشنق كل من يمد يده إلى برتقالة !.. سأرسلكم بالقطار.. وستمنع عنكم الصحف غدا..
لم يكن اليهود سذجا، لذلك توجهوا إلى مكاتب البريد واستطاعوا إرسال برقيات حول الموضوع إلى الصحف الصادرة في لندن وباريس.. لإثارة الرأي العام الأوربي.
تم إخلاء يافا منهم،وتم نقلهم إلى حمص، ولم يمد العرب أيديهم إلى برتقالة واحدة في حقولهم. ويعود السبب الآخر للتهجير، بسبب تحول فلسطين إلى أهم وكر من أوكار التجسس.

في غزة
نعيش في غزة في الجبهة الفلسطينية. الإنكليز يحتلون الصحراء. كنا نعاني من قلة العدد. لم نكن نلك من الجنود ما يكفي مايغطي مساحات الخنادق. كانت الدبابات البريطانية تبدو وكأنها بمثابة هياكل حديدية تحترق في قيظ فلسطين.
كانت الجبهة تعاني من نقص في الماء، وكنا نوصل الوقود والخبز اليابس إلى قطعاتنا بصعوبة. أما الجيش البريطاني الذي أدار ظهره للصحراء، فقد كان يهنأ بالمياه من خلال الأنابيب التي قام بمدها إلى نهر النيل.
كانت أصوات القصف المدفعي تصل إلى غزة.. كانت أصوات اطلاقات المدافع تهز عرش الإمبراطورية العثمانية.

الذهب والحطب
عند إصدار الأوراق النقدية،جوبهنا بمشاكل كثيرة. لم يبع لنا تجار حوران القمح والأعشاب والجمال والخدمات الأخرى في سوريا إلا بالذهب طوال الحرب. حدث في يوم أن وقع حادث قطار كان يحمل 400 من الركاب. عند وصولنا كان ينتشر في مكان الحادث القتلى والجرحى، ولدى تفتيشنا في جيوبهم عثرنا من الأوراق النقدية ما يكفي لشراء تذكرة القطار، بينما بقية جيوبهم كانت مليئة بالذهب والفضة.
في يوم آخر كنا مجتمعين بشيوخ من الدروز في حوران، وقد تم تكريمهم بالنياشين، وتم من هم من الدرجة الثانية في الأهمية بعشر قطع ذهبية. لم يستطع الشيخ أسعد أن يمنع عينيه من التطلع إلى صوب الذين يستلمون القطع الذهبية، وأخيرا قال الشيخ وهو يشير إلى تلك القطع من الذهب:

أريد منها.
لقد تم إنفاق قسم من الخزينة العثمانية أثناء الحرب على شيوخ الصحراء. وأخيرا صدر قرار من جمال باشا بتساوي قيمة الذهب والأوراق النقدية مع تهديد بالنفي وعقوبات أشد لكل من يرفض هذا التعامل.
كانا قطارتنا تعمل بالحطب، وقد حدث ولمرات أن أشعلنا أشجار زيتون فلسطين كوقود للقطارات. ورغم موافقة السوريين على التعامل الجديد لتساوي قيمة الأوراق النقدية مع الذهب، إلا أن مقاولي تريد الحطب تخلوا عن إمدادنا بالحطب، إلى درجة أن خدمات سكك الحديد أصبحت على وشك التوقف، فاضطررنا إلى إصدار قرار يميز بين قيمة الذهب والأوراق النقدية، فكتبنا سعرين مختلفين للحطب، سعره بالذهب وآخر بالورقة النقدية.
لم يكن أحد يبز البدو في معرفة قيمة الذهب والأحجار الكريمة. كان الشيوخ في منطقة الحدود يحملون على صدورهم النياشين البريطانية والألمانية جنبا إلى جنب:كما كان البدو يقومون بسرقة الخيول من الجبهة البريطانية ليبعوها لنا، وعندما كانت الفرصة تحين لهم كانوا يقومون ببيع خيولنا إلى الإنكليز وهكذا دواليك.
كان آخر قطار اضطررنا للتخلي عنه بعد الهزيمة في محطة سورية، مليئة بالليرات المجيدية.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف