أصداء

هل يوجد إسلام واحد؟

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

إن الأغلبية العظمى من علماء الدين - كما ذكرت في مقالي السابق (هل أخطا السلف في نقل الرسالة المحمديّة؟) - قد أجمعت بوجود (إسلام) واحد لا يُتراجع عنه شبراً ولا تختلف فيه صنفا. هذا اسلام اهتدوا إليه أنفسه، ينشرونه بين البشر في حلقاتهم، يبلّغونه في كتبهم ويجهرون به في فتاويهم، فما أكثرها وما أكثرهم في هذا الزمان! بيد أن هذا الإسلام، الذي يستوثقون به، هو، بدون أدنى شك، عرضة للمناظرة والنقد والاحتجاج من كل النواحي، عقائديّة، فلسفيّة أم فقهية، الخ. كيف لا والواقع المؤلم أمام أعيننا: نراه في اختلاف الآراء وتشعب الاعتقادات وتكاثر الفتاوي وتضارب الأقوال من المحيط إلى الخليج والكل يزعم باستمساكه بعروة وثقى (مع أو بدون أداة التعريف). دعونا نأخذ، على سبيل المثال، بعض البلدان العربية، كمصر والسودان مثلا؛ تجدنا نعيش قضية النزاع والتنازع والاستنزاع القائم على السلطة الدينية والسلطان منذ أن تفتحت أعيننا على أبواب الدنيا وما تفتأ أن يضطرم لظاها سنة تلو الأخرى: وكما جاء حديث حسن الترابي قبيل أشهر - كقائد لحزب الإخوان المسلمين أو المؤتمر الشعبي - عن حزب المؤتمر الوطني الحاكم، الذي انفصل عنه لأسباب سياسية بحتة، لاذعا وممزقا شرّ ممزق، يقول: "لذلك أقام ولاة الأمر الحاكم مؤتمراً أسموه الحركة الإسلامية ليحتكروا تلك الصفة لأنفسهم وعزلوا أعلام الحركة المعهودين مكبوتين أو معتقلين، والسياسة والحكومة تظل محتكرة لحزب لهم هو المؤتمر الوطني ومعه سواد من عوام المنافقين والمستوزرين من قوى سياسية وآخرين يبتغون المنافع وليس الحال بالأحسن والأهدأ خارج حدود السودان؛ فشيوخ بعض البلدان المتأسلمة - ممن نصّبوا أنفسهم كحماة للدين الذي لا دين بعده أو غيره - يفتون في أمور شتى ينتقضها عليهم علماء الأزهر، لأنهم هم أيضا، قد استفردوا بعرش الدين ماثلين أمام الأمّة أجمع كمرجعية مطلقة في مسائل الإفتاء والاستنباط والاجتهاد قبل أولئك. أما حينما ننظر صوب غيرهما نجد عندئذ الحال ما تزال على ما هي؛ فأهل الزيتونة بتونس ينقمون على علماء القرويين بالمغرب ويستدركوا عنهم، وشيخ مسجد القدس ينتقد الشيخ القرضاوي شرّ انتقاد، ومن ثم تزداد رقعة الاضطراب باسم الدين والانفراد بصحيحه وخالصه، فتنتشر عدوى العداء إلى نطاق مجتمع المسلم البسيط، إذ نجد شيخ هذا المسجد يغتمّ لسماع فتاوي شيخ ذاك، رغم قرب الشقة الجغرافية والمذهبية بينهما، فهذا عرف عنه أنه من انصار السنّة والآخر ينجرّ إلى جماعة السلفيّة، ونار الضغينة لا تفتأ في التسرب من دار إلى دار ومن مجتمع إلى آخر والمسلمون على أشكالهم يقعوا! والعجيب في أمرهم أنهم يستندون لكتاب واحد: القرآن الكريم؛ من ثمّ يستشفون آراءهم من نفس أمهات الكتب (الصحيحين وغيرها)، ويرجعون إلى بطون نفس المرجعيات في التفاسير والفقه (تفسير الجلالين، الخ)، يرفعون راية العقيدة السليمة التي لا تشوبها شائبة، ويكفّرون الملل الأخرى انطلاقا من نفس المرجعيات السالف ذكرها، مدعين أنهم ينفردون بمعرفتها الكاملة والالتزام بنصوصها وقواعدها جُلّها دون غيرهم. بناءًا على هذه الظاهرة الإيديولوجية المختصة بالفكر الإسلامي عبر القرون والتي اتسمت وتتسم بها كل حقب الإسلام، يطرح الكاتب محمد أركون من جديد مشكلة الإسلام الصحيح المرتبط بالدين الحقّ (أنظر أركون: أين الفكر الإسلامي المعاصر). بعد هذا العرض عن حال الأمّة يطرح أركون أسئلة عده في هذا الشأن تجعلنا نتساءل: هل هناك من سبيل علميّ للتعرف على هذا الإسلام حتى تجتمع الأمّة وعلمائها عليه؟ مع استبعاد الفِرق الأخرى من شيعة وعلويين ودروز، إلخ. أهل يجب علينا - انطلاقا من هذا التباين الكبير بين الملل- أن نغير نظرتنا لديننا ونقرّ بضرورة التعددية العقائدية لأن مصدر الإسلام هو القرآن (الواحد)؟ فآي القرآن يشمل معان غزيرة ومادة دسمة انبثقت منها تأويلات وشروحات عدة وهي ما تزال ملهمة للباحث المتدبر مع تغير الزمان والمكان. يشيد أركون بحاجة الفكر الإسلامي المعاصر الماسّة إلى إدراك معنى (القطيعة المعرفيّة) لينتقل من مرحلة الإنتاج الأسطوري والاستهلاك المخيالي للمعاني إلى مرحلة الربط بين المعاني والتأريخية في كل ما يطرحه ويعالجه من أمور الدين، السياسة، الثقافة ومستجداتها. ذكرت في مقالي السابق اجتهادات الغزالي وابن رشد - اللذين استدل بها أركون في غير موقع - وتبنيهما للقياس والاستدلال والمقارنة والمعارضة والتحقيق والرد والرفض والحد الخ، كوسائل علمية مهمّة لاستخراج الحقيقة عبر العقل الناشط. على عكس التكرار والتقيّد الأعمى بما قاله السلف في كل صغيرة وكبيرة دون أن نستدرك عليهم ما خلصوا إليه من نتائج. يجب على الباحث العالم وكما يقول آي الذكر الحكيم (إنما يخشى الله من عباده العلماء) أن يرفض هذا التقليد الأعمى والالتزام المتعصب كما رفضه الغزالي. ينبغي علينا في هذه الألفية الثالثة أن نتبنى وظيفة الفلسفة والتحليل لتدبر المخلوقات كما يجب علينا أن نحكّم العقل ونوظّفه في عملية الإعمال وفي كل هذه الممارسات والمعالجات لكي نستدركها ونبلغها بعلمية كما يقول ابن رشد. فالأمر لا يتعلق بما قاله الرسول أكثر مما أنه يتصل اتصالا وثيقا بالمؤلفات التي سُطِّرت بعده وخضع فيها المؤلفون لمؤثرات شتّى، فكرية، ثقافية، لسانية، اجتماعيّة وسياسيّة في فترات تاريخية مختلفة مع تباين الأمم واختلاف المجتمعات الإسلامية واختلاف عاداتها وتقاليديها إذ أنها تنبسط على مساحة كبيرة من الكرة الأرضية. يتجلى هنا البعد بين القارئ المسلم المقلّد وبين المسلم الباحث المتحرر من المعارف الخاطئة كما أشار أركون في مداخلاته العديدة.إن بلادنا العربية تكتظ بفقهاء الدين السياسي (أو بسياسييّ الدين) وهؤلاء يهمهم قبل كل شيء أن يمتلك دينهم الذي انفردوا به مقالد السلطان ولجان المُهرة المسومة في كل اسباب الحياة السياسية، الأخلاقية، الاقتصادية وحتى التاريخية، وهم يرفضون تسليم مقالد الحكم التي يمتلكونها أو يقضوا دونها أو يملّكونها لآلهم، بل ويأبون النقاش والمفاوضة والمناظرة في أمورها، بيد أنها تَهُمّ شعوبهم أولا قبلهم هم. لا يرجعون إلى الحلول السلمية وإن رجعوا إليها مرغمين لم يفلحوا في استهدافها بما يرضي شعوبهم وأهلهم. وكم نسأم عندما نرى الشعوب تلهث للقمة الحرية عبر الحقب لكنها للأسف صارت بعيدة المنال! لم يغب عن الشعوب ما تراه ببلادها، لكن أنى لليل البهيم أن يتستر على هفوات السلاطين، لا في البحرين ولا في أفغانستان، ولا في بلاد مولد الإسلام ولا حتى في أبعد منها، ولا في مالي ولا نيجريا والقائمة طويلة بلا نهاية. فالسؤال الذي يطرح نفسه في نهاية المطاف: هل هناك اسلام واحد؟ أم أن لنا- كالمسيحيين - "إسلامات" عدّة؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف