قراءات في قراءات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
على اثر نشر موقعي إيلاف والأخبار لحواراتي الخيالية مع والدي المرحوم سليم البصون، نشر الكاتب العراقي المهاجر سعد سامي نادر سلسلة من القراءات لهذه الحوارات في الحوار المتمدن والأخبار وصوت العراق.
برأيي، أنها من الكتابات الأكثر ذكاءً التي قرأتها في السنين الأخيرة. كان تحليل سعد عميقاً وتمكن من تفسير أفكاري ولما وراء ما كتبتُه وبشكل جميل وموسّع. لقد استطاع أن ينقل للقارئ ذلك التكافل بين الحوارين - حوار مع والدي بمناسبة صدور كتابه "الجواهري بلسانه وبقلمي" وحوار هل كنا مكون يهودي أم جالية يهودية في العراق؟ وهذا ما طمحتُ إليه، فكانت قراءاته مكملة لحواراتي بصورة رائعة.
أمعنت في قراءاته الأربع وشعرت أننا توأمان. كل واحد منا يقرأ إفكار الآخر، كل واحد منا علماني، ليبرالي يكتب بأسلوبه. شعرت كأننا شخصية واحدة أصابها انفصام.
شخصيتي التي عبرتُ عنها في حواراتي، كونها هادئة متحفظة نوعاً ما، تزن ما تقول وكيف تنوه عن ما في باطنها. ربما مرت سنين على جروحي فالتأمت، وألمي فهدأ. لا أزال أريد أن لا يتنكر التاريخ لأخوّتي، وأن لا تستمر المأساة في عراقي وأن.. وأن.. لكني بعد هجرتي من العراق استقريت في موطن ثان (بريطانيا)، ثم في السنوات السبع عشرة الأخيرة اتخذت لي موطن ثالث (إسرائيل)، بدأت اشعر فيه "بالانتماء". كلٌ منهما تبناني وأعطاني حق المواطنة واكتساب الجنسية، والحصول على جواز سفر وممارسة كل الحقوق التي يكفلها أي نظام ديمقراطي... الغريب أن البلد الذي وُلدت وترعرعت فيه (العراق)، لفظني، سلبني حقي، اسقط عني الجنسية ولم يندم بمستواه الرسمي... حتى بعد ما رأى أبناءه الأخرين يدمروه .. قال الشاعر المرحوم الزهاوي:
طعنوك يا وطني المفدى في الصدر حتى كدت تردى
والطـاعنون بنـوك أن ت كسوتـهم لحمــاً وجـلدا
هل كـان قـلب عقيدهم حجـراً من الأحجار صلدا
وشخصية ثانية عبّر عنها سعد في قراءاته، شخصية متشائمة ساخطة تلقي العنان لغضبها وتصب نارها على كل من حطم أحلامها وأذاها كل هذه السنين. فجروحه ما زالت تنزف وألمه صار أعمق وأكثر قسوة. هو يصرخ الآن، لكن لا أحد يسمع. عراقه يُدّمر والمشعوذون يسرحون فيه. وسعد لازال هائماً لاجئاً في الشتات يبحث عن وطن، في موطنٍ هو لا زال غريباً فيه.. سخطه ينساب كنهر غاضب يريد أن ينظف مساره، ويكنس خراب السنين الذي أمامه. يريد أن ينظف ما رسّبه النظام الديكتاتوري من نفايات، والإسلام السياسي من ثقافات كريهة وسموم طائفية، غطت المشهد العراقي وقتلت كل ما بقى صالح في "دجلة الخير". لعل رشفة ماء منه، هو سرّ حبله السرّي الذي لم يقطع.. إلى الأبد، كتوأمه بالضبط !
يقول سعد "يقيناً أن أسباب سطوة أحزان مهجّر عصري لها مدلولات وقرائن قد تبررها. فما تركته ورائي هناك في وطن العبث، من متعلقات جميلة، حيّة من لحم ودم، علقت بروحي وأخلت بتوازني، وما زالت هناك تبعات أخرى، والتفاتات ذاكرة مشتتة مؤرقة، تستغرق وقت غربتي وتفكيري، ففي أحسن أحوال توقي للكتابة، أجد سردي يختلف تماما عن مجرد أن تسرد محاكماتك للتاريخ وتفضح عوراته وتمضي. وحتى جلد الذات فيما بيننا مُختلف تماما. فنحن مستغرقون وغارقون في عذاباته الآن. ربما نجلدها عن حماقات سابقة كنا قد شاركنا يوماً بشكل ما فيها، أو غفلنا عنها في نكد لهاثنا المضنى لعيشنا.. في حين أن خضر يتحدث بهدوء ودون غضب، عن عذابات ماضٍ حُسم أمرها وأمر تاريخها أيضاً. عذابات خضر، باتت تاريخ آخر جرى وودِع بهدوء.. مثل سوناتا لنستلوجيا حلم أبيه " كم كنتِ جميلة يا ليالي العذاب"
أقول لسعد نعم عذابات خضر وقومه "باتت تاريخ أخر جرى وودع بهدوء". فقط لأننا استطعنا أن نوفّق بين أن نذكر الماضي لكي لا ننساه وبين تطلعنا لمستقبل افضل لنا ولأولادنا. استطعنا رغم المأساة التي عشناها أن نتأقلم وان نمضي قدماً. استطعنا أن نتعاون مع من يشاركنا الوطن/ الموطن الذي نعيش فيه على الرغم من اختلاف جذورنا أو مفاهيمنا الدينية والسياسية. لا نلجأ للقتل لفرض مبادئنا أو مذاهبنا أو أحزابنا التي ننتمي إليها. هناك أخطاء ارتُكبت وربما أخطاء أخرى ستُرتكب ولكن كفة الميزان ترجح لصالح الصواب..
قد تلخّص كلمات الشاعر العراقي عدنان الصائغ تلك المقارنة الخائبة: "لنحمل قبورنَا وأطفالنَا.. لنحمل تأوهاتِنا وأحلامنَا ونمضي.. قبل أن يسرقَوها.. ويبيعوها لنا في الوطنِ: حقولاً من لافتاتٍ.. وفي المنافي: وطناً بالتقسيط.. هذه الأرضُ.. لمْ تعدْ تصلحُ لشيءٍ.. هذه الأرضُ.. كلما طفحتْ فيها مجاري الدمِ والنفطِ.. طفحَ الانتهازيون.."
عندما بدأت الكتابة، أردت من خلال الحوارات أن أثير نقاشاً بناءً، وعلى الرغم أن اكثر التعليقات كان، كالمعتاد، مهاترات طائفية لا صلة لها بالمقال نفسه، أو ضحلة، كان البعض منها جيد ومنها المميز كقراءات الأخ سعد.
بعد أن كتبت "هل كنا مكون يهودي أم جالية يهودية في العراق"، كنت أريد أن اعرف انتماءي الشخصي في ضوء إنني ولدت ونشأت في العراق كيهودي بعد أن هاجر معظم يهود العراق إلى إسرائيل. في ضوء الاضطهاد الجماعي الذي عانيناه هناك قبل هجرتي (وعمري 22 سنة) وفقداني الجنسية وحق المواطنة العراقية. بعدها قضيت فترة (24 سنة) من حياتي في إنكلترا، حصلت فيها على الجنسية البريطانية، ثم هاجرت إلى إسرائيل التي تحتضن كل يهودي يهاجر إليها وتعطيه حق المواطنة عند دخوله وتوفر له إمكانية الانتماء.
قلت في حواري السابق "لا أعرف ما هو الانتماء وما معنى الوطنية. أنا اعتقد أنها ربما مصطلحات بالية بمفهومها التقليدي في زمن العولمة وسهولة وسرعة الاتصالات. أنا أؤمن بمفاهيم إنسانية تتعدى الحدود السياسية والقومية والدينية والثقافية. الانتماء لي هو صورة مركبة تعتمد على الزمان والمكان. أين ولدت، أين نشأت، تاريخي، ديني، تراثي، لغاتي وكيف اعبر عن أفكاري ومشاعري، ثقافاتي، مجتمعي، عائلتي، سعادتي. إن كنت سعيد فهذا هو موطني ولا أقول وطني".
في عائلتي المصغرة، سنجد كل أطياف الانتماء والثقافات واللغات - فوالدتي التي قضت نصف حياتها في العراق، لا تذكر العراق ألّا بالخير. أما أختاي وهن اصغر مني ب 7-8 سنين، واحدة تعيش في إسرائيل ولديها القليل من الاهتمام بالعراق، والأخرى في إنكلترا وهي مهتمة بكل شيء يتعلق بالعراق. ولي ولد وبنت من زواجي الأول، ولدا في إنكلترا وهاجرا إلى إسرائيل بعد زواجهما. متدينون مسالمون يعيشون في عالمهم المغلق. أما زوجتي فهي علمانية ليبرالية عاشت كل حياتها في إسرائيل، لا تؤمن بالأديان، ولكنها تشعر بيهوديتها، بإسرائيليتها، بإنسانيتها. رزقنا أخيراً ببنت مراهقة ولدت في إسرائيل لا تعرف غير أقاربها: شبكات التواصل الاجتماعي، فيس بوك. تؤمن أن بعد إكمال خدمتها العسكرية ودراستها العليا ستستطيع الحصول على أي مركز تتوق إليه، لن يقف شيء أمام طموحاتها كإمراة ؟ أترون أي عالم ميسور نعيش فيه، فكيف نعرِّف الانتماء إذاً؟
أنا حين أنظر لما يحدث في العراق والعالم العربي، أعود لأؤكد: نحن يهود العراق كنا أوفر "حظاً" في أن نشق لأنفسنا ولأولادنا وأحفادنا مستقبلاً افضل. وأقولها بصورة أوسع: نحن يهود الدول العربية، وعلى الرغم من سقوط الكثير منا ضحايا الطريق، وفقدنا الكثير من تراثنا وثقافتنا، كنا أوفر حظاً من بقايا أبناء الشعوب العربية ذاتهم.
كيهودي عربي أو كعربي يهودي اصبح لدينا بيت هنا في إسرائيل (حيث يعيش فيه معظم اليهود المنحدرين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، أو بيت في بلد آخر في أوربا أو أمريكا. لدينا ملجأ، دولة، موطن أو وطن بكل المفاهيم المتعددة. لكن ليس المهم جيلنا، جيل المهاجرين، بل أجيال أولادنا وأحفادنا. هل هم يعيشون في الظلام أم في النور؟ هل هم افضل حالا من الذين بقوا في بلادهم العربية أو الإسلامية والذين يعانون من حالات التخلف في كل مجالات الحياة بالرغم أن ثروات بلادهم قد زادت أضعافاً.
مع احترامي للمثقفين ولمن يكتب عن حق / أو الأمل في / أو الخوف من عودة "اليهود العراقيين" إلى العراق، لا ادري عن ماذا يتكلمون. فأغلبية ممن لهم "جذور عراقية" هم الآن مواطنون إسرائيليون، كوّنوا حياتهم في إسرائيل. الجيل الذي وُلد في العراق وهائم في ذكراه، آخذٌ في التقلص عدداً يوم بعد يوم - خاصة أولئك الذين نزحوا قبل اكثر من ستين سنة (يهود التسقيط). هناك جيوب من الجاليات اليهودية "العراقية" في إنكلترا، الولايات المتحدة وكندا من مهاجري الستينات و السبعينات من القرن الماضي وكذلك يهود استقروا في إسرائيل في أوائل السبعينيات لكن تنطبق عليهم نفس المفاهيم.
أما أولاد وأحفاد المهاجرين فأقصى ما لديهم هو معرفة بجذور آبائهم وأجدادهم وربما البعض أخذ من ترسبات التراث الثقافي والعادات كالموسيقى والأغاني وراح يستخدمها في الأفراح والحفلات والمأكولات العراقية. أكثرهم تزاوجوا مع يهود منحدرين من كل بلاد العالم وانصهر الجميع في بوتقات جديدة. معظمهم لا يتكلم اللغة العربية وليس لهم علاقة بالثقافة العربية. لا احد منهم يفكر أو يريد العيش في عراق الأمس أو اليوم أو المستقبل. عودة يهود العراق هو مطلب أو شعار خال من إي أساس واقعي. هذه الهجرة الجماعية أصبحت تاريخ، بغض النظر عن أسبابها، لكن هل هناك من يتعظ ؟ - مكونات العراق الأخرى تستمر في التلاشي سنة بعد سنة ؟ وكما يقول المثل العراقي - الباب اللي يجيك منا الريح، سدّه واستريح. لقد اغلقنا الباب وارتحنا.
كل منا له عراقهُ الخاص ومشاعره اتجاهه: ( حنين، ألم، اهتمام، جذور أهلي، لا أريد أن اذكر، لا يعنيني، نارهم تأكل حطبهم، الغربان تنعق بارضها...) سأكتب يوما عن كل هذه المشاعر التي تنتاب اليهود من "جذور عراقية". ربما كل ما نأمل به هو الاعتذار عن الظلم الذي الحقه بنا حكام العراق والاعتراف بحقوقنا كحقوق إي مواطن منحدر من العراق.