كردستان، بارزاني و"الديمقراطية المؤجلة"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في جلسته الصاخبة الأخيرة، الأحد، التي شهدت لكمات وتراشقات بالزجاجات، حسمَ برلمان كردستان الجدل بين أهل المعارضة وأهل الموالاة، بشأن الإنتخابات الرئاسية، وذلك بمصادقته على تمديد فترة رئاسة رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني لعامين إثنين، والدورة البرلمانية الحالية حتى نوفمبر تشرين الثاني القادم، شرط إجراء الإنتخابات البرلمانية في موعدها المقرر في 21 سبتمبر أيلول المقبل. طبقاً لهذا القرار ستنتهي الولاية الثالثة لبارزاني في 19 أغسطس آب 2015.
من المعروف أنّ عملية "التمديد" ما كان لها أن تتمّ بدون موافقة حزب رئيس جمهورية العراق جلال طالباني، الذي كان قد انحاز في "معركة الدستور" الأخيرة إلى صف المعارضة. بغض النظر عن تصريحات قادة هذا الحزب المتضاربة بشأن موافقته على "التمديد" لبارزاني، إلا أنّ شبه المؤكد هو أنّ تحالفه مع المعارضة، كان الهدف الأساس منه إنقاذ "الإتفاقية الإستراتيجية" (21.01.06) الموقعة مع حزب بارزاني، وتفعيل دوره فيها ك"شريك فيفتي فيفتي"، خصوصاً بعد النكسة التي أصابته جرّاء انشقاق حركة التغيير (كوران) بقيادة نوشيروان مصطفى. فحزب بارزاني أكد على لسان قادته مراراً، على ضرورة "تعديل" هذه الإتفاقية لتتوافق مع الظروف الجديدة، ليأخذ كلّ حزب من الإمتيازات والمناصب السيادية ما يتناسب مع عدد المقاعد البرلمانية في الإنتخابات الأخيرة، التي حصد فيها حزب بارزاني 36 مقعداً من أصل 111 مقابل 21 مقعداً لحزب طالباني.
ما يعني أنّ حزب طالباني لعب في "المعارك" الأخيرة بين أهل الموالاة وأهل المعارضة، دور "بيضة قبان كردستان"، لإعادة توزانه في "الإتفاقية الإستراتيجية" كشريك "ندّ للند" مع حزب بارزاني، ونجح، على ما يبدو، إلى حدّ كبير، في تحقيق أهدافه، لإعادة الإتفاقية الموقعة بينهما إلى سابق عهدها: فيفتي فيفتي.
لكن حسم هذه المعارك وعلى رأسها "معركة الدستور"، مؤقتاً، عبر التمديد لبارزاني، في البرلمان لا يعني البتة حسمها في الشارع بين الفريقين، خصوصاً لو أخذنا بعين الإعتبار، صعود المعارضة الكردية خلال السنوات الأخيرة، في مواجهة السلطة التي طالما توصف على لسان معارضيها ب"الديكتاتورية". حسم بعض معركةٍ، إذن، تحت قبة البرلمان، لصالح الحزبين الحاكمين، لن يؤدي على الأرجح إلى حسمٍ مماثل في المعركة الكبرى، بين الفريقين المتخاصمين، تحت سماء كردستان، التي باتَ فيها لكلّ فريقٍ حجته، وجمهوره، و"شارعه"، و"دستوره"، و"ديمقراطيته".
بارزاني ربح الرئاسة، لسنتين قادمتين، لكنّ السؤال الأهم الذي يفرض نفسه، ههنا، هو:
هل سيربح شعب كردستان، في القادم من مستقبله ومستقبل حزبه وعائلته؟
في ظل ما تشهده المنطقة من احتقانات على أكثر من مستوى، وفورات، وثورات، وتغيرات دراماتيكية وأحداث متسارعة، من الصعب جداً، الجواب على هذا السؤال بالإيجاب.
لا شكّ أن لبارزاني رصيد وطني وقومي ونضالي مشرّف، على مستوى العراق بعامة، وكردستان بخاصة، إلا أنّ تبوأ الرجل مع دائرة ضيقة من أفراد عائلته وعشيرته، أعلى هرم السلطة في كردستان، لأكثر من عقدين ونيف من الزمن (عملياً منذ أول انتخابات جرت في يونيو حزيران عام 1992)، بات يثير الكثير من الشكوك والأسئلة لدى شعب كردستان، الذي يخشى من أن تتكرر في إقليمه تجربة دول "الربيع العربي"، سواء على مستوى السلطة، أو المعارضة.
بعد أكثر من عقدين ونيف من سيطرة الحزبين الكرديين الحاكمين، حزب بارزاني وحزب طالباني، على كلّ مقدرات كردستان، وامتيازاتها، وميزانيتها، وجيشها، ومخابراتها، ومعابرها الحدودية، ونفطها، خصوصاً بعد توقيعهما على "الإتفاق الإستراتيجي"، بات هناك خشية حقيقية، من جانب المعارضة الكردية التي تُمثل نصف كردستان في الأقل، من أن تسقط ديمقراطيتها الوليدة، في "حكم وراثي" تتناوب فيه العوائل التي تتبوأ أعلى هرم الحزبين.
تأجيل "دستور" كردستان، وتأجيل ديمقراطيتها، بالتالي، عبر تأجيل الإنتخابات الرئاسية لسنتين أخريين، في ظلّ ما يتمتع به الرئيس من صلاحيات واسعة شبه مطلقة، يعني أنّ كردستان ستشهد في القادم من سلطتها ومعارضتها الكثير من الشد والجذب، والمدّ والجزر، وربما الكثير من المعارك أيضاً، التي لن تبقى محصورةً في إطار الكلام والكلام المضاد أو البيانات والبيانات المضادة.
أما الخاسر الأكبر فيها، فسيكون، على الأرجح، بارزاني وحزبه، بالدرجة الأولى، وحزب طالباني بالدرجة الثانية، ليس بسبب صعود المعارضة فحسب، وإنما أيضاً بسبب إزدياد نقمة شعب كردستان على الحزبين، وفسادهما، على أكثر من صعيد، لا سيما على صعيد الفساد المالي.
التمديد لرئيس كردستان، خارج الدستور، يعني أن هذا الأخير تأجّل، والديمقراطية تأجلت، والسلطة تأجلّت، وشراكة الحزبين الحاكمين تأجلّت، وكردستان كلّها، من تحتها إلى فوقها تأجلّت.
كنت أتمنى على بارزاني، وهو إبن الزعيم التاريخي مصطفى بارزاني، ألاّ يؤجّل كردستان وأهلها، سنتين أخريين، وألاّ يربط مصيرها ومصير أهلها، بمصير كرسي الرئاسة المؤجلة، ودستورها المؤجل، وديمقراطيتها المؤجلة.
كنت أتمنى عليه، وهو "البيشمركه الرئيس"، طيلة عقودٍ من النضال في "كردستان الجبل"، أن يخطو خطو زعماء كبار من قبيل البرازيلي الأكبر، والذي وُصف في الصحافة الأميركية، في حينه، ب"الزعيم الأكثر تأثيراً في العالم"، لويس إيناسو لولا دا سيلفا.
كنت أتمنى عليه، أن يبقى لكردستان، زعيماً ورمزاً في تاريخها، لا رئيساً في حاضرها، تماماً مثلما فعل "الرئيس الفقير"، "ماسح الأحذية" في طفولته، لولا دا سيلفا الذي رفض تعديل دستور بلاده، قبيل انتهاء ولايته الثانية، وسط تأييد شعبي هائل لتعديل الدستور وتجديد ولايته وصل نسبته إلى 80% من الشعب البرازيلي، مؤكداً رفضه القاطع للترشح إلى ولاية ثالثة، لأنه، وهو المكافح ضد حكم العسكر، "يكره العسكريين الذين يجددون لأنفسهم ولا يريد ان يكرر ذلك حتى لو جاء بمطالبة شعبية"، على حدّ قوله.
كنت أتمنى على بارزاني، أن يبكي مثلما بكى لولا دا سيلفا، وهو يترك السلطة، لا حزناً عليها، وإنما حزناً على شعبه، لا حباً بالسلطة وكرسيها وإنما حبّاً بوطنه وشعبه.
بارزاني، بعد أكثر من عقدين ونيف من قيادة كردستان، الذي كان من الأحرى به أن ينتصر لتاريخه النضالي الطويل ك"بيشمركه رئيس" على حاضره ك"رئيس إقليم كردستان"، ربما يكسب الجولة مع المعارضة ك"رئيس" لسنتين قادمتين، لكن من الصعب عليه جداً، أن يكسبها مع كردستان ك"قائد"، أو "بيشمركه رئيس"، أو ك"بيشمركه" كما يصف نفسه على الدوام.
حزب بارزاني، قد يربح السلطة لسنتين قادمتين، لكنّ من الصعب عليه، أن يربح كردستان وشعبها، في القادم منهما.
بارزاني ربح نفسه ك"رئيس" لإقليم كردستان العراق، لكنّ أخشى ما أخشاه، هو أن تخسر "كردستان الكبرى" بارزاني ك"قائد" و"زعيم" وكأحد أكبر رموزها في التاريخ الكردي الحديث.