الإسلاميون والشارع في مفترق الطرق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تتواجد اليوم حركات الإسلام السياسي في البلدان التي عرفت ثورات الربيع الديمقراطي في محك تجريبي عسير مع شارع سياسي طموح وحذر في نفس الوقت , منحها فرصة العمر التي ما فتأت هذه التنظيمات تحلم بها منذ ستينيات القرن الماضي جوبهت خلالها بالقمع والسجن والاغتيالات السياسية. ولا شك أن تجربة حكم الإخوان المسلمون في مصر - وهي الملهمة الروحية والفكرية لباقي حركات الاسلام السياسي عالميا - ستؤثر بشكل جلي على باقي تجارب الحكومات الإسلامية التي أفرزتها صناديق الاقتراع في دول الربيع خصوصا بعد الأزمة السياسية الأخيرة.
تاريخيا , فعوامل نشأت الفكر السياسي لذى الحركات الاسلامية عربيا ارتبطت بشكل جوهري بماهية الخطاب الأخلاقي المرتكز على أدبيات النهضة الإسلامية الثانية والأيديولوجية الإصلاحية , ثم محاكاة هذا الخطاب مع تداعيات الرفض والقمع التي قوبلت بها من طرف الأنظمة العربية القومية أو الهجينة سواء في مصر والأردن وسوريا وتونس والجزائر والمغرب وليبيا واليمن. من جهة , فقد تمت إعادة إنتاج خطاب إسلامي جديد عبر عملية " الأسلمة " التي طالت الأيديولوجية أولا وذلك بإضفاء عامل الأخلاق على العمل السياسي ليصبح مرادفا للنظرية السياسية الغربية ولو ظاهريا على الأقل , ثم على المعرفة في محاولة لمجابهة الثوابت المعرفية للفكر الغربي المرتبطة بالعمل السياسي كالحرية والديمقراطية والفصل بين السلط وحقوق الانسان والتأسيس لبدائل نقية تحضر فيها نبرة النصوص التشريعية للنص القرآني. هذه العملية التجميلية للمصادر الغربية سياسيا ومعرفيا - والتي فشلت لضعف طرحها أكاديميا وتأسيسيا - ساهمت في الحقيقة في إنتاج خطاب تأليهي للذات فقط بسبب أخلاقيته مما سبب صراعا مريرا لإثباته وسط أيديولوجيات لا تقبل المزايدة عليها أخلاقيا ووسط أنظمة حكم استبدادية لا تقبل من يصادر شرعية حكمها وخصوصا بنبرة الدين.
هذه بالضبط هي أيديولوجية حركات الإسلام السياسي المحبوكة وغير المتوازنة وفي نفس الوقت لاقت شعبية واسعة وتأطير جماهيري ضخم , فكيف تم ذلك؟
ترجع هذه الشعبية إلى ثلاثة عوامل أساسية : بسبب أخلاقية الخطاب السياسي و تمايزه الاجتماعي الدعوي ثم تعاطف الشارع معها بسبب عمليات الإضطهاد والحصار المفروض عليها سياسيا. لقد طوّرت خطابا سياسيا جديدا يمزج بين أدبيات الممارسة السياسية التقليدية وبين أدبيات السياسة الإصلاحية المرتكزة على تخليق الحياة العامة وإصلاح المؤسسات ومحاربة الفساد. ولا شك أن هذا الخطاب - وإن لم يرقى إلى مستوى بنائي مؤسس على قواعد مبدئية رصينة - لاقى ترحيبا شعبيا واسعا ولكن بازدواجية مشروطة بعملية التوازن الأيديولوجي بين الحفاظ على القيم والموروث الديني وبين الانفتاح على القيم الكونية المشتركة. وهذه العملية التوازنية بين ماهو ذاتي وموضوعي, هي العملية التي سعت لتمثلها حركات الإسلام السياسي عبر عملية تطويع الموروثات الدينية مع شروط الحداثة ومستجدات العصر. لذلك تجنّبت تصدير خطاب راديكالي منذ البداية كتطبيق الشريعة الحدودية والدعوة لدول دينية محضة رغم عدم نفيها لإصدارات المراجع الروحية في مثل هذه المواضيع الحساسة ولكن بالمقابل انطلقت بخطاب تحسيني بمنطق الدعوة بالتي هي أحسن ومبدأ الوسطية ومنهج التدرج.
بهذه المرجعية وبهذه العلاقة التقابلية بين حركات الإسلام السياسي والشارع السياسي , اندمجت التنظيمات الإسلامية السياسية في عملية الثورة الربيعية الأخيرة وإن لم تكن من صنعها لأن الثورة بالمفهوم التحرري السلمي كما قدمها الشباب الثوري لم تكن من أدبيات وتصورات الإسلاميين ومع ذلك فقد شاركوا فيها بكثافة وتمكنوا من الوصول لسدة الحكم في مجمل دول الربيع.
إن الأجواء السياسية التي تمر منها دول الربيع الثورية جد حساسة وغير مستقرة تفرض شروط جد استثنائية للتغيير السياسي في المنطقة مما يستوجب على حركات الإسلام السياسي أن تستوعبها وتستجيب لها بمنطق العمل التوافقي مع باقي الفرقاء السياسيين لإنجاح مرحلة الانتقال الديمقراطي. غير أن تجربة الاخوان المسلمون في مصر أثبتت حجم الفقر السياسي التدبيري للجماعة سواء على مستوى تدبير الشأن الداخلي أو الخارجي. لقد أطرت النضرة الشوفينية التنظيمية جل تحركات الرئيس المصري المنتمي للجماعة الإخوانية ولم يستطع أن يمارس سلطة الرئيس المصري الذي يمثل كافة المصريين بأطيافهم الدينية وأحزابهم السياسية بل تماهت صورته كقائد ديني مع صورته كرئيس دولة. حتى ممثل الإخوان السياسي في البرلمان المصري " حزب الحرية والعدالة" تماهى مع قرابة الرئيس الأيديولوجية ولم يستطع أن يتحول لقوة اقتراحية ونقدية داعمة لطروحات الشارع الثورية بل ساهم قياديوها في تأجيج الشارع عبر الخرجات الإعلامية المتكررة في العديد من القضايا وإصدار أحكام راديكالية استغلتها المعارضة لنسف هذه التجربة.
الوتر الحساس الذي تلعب به المعارضة ضد مجمل حركات الإسلام السياسي ومنها جماعة الإخوان المسلمون هو وتر الدولة الدينية المنغلقة والمستبدة التي تقطع مع مكتسبات الدولة المدنية الديمقراطية. وهذا الإدعاء وإن تم تضخيمه بشكل مؤذلج من طرف الأطياف السياسية المعارضة للطرح الإسلامي , إلا أن بعضا من معالمه مازالت حركات الإسلام السياسي تمارسه كقضية الإنفراد بالسلطة وتحجيم دور الدولة وتقزيم حرية الأفراد كالحرية العقائدية وحرية التعبير. ربما هذا الإرتجال السياسي للإسلاميين يرجع لحالة عدم القدرة على فك الرهان مع الموروث وبالموازاة عدم القدرة على استيعاب الطروحات السياسية الحديثة. ولكن تبقى هذه المرحلة الاستثنائية سواء في تاريخ الحركات الاسلامية أو في تاريخ الشعوب الربيعية , فرصة تاريخية مهمة لإنضاج تجربة الانتقال الديمقراطي المشوبة بالعديد من الأشواك والألغام التي تعيق تجربة التدبير الإسلامي لها من جهة وتجربة الثورة الشبابية التحررية من جهة أخرى.
إن بناء ديمقراطيات ناشئة في دول الربيع الديمقراطي سيمر بطريق صعب هذا مؤكد ولكن وحدها قوة التحرك السلمي للشعوب وفرض حراك تحرري مستمر بكل مسؤولية يقارب إشكالات بناء دول حرة بمؤسسات ديمقراطية قوية سيضمن تراكم تجربة البناء المجتمعي الديمقراطي. هذا الخط سيفرض على الأيديولوجيات التقليدية الاستجابة لتطلعات الشباب التحررية وتغيير خطاباتها وسيفرض أيضا على حركات الإسلام السياسي ملائمة قناعاتها الفكرية مع مبادئ الحرية كما سوقها شباب الربيع الديمقراطي. أما سيناريوهات الاستحواذ على مكتسبات الثورة الشبابية سواء كانت من التيارات الاسلامية أو العسكرية فستؤدي لا محالة إلى حالة من الفوضى الاجتماعية التي ستفتح الأبواب أمام حروب أهلية مدمرة لا تليق بظروف المنطقة الصعبة سياسيا واقتصادية وبالتالي ستعطل عجلة الرخاء لمدة طويلة. أمام حالات الاحتقان الأيديولوجية بين الفرقاء السياسيين في دول الربيع في مرحلة الانتقال الديمقراطي هذه , ليس أمام هؤلاء إلا الحوار والتوافق الوطني مخرجا وحيدا لإنجاح بناء ديمقراطيات ناشئة.