أصداء

اشكالية شرعية ومشروعية العملية السياسية في العراق

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك



يسعى هذا البحث لمناقشة اشكالية الشرعية والمشروعية للعملية السياسية "المثيرة للجدل" في العراق، لتثبيت فيما اذا تحضى هذه العملية باساس قانوني سليم، يفضي عليها صفة الشرعية والمشروعية ام انها تفتقد لمثل ذلك الاساس. وقبل ان اناقش هذه الاشكالية ساتحدث اولا عن مفهومي الشرعية والمشروعية.

الشرعية هي الفيصل بين الدولة القانونية وغير القانونية، فالشرعية هي التي تضفي الصفة القانونية على سلطة الدولة لممارسة الحكم. وشرط الشرعية هو رضا الناس وقبولهم بسلطة الدولة. وهذا القبول يستند على توافق اديلوجية السلطة الحاكمة، مع ظروف الشعب وعاداته وتقاليدة ومعتقداته الدينية، واذا انحرفت السلطة عن هذه الاسس، ولم تراعي المثل العليا للمجتمع، تصبح عاجزة على ممارسة الحكم.

واما المشروعية فتعني ان تتقيد السلطة الحاكمة بنصوص الدستور والقانون، الذي يمثل ارادة الشعب، وبالتالي يحقق شرط الرضا العام الذي هو جوهر الشرعية. واذا خرجت السلطة في قراراتها عن الصلاحيات الممنوحة لها بموجب الدستور، تصبح قراراتها غير مشروعة وباطلة، حتى لو كانت السلطة الحاكمة شرعية. وهنا نلاحظ ان الشرعية والمشروعية احدهما يكمل الاخر، وهما قاعدتين اساسيتين لاي نظام سياسي من اجل ممارسة الحكم الرشيد...

في ضوء هذه التعاريف، هل تحظى العملية السياسية في العراق، برضى الشعب، لكي نضفي عليها صفة الشرعية؟ وهل تقيد قراراتها بنصوص الدستور والقانون السائد، لكي تحضى بصفة المشروعية؟

الاجابة الحاسمة على هذه الاسئلة، تستوجب تتبع جذور هذه العملية السياسية منذ بداية تكوينها في العام 2003. فهي وليدة حرب تشكل عدوانا وفق مباديء القانون الدولي، والعدوان جريمة مخلة بالسلم والامن الدوليين، بمقتضى التعريف القانوني للعدوان الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة.

فميثاق الأمم المتحدة يؤكد في العديد من مواده، بان الأحتلال العسكري لأراضي الغير بالقوة، وانتهاك سيادة الدول، والتي تعتبر قواعد آمرة من قواعد القانون الدولي، هو خروج على الشرعية الدولية.

اما المبررات التي قدمتها الولايات المتحدة، لتبرير جريمتها العدوانية على العراق، كامتلاك العراق لاسلحة الدمار الشامل، او علاقته بتنظيم القاعدة، او تحرير العراق من الدكتاتورية، كل هذه المبررات مرفوضة، لان المادة "5/1" من قرار الجمعية العامة للامم المتحدة الخاص بتعريف العدوان تنص على ان " ما من اعتبار أياً كانت طبيعته سواء كان سياسيا او اقتصاديا او عسكريا او غير ذلك يصلح ان يتخذ مبرراً لارتكاب العدوان".

وبناءً على هذه القواعد القانونية التي تجرم فعل العدوان الذي قامت به الولايات المتحدة ضد العراق، فأن كل الاجراءات الناجمة عن هذه الجريمة، كقانون ادارة الدولة العراقية الذي تشكلت بموجبه هيكلية العملية السياسية، والانتخابات والاستفتاء على الدستور، هي اجراءات غير مشروعة وباطلة، استنادا للقاعدة القانونية المعروفة " كل ما يبنى على الباطل فهو باطل ".

وقد اكد ذلك السيد كوفي عنان، الامين العام السابق للامم المتحدة، وكذلك مبعوثه الخاص الى العراق، الاخضر الابراهيمي، بان الحرب الامريكية البريطانية ضد العراق، كان خرقا وانتهاكا فاضحا لميثاق الامم المتحدة، وعمل غير شرعي.

ويجد بطلان الاجراءات الناجمة عن جريمة العدوان، اساسه القانوني في القانون الدولي الذي ترسخ بعد الحرب العالمية الثانية عندما رفض الحلفاء قبول الحكومات التي عينها الالمان في الدول التي احتلوها قبل الحرب، كحكومة فيشي التي نصبها الاحتلال الالماني النازي في فرنسا. واعترف الحلفاء انذاك بشرعية الحكومات التي كانت قائمة عشية الحرب، واعترف بحق الشعوب في مقاومة الاحتلال النازي.

وكذلك نجد بطلان الاجراءات الناجمة عن العدوان في حالة الغزو العراقي للكويت، حيث مُنع الغزو من ان يصبح واقعا تتأقلم معه الدول. واعيدت الحكومة الكويتية التي كانت قائمة عشية الغزو، وفرض على العراق تعويضات باهضة ما زال يدفعها العراق لحد الان بسبب الاضرار التي لحقت بالكويت نتيجة الغزو.

اما حالة العدوان الامريكي/البريطاني على العراق، فقد استمر العدوان واخذ يشكل صورة احتلال، تُجسد حالة الإقرار بالأمر الواقع، الذي فرضته الولايات المتحدة، وجيوب المصالح المرتبطة بها على العراق، من خلال قرار مجلس الامن رقم "1483".

وقد صور هذا القرار في وسائل الاعلام بانه "لاضفاء الشرعية" على الاحتلال والحكومة التي نصبها، في حين ان الشرعية لا تتحدد بما يصدر عن مجلس الامن من قرارت، بل تتحدد الشرعية بمدى توافق قرارات مجلس الامن مع قواعد واحكام القانون الدولي، فان كانت هذه القرارات متعارضة مع قواعد واحكام القانون الدولي كما هو الحال مع القرار "1483" وسلسلة القرارت التي جاءت بعده، فان هذه القرارت تكون غير شرعية وباطلة.

وهنا نلاحظ ان الشرعية الدولية في القضية العراقية، قد تعرضت للكثير من التشويه، وهذا التشويه سببه اولا الجهل او التجاهل للقانون الدولي، وثانيا ضعف الارادة الدولية، المتمثلة بالامم المتحدة امام طغيان وهيمنة القوى العظمى، وتسليم المنظمة الدولية برغبات هذه القوى واعتبار هذه الرغبات هي الشرعية الدولية.
من الثابت بان الهدف الاساسي من القرار "1483" هو تسليم الولايات المتحدة وبريطانيا، كدولتين محتلتين للعراق، سلطة مؤقتة لادارة شؤون العراق، في ضوء القانون الدولي وخصوصاً إتفاقية جنيف الرابعة التي تستوجب على سلطات الاحتلال، توفير الحاجات المادية للسكان، وضمان حقوقهم المدنية، ووقايتهم من اخطار الحرب لحين نقل السلطة إلى حكومة، يختارها المواطنين في ظروف امنية مستقرة.

الا ان الولايات المتحدة بدلا من ان تفي بهذه الالتزامات الدولية، التي يفرضها القانون الدولي على الدول المحتلة، ارتكبت انتهاكات خطيرة ومتكررة لهذه الالتزمات الدولية. فكانت ممارسة الحاكم المدني الامريكي بول بريمر الذي ادار الاحتلال لمدة عام، هي اخلال صريح بالالتزمات الدولية حيث "حل مؤسسات الدولة العراقية الحيوية" ودمر البنية التحتية لمؤسسات الدولة التي تقدم الخدمات العامة للمواطنيين. وكانت عواقب هذه السياسة وخيمة على الصعيد الانساني والثقافي. في حين ان قوانين الأمم المتحدة لا تبيح للدول المحتلة ان تغير البنية القانونية للبلدان التي تحتلها.

اضافة الى ذلك، قامت قوات الاحتلال باعتقالات جماعية وتعذيب في المعتقلات والسجون، وأباحت لقواتها بقصف الاحياء المدنية بشكل عشوائي، واستخدمت الاسلحة المحرمة دوليا كالقنابل العنقودية والاشعاعية، التي راح ضحيتها عشرات الالاف من المدنيين العزل، في انتهاك فاضح للقانون الدولي الانساني. واتفاقيات جنيف الرابعة التي تحمي المدنيين، والاتفاقيات الدولية حول الحقوق المدنية والسياسية. وان الولايات المتحدة احد الموقعين على هذه الاتفاقيات.

ان جميع هذه الجرائم مثبتة من قبل المنظمات الدولية، كمنظمة الصليب الاحمر، ومنظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الانسان. وجميع هذه الجرائم منصوص على عقوباتها بالمادة السادسة من نظام محكمة نورنبيرغ الدولية. والمادة "77" من النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية، تصنف مثل هذه الجرائم كجرائم إبادة جماعية، وجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية.

يتضح مما تقدم بان العملية السياسية والمؤسسات والقيادات التي افرزتها ابتداءا من مجلس الحكم الذي شكله بريمر، مرورا بحكومتي علاوي والجعفري المؤقتة والانتقالية وحتى حكومة المالكي التي تسمى حكومة " المنتخبة " كل هذه الحكومات التي تشكلت في ظل الاحتلال لا تستند على قاعدة قانونية او منطق شرعي، بل تستند على قاعدتي القوة والامر الواقع.

فوفقا لقوانين الحرب، ودليل الحرب الامريكي، ودليل الحرب البريطاني، فإن الحكومات التي نصبها الاحتلال في العراق، سواء قبل الانتخابات او بعدها، لآ تزيد عن كونها " حكومات دمية " وان الولايات المتحدة هي المسؤولة عن تصرفات هذه " الحكومات الدمية "، وتتحمل تبعاتها في حالة انتهاكها لقوانين الحرب والقانون الدولي الإنساني.

لان الانتحابات التي تجري في ظل الاحتلال، وفي ظروف امنية قاهرة، لا يمكن لها أن تنتج، الا نظاما سياسيا خاضعا للوصاية وناقص السيادة وموالي للاحتلال. والدليل على ذلك بان ما يسمى " بالحكومة المنتخبة " تحدد سنويا بقاء الاحتلال لحين تحقيق الامن، وهو امر يقرره الاحتلال دون ادنى شك.

وان الانتخابات التي تجري في ظل حالة التجزئة الطائفية والاثنية التي افرزتها العملية السياسية، ودون مصالحة وتوافق، فانها لن تؤدي الا لتكريس حالة الانقسام والتجزئة وتعميق الانقسام الطائفي والاثني، وهو ما يعاني منه العراق حاليا ويهدد وحدته الوطنية.

وقد قدمت الانتخابات لسلطات الاحتلال فائدة كبيرة، لانها جعلت قواته في حل من المسئولية القانونية التي تقع على عاتقها باعتبارها قوات احتلال، وفق المادة السادسة من اتفاقية جنيف. واصبحت هذه القوات تمارس القتل والتعذيب والتخريب دون خوف من المتابعة القانونية، باعتبارها ليست قوات احتلال، وإنما قوات حليفة تعمل بطلب رسمي وقانوني من حكومة منتخبة ذات سيادة!

وبذلك كان الهدف الجوهري من الانتخابات ليس إيجاد قيادة وطنية بشرعية انتخابية أو دمقرطة المجتمع، بل خلق حالة من التنافس والصراع على السلطة بين كتل العملية السياسية المتواطئة مع الاحتلال، والهاء الشعب في دوامة هذا الصراع، مما يبعد الشعب عن المواجهة الحقيقة مع الاحتلال وكتل العملية السياسية التي نصبها الاحتلال.

وحتى بعد سحب الولايات المتحدة جيشها النظامي بنهاية عام 2011، فانها ما تزال تسيطر على العراق، اما من قبل الاجهزة المرتبطة بها او من خلال ما تركته من عملية سياسية طائفية، تنفذ سياسة خبيثة تشكل تهديدا يوميا للسكان. لذلك ازدادت العمليات الارهابية بعد الانسحاب والتي راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى من المدنيين العراقيين الابرياء.

اما فيما يخص مشروعية العملية السياسية، ومدى تقيد سلطات العملية السياسية بقواعد واحكام الدستور، فان معظم تصرفاتها غير دستورية، على الرغم من ان الدستور اصلا متناقض في احكامه وغير شرعي كما اسلفنا.

ومن الامثلة الصارخة على تجاوز رئيس الوزراء نوري المالكي على دستوره المتناقض وغير الشرعي، ان الفقرة تاسعا من " المادة 61 " من الدستور لا تمنح رئيس الوزراء صلاحية اعلان حالة الطوارى او اعلان حالة الحرب. وجعلت هذا الاعلان من صلاحية مجلس النواب باغلبية الثلتين. الا ان رئيس الوزراء نوري المالكي لم يلتزم بهذه المادة الدستورية، وباعتباره القائد العام للقوات المسلحة ولانه رئيس حزب طائفي ولان العملية السياسية مبنية اصلا على المحاصصة الطائفية والاثنية مما مهد لرئيس الوزراء اجراء جميع التعينات في الجيش وقوى الامن الداخلي والفرق الخاصة من حزبه الطائفي، واخذ يحرك هذه القوات ضد مكونات المجتمع الاخرى لاثارة الفتنة الطائفية والعرقية والدينية، وادخل العراق في دوامة العنف الطائفي والاثني الى اجل غير مسمى.

وقد نفذت مؤخرا قواته الخاصة المعروفة " قوات سوات " مجزرة في مدينة الحويجة في كركوك. وان التكييف القانوني لهذه المجزرة فانها تعتبر من جرائم الابادة الجماعية حسب ما جاء في المادة "77" من النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية لسنة 1998، وان مرتكبي هذه الجريمة يعتبرون وفق هذه المادة "مجرمي حرب" مما يستوجب ملاحقتهم ومحاكمتهم وانزال اقص العقوبات بحقهم.

وهذه الجرائم لا تسقط بالتقادم. وان العراق، وان لم يصادقا على النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فأن ذلك لم يمنع من القاء القبض على مرتكبي هذه الجريمة البشعة، عندما يتواجدون في دولة طرف في النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية، او ممن تسمح دساتيرها بمحاكمتهم عن مثل هذه الجرائم، بغض النظر عن مكان ارتكابها، كما حصل لرئيس الوزراء الاسرائيلي "شارون " في بلجيكا عن جرائم صبرا وشاتيلا.

نستخلص مما تقدم، بان العملية السياسية واجهزتها وقياداتها تفتقد الى الشرعية والمشروعية معا. وان هذه العملية السياسية عند نسبة كبيرة من العراقيين هي مجرد واقع مفروض من قبل قوى خارجية لها طموحات غير مشروعة في العراق، ورغم محاولة رئيس الوزراء نوري المالكي اقناع الشعب العراقي بأنه أصبح رئيسًا للوزراء بأصوات الناخبين وليس من خلال قوى الاحتلال، الا انه لم ينجح في فرض وجوده الشرعي في نفوس افراد الشعب العراقي، لان الرضا عامل نفسي، وقيمة معنوية لا تترتب إلا بناءا على تفاعل إيجابي بين المواطنين والسلطة، وهو امر لا يمكن أن يتحقق، من خلال عملية سياسية، قامت عن طريق الغزو والعدوان، وتستمر بالقتل والاعتقال والتعذيب والاغتصاب والسرقة والفساد.

واختم هذه الورقة بقول " لاينشتاين " العالم المشهور الذي وضع النظرية النسبية الذي يقول : المشاكل الموجودة في عالم اليوم لا يمكن أن تحلها عقول خلقتها.
واستنادا لهذا القول: فان المشاكل الموجودة الان في العراق وعموم منطقة الشرق الاوسط، والتي اصبحت تهدد السلام والامن الدوليين، لا يمكن ان تحلها العقول التي خلقتها، وهي قوات الاحتلال وصنيعته العملية السياسية، بل من سيحلها الشعب العراقي العظيم بكل مكوناته واطيافه لانه وحده الذي يمثل "المصلحة العامة " لتحرير العراق من الاحتلال واثاره!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف